الله، الكون، الإنسان.. والنبوة

إن قراءة الوجود والأحداث قراءةً جيدة وتفسيرَها تفسيرًا صائبًا، وكذلك الحفاظ على الموازنة بين الإنسان والكون وحقيقةِ الألوهية، لهي من أهم جوانب الأعماق النبوية ومن أرقى مميزاتها.. فإن الإدراك العميق للوجود كـ”كلٍّ”، والفهمَ التام لتجلي الأشياء -التي بعضها نماذج للبعض الآخر- في صورتها العمومية، ولقوانين الوحدة التي هي ذاتُ صفةٍ كونية ومحيطةٌ بالموجودات… كلُّ ذلك إنما تَيسَّرَ للأنبياء وحدهم، وعلى رأسهم حضرة روح سيد الأنام -عليه أكمل التحايا- وهذا أبهر معجزاتهم قاطبة.
وإذ لا زالت البشرية تتهجى في أيامنا هذه حروفَ الحقائق المتعلقة بالإنسان والكائنات وما وراء الطبيعة مع توسعها العلمي وتقدمها التكنولوجي، فإن الأنبياء وقفوا مليا -وبجد- على هذه الحقائق منذ آلاف السنين، وقالوا بالتمام لأممهم ما ينبغي أن يقال في شأن الرجوع بالأشياء لصاحبها؛ فبعضهم أجمل وبعضهم فصَّل، وذلك بجَهازهم الخارق للعادة، ومكانتهم الخاصة عند الحق تعالى، والتبليغات المتوالية من “الماورائيات”.

ولم يبلُغ الأنبياء هذه الحقائقَ بطرق البحث العلمية الشائعة في العصر الحالي ولا بالمناهج التجريبية؛ بل بَلَغوا هذا العلم والمعرفة بفضل سعة قلوبهم وعلاقتهم الخاصة باللّٰه تعالى، إلى جانب كمال عقلهم وحسهم وشعورهم وإدراكهم، كمالاً يتعدى حدود التصور الإنساني؛ فرأوا أن الوجود كله في تصرفِ قدرةٍ قاهرةٍ، وأطلوا على وحدة العلم والإرادة المهيمنةِ في كل مكان وكل شيء، وقرؤوا وفسروا الشهود والمعالم والإشاراتِ المناديةَ بالواحد الأحد في سيماء كل الأشياء والأحداث. ثم أعلنوا أنهم دعاة التوحيد في المشاعر والفكر والاعتقاد.
ومن العسير أشد العسر، الادعاءُ بأن العلم قد أتى بشيء يُذْكَرُ حتى الآن في العلاقة بين حقيقة الإنسان والكائنات والألوهية؛ تلك الحقيقة التي أخبر بها الأنبياء منذ مئات القرون. فالعلم لا يزال يحبو في كثير من المواضيع، ويصحح غدًا ما يعدّه صوابًا اليومَ، ويسعى إلى تقويم الغلط المجزوم به بالخطأ المحتمل، بل يراجع نفسه بنفسه باستمرار، ويصون مسلَّماتِه النسبيةَ بفرضيات مختلفة، ولا يستطيع أن يتجاوز حدود تحليل الجزئيات مهما حاول ذلك. فنستطيع أن نقول: إن العلم لم يضع حتى اليوم حكما ثابتًا في هذه الموضوعات التي تطرّقنا إليها بحيث لم يضطر إلى تبديله لاحقا… فلم يوفَّق العلم في التعبير عن الحقيقة المطلقة البتة، وإن ما بلغه لا يزيد على أنه زادٌ وذخيرة للمسافرين وقرضٌ حَسَنٌ للباحثين.
