اللص المخدوع والتاجر

لعل الكثير من الناس وهم يقرؤون أو يسمعون قصص ابن المقفع، ينتابهم الشعور بمفهوم المخالفة -بلغة الأصوليين- في كثير من كلام ابن المقفع. لكن الدارسين لفكر وأدب هذا الرجل يعلمون جيدا أن ابن المقفع(ت756م) كان من رجال البلاط العباسي، بعد ما عايش فترة سياسية حرجة زمن الأمويين وذاق مرارتها. ولعل ذلك الحس السياسي لدى ابن المقفع هو الذي جعله يُرمِّز الكلام في “كليلة ودمنة” ويتكلم بلغة المجاز، خلافا لما فعله في كتابيه “الأدب الكبير” أو “الأدب الصغير” حينما تعرض لبعض قضايا الدولة وقيم رجالها.

وقد كان لأسلوب ابن المقفع هذا أثر كبير على أسلوب أعيان العلماء والمثقفين من كل الثقافات والديانات، كما هو الحال بالنسبة للأديب الشاعر العالمي الفرنسي “لافونتين” (1695م) الذي كان مقربًا من الملك “لويس الرابع عشر” في قصته “جنازة اللبؤة”.

وفي القصة الموالية من قصص “كليلة ودمنة”، إشارة بليغة إلى قيم الثقة والصدق التي قد تُفتقد بين الناس عموما ورجال الدولة على الخصوص. لكن سوء المنقلب الخيبة والصغار -كما تبين القصة- دائمًا يحيق بأصحاب النيات السيئة؛ والذين لا مكان للوفاء عندهم في علاقاتهم مع من أحسنوا إليهم.

قال بن المقفع “مثل الشريك المحتال”:

“يقال إنه كان رجل تاجر وله شريك فاستأجرا حانوتًا وجعلا فيه متاعهما، وكان أحدهما قريب المنزل إلى الحانوت فأضمر في نفسه أن يسرق عِدلا -كيسًا- من أعدال رفيقه، وفكّر في الحيلة في ذلك، وقال: “إن أتيت ليلاً لا آمن أن أحمل عدلاً من أعدالي أو رزمة من متاعي ولا أعرفها فيذهب عنائي وتعبي باطلاً، وأخذ رداءه وألقاه على العِدل الذي أضمر أخذه ثم مضى إلى منزله.

فجاء شريكه بعد ذلك ليصلح أعداله، فقال: “والله هذا رداء صاحبي ولا أحسبه إلا قد نسيه، وأما الرأي فأن لا أعده ها هنا بل أجعله على أعداله فلعله يسبقني إلى الحانوت فيجده حيث يحب، ثم ألقى الرداء على عدل من أعداله وقفل الحانوت وانصرف”.

فلما كان الليل جاء رفيقه ومعه رجل قد واطأه على ما عزم عليه وضمن له جعلاً على حمله، فصار إلى الحانوت والتمس الرداء في الظلمة فوجده على أحد الأعدال فاحتمله بعد الجهد الجهيد حتى أخرجه هو والرجل، ولم يزالا يتراوحان على حمله حتى أتيا به منزله ورمى نفسه تعبًا، فلما أصبح نظر فإذا هو بعض أعداله فندم أشد الندم. ثم انطلق نحو الحانوت فوجد رفيقه قد سبقه وفتح الباب وتفقد العِدل فلم يجده، فاغتمّ لذلك غمًّا شديدًا، وقال: “واسوأتاه من رفيقي الصالح الذي ائتمنتني على ماله وخلّفني وانصرف، ماذا يكون حالي عنده ولا شك في تهمته إياي، ثم أتى رفيقه فوجده مغتمًّا فسأله عن حاله فقال له: إني قد فقدت عِدلاً من أعدالك ولا أعلم سببه ولا أشك تهمتك إياي، وإني قد وطّنت نفسي على غرامته.

فقال له: لا تغتمّ يا أخي، فإن الخيانة شر ما عمله الإنسان، والمكر والخديعة لا يؤديان إلى الخير وصاحبهما مغرور أبدًا، وما عاد وبال البغي إلا على صاحبه، وأنا أحد من مكر وخدع واحتال. فقال له رفيقه: وكيف كان ذلك؟ فأخبره بأمره وقص عليه قصته، فقال له صديقه: ما كان مثلك إلا كمثل اللص المخدوع والتاجر.

قال: وكيف كان ذلك؟

إن ابن القيم، وبالرغم مما روي عن استقامته واعتناقه للإسلام بعد المجوسية، كان رجلاً ذكيًّا وأديبًا بليغًا وسياسيًّا محنكًا. ولذلك كانت القيم الإنسانية الكبرى حاضرة عنده وبقوة، بل إني ألاحظ أن هذه القيم ومن خلال جل مؤلفاته، كانت هاجسًا بالنسبة إليه كما هو حال المصلحين والمفكرين الكبار عبر التاريخ.