وأنبّه هنا إلى أني لا أقصد بما قلته التهوينَ من شأن العلم وثمراته، أو الانتقاصَ من أهمية المباحث العلمية؛ بل نعتقد أن العلم وثمراته منظومةُ قيمٍ هامة جدًّا وتستحق التوقير والتقدير. فالمقصود هو التذكير إلى مصدر للعلم لا يُلتفت إليه اليوم، مع أنه أصح المصادر في التعبير عن حقيقة الإنسان والوجود والخلق، وأكملُها وأشملها، مع تنـزهه عن الخطأ في ما يقوله ويرشد إليه… ألا وهو مصدر “النبوة” التي احتفظت بنداوتها أبدًا، باستثناء التحريف الحاصل في بعض الكتب السابقة… إن العلوم المعاصرة اليوم قد تكتشف -من منظور كلي وبتقويم شمولي- أمورًا مهمة تتعلق بالنظام والانسجام والحركة في الوجود والحوادث، ونحن نستقبل ذلك بالتقدير والتوقير؛ لكنَّ جمعًا من المجهَّزين بجَهاز خاص، قد أعلنوا في أقدم العصور وبواكير الزمان -ولو بشكل إجمالي- هذه المعلوماتِ والتفسيرات التي توصَّل إليها العصرُ باستخدامِ أعظم التكنولوجيات. فإذا كان هناك قسم من الجهات العلمية لم يلتفتوا إليها أو لم يوقروها التوقير اللائق، فإننا نرفع عند ذاك أصواتنا -في حدود أدبنا- فوق أصواتهم، ونجهر بأعلى صوتنا بما نراه حقًّا.
فكم من حقيقةٍ أظهرها العلم الحديث، قد بلَّغها الأنبياء منذ القدم في صور متنوعة وإنْ في فذْلكات مجملة، بنظر كلّي، واستنادًا إلى لدنّياتهم الرحيبة المنفتحة للوحي وإلى أعماق الفطانة المتميزة. فأينما وقعت البحوث المنجَزة بالمختبرات الحديثة والتكنولوجيات المتقدمة من الحقائق التي أعلنوها وحيثما وقفت منها، فإن ملايين البشر لا زالوا يقوِّمون الأمور بموازينِ تبليغاتهم وتفسيراتهم، ويسيرون على خطاهم. وفي الطرف الآخر، فإن أحدث الفرضيات المطروحة باسم العلم والفلسفة، تتغير كل يوم بنظريات جديدة مختلفة. ويعني هذا أن رجال العلم الحاليين يناقشون زملاء أمْسهم ويضعون ما توصلوا إليه على المحك. وبدهي أن نظرياتٍ بدت ثابتةً ومتينة، تترك مواقعها إبان هذه المناقشة والمساءلة لتحل محلها آراء جديدة مختلفة، فتَرحل مُسلّماتٌ كانت تصان في حدقات العيون باسم العلم، متهاويةً واحدة بعد أخرى، لتحل محلها مسلماتٌ أخرى تحط واحدة بعد أخرى! أما الحقائق التي بلَّغها الأنبياء، فما فتئت تحتفظ بجدارتها -ما خلا تفسيراتٍ تعيسة لمنتسبين ضيِّقي الإدراك- باعتبارها أسسًا ثابتة لا زالت تُرجَع إليها أبدًا، وذلك بأنها تستند إلى تبليغاتٍ ورسالات أتت من لدن ذات أجلِّ الأجلاّء وأعظمِ العظماء -سبحانه- الذي نظم الوجودَ كله كمَشهر وكَتَبَه ككتاب وزيَّنَه كقصر منيف.
لذلك، لابد في الإدلاء بالمعلومات في حق الإنسان والوجود والخالقِ، من ترك المجال لهؤلاء المجهَّزين بجهاز خاص (عليهم أفضل الصلاة والتسليمات)، والمرتبطين بروابط خاصة مع صاحب القدرة المطلقة، كما أنه ينبغي أن لا يقوم غيرهم بإبداء البيانات حول ماهيةِ ومعنَى ما وراء ستار الوجود وما أمامه.
وبدهي أن من أهم وظائف هؤلاء تعيينَ وتثبيتَ المناسبات والتوافقِ والانسجام بين الكائنات والأحداث وبين حياة الإنسان وسلوكياته، وكذلك، إثبات الذات الأحدية ذي القوة، القيومِ على هذا التوافق المنسجم، وتعيينَ مسؤوليات الإنسان تجاهه. فإنهم هم الذين استطاعوا أن يجيبوا -على أصدق وجه وبأسلوب مقْنع- على الأسئلة حول الوجود وبخاصة الإنسان: من أين جاء، وإلى أين راح ويروح، ولِـمَ جاء ولِمَ راح؟

ولذلك، لا مناص لنا من اللجوء إلى تبليغات رسل الحق تعالى وحدهم لا غيرهم، لبيان أصح المعلومات وأصوبِها في قضية الغاية والحكمةِ من وجودنا في الأرض، وقواعدِ المسير التي ينبغي أن نلتزم بها في الطريق ومنتهى هذا الطريق. فإذا استطعنا ذلك فسنفهم -تماما- القصدَ والغاية من حركة الكائنات في دائرتها الوسيعة الرحيبة، وسندرك جيدًا ما وراء ستار الوجود وما ينطوي عليه، والمجيءَ والرواح المتعاقبَين في الأرض والمذهلَين للعقول، فنَصِلُ إلى الاطمئنان والراحة والسلامة في المشاعر والأفكار… اطمئنانٍ وراحةٍ وسلامة نابعة من العلم والتقويم لظاهر الوجود وباطنه، ولما أمامه ووراءه، ومِن إدراكِ موقعنا ومكانتنا على الأرض باعتبارنا جزءًا مهمًّا من الكائنات، حتى نتوافق مع الانسجام العام السائد في الأشياء والحوادث، ومِن توجهِنا إلى الذات العلية الذي أَعد الأسبابَ والوسائل لسعادتنا الدنيوية والأخروية، ومن اعتصامِنا به، ومن إيماننا بتحقق رغبات الأبدية التي تحِنُّ إليها جوانحنا، وبالتالي توقينا الدائم من الانكسار والخذلان.
إن سبل اكتساب العلم ووسائلَه الموهوبةَ للإنسان معينة ومنحصرة. وجليٌّ أن العلوم المكتسبة بهذه الوسائل المحدودةِ، محصورةٌ بطبعها وستبقى محصورة. وأرى أننا سنعجز بهذا القدر من العلوم والمعارف عن فهم الانسجام العام وجوهر النظام الموزون السائد في الأرض، بَلْهَ العجز عن إدراك غاية خلقنا وحكمةِ وجودنا في الدنيا وأصلِ النكتة في مناسباتنا مع الكائنات. والحالُ أن الإنسان يحمل على أكتافه مسؤوليةَ تنظيمِ حياته وفاقًا لسنن “نظام الكون” المهيمنةِ على الوجود كله، وطبقا لغاياتٍ عُلْويةٍ بموجب موقعه بين الخلق، كما هو مُلزَم بتنظيم حياته وفقًا لما يقتضيه موقعه ومكانته في الوجود. فما لم يُسلِّمْ هذا الإنسانُ زمامَ أمره إلى دليلٍ هادٍ، عارفٍ بيوم هذا السفر المجهول وغدِه، وبمقدمته ومؤخرته، فإنه سيقع لا محالة في أخطاء كثيرة وضنك شديد في مسيرة حياته في طريق الصعود والهبوط والمنعطفات والمتاهات ذاتِ مجاهيلَ وأهوال كثيرة، بل قد لا يبلغ -البتة- الغايةَ المقصودة من خلقه.
فنحن الذين نعجز عن التنبؤ الجازم بما يلاقينا من الفجاءات المحتملة إبان سيرنا في طريق الحياة، ستخور قوانا وتنقطع بنا السبل، ولا ننجو من التيه والضلال، وسنغلط في قراءة كتاب الوجود، ولا نطَّلع على معرض الكائنات بنظر يرجع بالبركة، ولن نفهم معنَى قَصْرِ الدنيا المنيف وفحواه وأسرارَ بواطنه، ما لم نطع المرشدين والرسل الذين أرسلهم خالقنا الرحمن الرحيم الذي جاء بنا من “عوالم أخرى” ليحط بنا هنا في هذا العالم، ثم يسوقَنا من هنا إلى ديار أخرى. بل زد عليه أننا سنُنيط الأشياء والأحداث -وكل منها من خوارق القدرة- وتظاهراتِ الحوادث وتحولاتِـها المختلفة بقوانين الطبيعة، فتتراءى لنا عندئذٍ تلك الخوارقُ البديعة أمورًا عادية ويَدْلَـهِمُّ الظلام في آفاقنا.
إن رسل الحق الهداةَ، والمحظوظين المقتدِين بهم، هم الذين قرؤوا الوجود والحوادث قراءة صحيحة دومًا، وسبروا أغوار الجوهر مخترقين الشكلَ والصورةَ، ونَفَذوا إلى لب الأشياء وشاهَدوا المعنى في المادة، فاطَّلعوا على بواطنِ كلِّ شيء مع ظواهرها. وبتعبير آخر: إنهم -في تفسيرهم للوجود- ركزوا على المحتوى باستمرار، واستلهموا إشاراتٍ من أشعة التجليات المختلفةِ الموجاتِ والتي تُبدي المؤثِّرَ في كل أثر. ولأنهم مضوا في سبيل سياحتهم وتفكرِهم الروحي مشدودين إلى الخالق الجليل، فقد طوروا أجزاء العلم التي حصلوا عليها، فحوَّلوها إلى المعرفة الإلهية، وخاضوا في مناسباتٍ وروابطَ قلبية قوية مع المعروف -سبحانه- وفاقًا لأفق العرفان الذي بَلَغوه، فبلغوا “أُنسا” وافيا بكل شيء في أجواءٍ كالجِنان، فتوجهوا إليه تعالى وهم في شبوبِ مشاعرَ كأنهم تحت شلَّالِ محبةٍ عميقة وذوقٍ روحانيٍّ، في كل آن ولحظة.
فالسعداء هؤلاء، لهم نظر خاص إلى الوجود وما وراء الوجود؛ فهم يطَّلعون على كل شيء بأنوار البصيرة، ويقوِّمون الأشياء والأحداث في الدائرة التي وضَعَتْها فيها قدرة الخالق تعالى، ويتناولون كل شيء بحقيقته في نفس الأمر (بحقيقة جوهره)، وإذ يفسرون الوجود بفهم شموليٍّ ينتظم كلَّه وجزءَه، يعتنون بتوازنِ كل الأشياء فيما بينها وتناسُبِها، وبروابطها بالخالق تعالى، فلا يقعون أبدًا في تناقض داخلي. ولذلك، هؤلاء وحدهم أفلحوا مدى الدهر في النظر الصائب والفكر الصائب والتعبير الصائب، بشأن حقيقة الإنسان والكائنات والألوهية؛ فهم وحدهم استطاعوا أن يبينوا التوحيد بجميع ضرورياته ولوازمه، وهم وحدهم استطاعوا أن يبينوا الموازنات السليمة بين الأسماء الإلهية والصفات السبحانية والشؤونات الذاتية مع الذات الإلهية… وكذا هم وحدهم عبروا تعبيرًا صائبًا عن خصوصياتِ دائرةِ الألوهية ودائرة الربوبية باعتبارها تجلياتٍ مختلفةً لنبع واحد.

ولولا أَنْ تجلت الإرادة الإلهية بالإحسان في إرسال الرسل، لعجزتْ أخصبُ الأدمغة -على توالي العصور والدهور ومع أعظم الهمة والجهد- عن تحصيل مثل هذه الحقائق قطعًا وبتاتا، بل عجزُها ظاهر للعيان بواقع الحال! وإني لا أجزم منذ الآن، بما قد يطرأ من التغيرات على التفسيرات الحالية للجهات العلمية جراء التوسع في وجهات النظر، نتيجةً للتطورات العلمية في المستقبل، لكن الظاهر عيانًا هو أن دوام الحال -كما هو الآن- محال! ويا ليت أن البشرية التي عاشت في حيرة وغفلة هائلةٍ حتى اليوم، التفتت هنيهة إلى التبليغات الإلهية وتفسيراتِ الأنبياء في شؤونٍ تتجاوزُ إدراكَ البشر مثلِ حقيقة الوجود وما وراء الوجود، وتخلصت مما تتخبط فيه من الجو الخانق الذي تثيره المعلومات المضللة، وحلَّقت في سماء الإلهامات النبوية… فلعل الإنسان عند ذاك كان سينجح في النظر نظرًا أصفى إلى حقيقة الوجود، ويدرِكُ موقعه ومسؤولياتِه في الكون، ويَفهم ما وراء ستار الأشياء والحوادث، ويعي مناسباتِ الأشياء فيما بينها، والتناسبَ السائد والانسجامَ العام في الأوامر التكوينية… فلعله بذاك كان سيعيش وتيرة الدخول إلى المناسبات مع خالقه تعالى من جهة، ويمتنع عن مخالفة النظام السائد في الكون برمته فلا يتصادم مع الوجود من جهة أخرى. لكن بني الإنسان -وبخاصة الأنفس العاصية في عصرنا هذا- لم يحققوا هذا التوجه السائد، بل عَقُّوا اللّٰه وعَصَوْه، وبَقُوا متناقضين مع الأشياء والحوادث فلم ينجوا من العذاب البتة، وما كان لهم أن ينجوا. فكيف، ووسائط العلم الممنوحةُ لهم محدودة، وإمكاناتُهم في حل المشكلات التي تواجههم يسيرة؟ فليس لهم أن يكتشفوا بما يملكونه من الوسائط والإمكانات التي هي أسباب العلم إلا النـزرَ اليسير من الوجود، مع التعرض للغلط والتصحيح المستمرَّين، وهو ما حصل.
وكان ينبغي للإنسان أن ينظر إلى تمام الكائنات المحيطة به، والعالمِ الذي يعيش فيه، والنظامِ الموزون، وانسجامِ الأشياء عمومًا فيما بينها… ينظر إليها حسب سعة الكائنات وتداخلِ الأحداث، ثم حسب رحابِ رغباته وطلباته وآماله، وليس بقدر ضِيق أُفقه وانحصارِ علمه وتبدُّل أفكاره… حتى لا يخيب رجاؤه في الحياة التي يعيشها، وفي الطريق الذي يسير عليها، وفي آماله التي يترقبها بطبيعته في نهاية الدرب. لكنه خاب وخسر مرات ومرات، ولا زال..! ولن ينجو من الخيبة والخسران ما دام غيرَ مبالٍ بطريق سيره وبمصيره.
فإن الإنسان القادم من عالم الأرواح إلى الدنيا، والذي سيرحل منها إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الأبدية، لهو بحاجة إلى معرفةٍ فوق المعرفة الإنسانية، بل فوق الزمان والمكان، حتى يديمَ السير بأمان وثقة من غير ضياع وتلكؤ وشَدَهٍ وقلق، في هذا الطريق الطويل ذي الخصال الخاصة بها في كل مرحلة. والحال أنه في الغالب مسكين عاجز أشدَّ العجزِ، وجاهلٌ بما قد يلاقيه بعد خطوتين، حتى في هذه الدنيا التي يَزعم أنه يعرفها معرفة مكينة! إذن لا يمكنه البتة أن يبلغ إلى ما يتمنى في هذا الطريق الذي يتطلب برنامجًا وخطة وطيدة. فالمسير طويل طويل، والمحطات كثيرة كثيرة، والطريق وعرة، والجبال شاهقة والمهاوي سحيقة. فهل من حاجة إلى بيانٍ للاستدلال على ضرورةِ وجودِ هداةٍ عارفين بآداب الطريق وأركانِه في هذا المسير الشاق إلى المنـزل الحق؟
وقد حمل الأنبياءُ كلهم رسالةَ الهداية هذه على مر الزمان، فنشروا الأنوار في طريقِ سيرِ الإنسانية، وكشفوا الغطاء عن أنظار السائرين في الدرب، وأضاؤوا آفاق أَتْباعهم في حقيقةِ “اللّٰه والكائنات والأشياء”، فأنقذوهم من حزن الوحدة وقلق جهل المصير.
لقد خَطَّتْ كلُّ حركةٍ نبويةٍ طريقًا مشتركًا في القضايا الأساسية منذ الإنسان الأول الذي هو النبي الأول: فنَبَّهت -بلا فتور- إلى الأساسيات، كالتوحيد والبعث والنشور والنبوة والعبودية والعدل… وأدامت الإرشاد والتنبيه وأنواع التحذير بشأن المسائل التبعية حسب الزمان والشروط العامة ودرجةِ النضج الإنساني، ولفَتَتْ -دائما- أنظارَ أَتْباعها إلى الأهداف السامية أبدًا. فخطُّ الاستقامة في الحياة الدينية واحد من حيث الأساسيات. أما في التفرعات، فثم شيء من الاختلاف الذي هو في ذاته ضروري ولازم.
والقرآن هو النداء الأخير والرسالة الأخيرة للإنسانية التي بلغت أشُدَّها. هذه الرسالة الإلهية الأخيرة أكدت على الأساسيات المحكَمة الثابتة بعينها في الأديان كلها، ووَعدت باستيعابِ متطلباتِ الأزمنة والأمكنة كافة فخَتَمت كتابَ الدين. فعلى الإنسانية من بعدُ أن تَستمر في المسيرة على نورِ هذه الرسالة الأخيرة، وأن تَستخدم طاقةَ التطوير والتغييرِ مربوطةً بنظامها، وأن تحقِّق كدح الوصول إلى الحقيقة المطلقة تحت وصايتها.
نعم، إن العصور الآتية هي عصور القرآن، والسلطنة القابلة هي سلطنة “مفخرة الإنسانية”. الآذانُ تستمع إلى رسالته، والمشاعل التي تبث النور في الدرب هي مشاعله. نعم، الأمر الفيصل الآن، هو لهذا الموحد الأكبر الذي يُرجع كلَّ شيء إلى التوحيد الخالص.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغلو.