القول البليغ والأدب الأسمى، القرآن الكريم

إن الأدب ببساطة هو “قول بليغ”، وكلمة “بليغ” هي لفظة قديمة، كما أنها -في اعتقادي- أقوى من كلمة “فَنّ” ومن كلمة “جميل”؛ فقد أقول “قولاً جميلاً” أو “فنيًّا”، ولكنه لا يؤدي الوظيفة التي تؤديها لفظة “بليغ”.
فالأدب “قول”، وكونه قولاً واضحًا يُخرج ما سوى القول مُدخِلاً كل قول، لكن صفة “بليغ” تُخرج ما ليس بأدب، أي تمنع كل قول لم يصل إلى الحد الذي يكون به بالغًا إلى ما يريد، مبلغًا ما يريد، أي أنه حامل لرسالة، وهذه الرسالة بلغت حدًّا من البيان و التجلي، ومن الجمال والفنية إلى الدرجة التي تنقل بها المراد نقلاً مؤثرًا غايةَ التأثير، يبلغ أعماق النفوس ويحدث فيها الأثر البالغ. وإن هذا اللفظ بهذا المعنى هو الذي ورد في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾(النساء:63)، فهو من البلاغة ولكنه ليس هي، لأن البلاغة في هذا القول البليغ في الآية تتجه إلى معنى بعينه، يؤثر في النفوس تأثيرًا خاصًّا لا بهذا المعنى العام، فبين هذا وذاك خصوصٌ وعموم. إذن فـ”القول البليغ” يدخل فيه كل الأدب بجميع أجناسه.

ما هو القرآن؟

كل أدب هو “قَولٌ بليغٌ”، أما القرآن فهو “القول البليغ”. والقرآن وصف نفسه في آيات بأنه “قَوْلٌ”، و”قَولٌ بَلِيغ”، و﴿قَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾(الطارق:13)، ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ﴾(الحاقة:41-42)، ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾(التكوير:19) على أنه قول جبريل عليه السلام من جهة النطق به، كما أن القرآن نفسه يرشِد في آية أثارت انتباهي على أنه “القول”، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(القصص:51). هذا هو “القول” من جهة، فما هو القول؟ يمكن أن نتبين أنه هو القول من جهات: أنه أصل القول، وحق القول، وكل القول.
فمن جهةِ أنه أصل القول؛ فلأن كلمات الله تمت منذ البدء: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾(الأنعام:115)، ولأن أيَّ قول جاء بعد قول الله سبحانه وتعالى للإنسانية، أيْ لابن آدم المشار إليه في لفظ “الهدى”: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾(البقرة:38)، هذا هو الهدى، هو أصل القول في الأرض، وما من نقطة في الأرض إلا وصلها قول من هذا القول: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾(فاطر:24).
فالقول في نقط من الأرض، هو من الأثارة من العلم، تلك الأثارة التي تبقَّت عبر الزمن من القول الذي نزل. فأصلُ “قول”، أي “أصل القول الذي يستحق أن يسمى القول”، وبهذا التعريف بـ”الـ” هو من هذا القول، أي ما فيه من حق ومن صواب ومن جمال مما به تأهّل أن يكون قولاً بليغًا.
ومن جهةِ أنه هو حق القولَ؛ لأن من القول ما ليس من حق القول، والقرآن جَمَعَ القول كله منذ بدأ نزول هذا القول حتى انتهى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾(المائدة:48). فما سبق من القول هو بعضٌ من كلٍّ:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾(آل عمران:23). أما القرآن فـهو الكتاب: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾(البقرة:1-2)، وقد هيمن على ما تقدم وصدَّق ما تقدَّم من الكتاب. فـ”حق القول” في الأرض -الآن- مجموع في القرآن، ولا يوجد كتاب ولا مصدر فيه الحقُّ المحضُ الخالصُ إلا القرآن.
ومن جهةِ أنه هو “كلّ القول”؛ أنه بمثابة أمّ الكتاب، وأمّ القول، كما قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(الأنعام:38)، بمعنى أن الكليات والأساسيات التي توجه القول في هذه الدنيا مطلقًا توجد في هذا القول، وإنما تحتاج إلى أن تسري في العروق وتحتاج إلى أن يتضلع منها لتتمكن من الذات، فيصبح القرآن بعد أن تفاعل مع الإنسان كأنه نبراس طبيعي له، بعد أن تمكَّن منه القرآن وتمكَّن هو من القرآن، إذ ذاك لا يبقى نقاش في كيفية التلقي ولا في كيفية التنزيل؛ لأن الاتحاد بالقرآن وحلول القرآن في العبد، صار إلى الحد الذي فيه كما يقال “صار العبد قرآنًا يمشي”.
إن المستوى الرفيع من العبد الذي صار قرآنًا يمشي، إنما تمثل في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن خلُقه فقالت: “كان خلقه القرآن”. وبقي هذا الخلُق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه، وقد ذهب الأصحاب وبقي الإخوان، حيث جاء في الحديث المشهور: “إخواني الذين لم يأتوا بعدُ” (رواه مسلم). هؤلاء الإخوان -إخوان الرسول صلى الله عليه وسلم – هم أيضًا في درجة الأصحاب، من حيث تشبُّعهم بالقرآن، وتمثّلهم للقرآن، وحياتهم بالقرآن، وهذا ما قصدتُه بـ”كلّ القول”.

اللفظ البليغ

أما “البليغ”، فالمعنى من هذه البلاغة غير المعنى الذي يأتيكم للذهن عن كلمة البلاغة، فالجذر اللغوي للكلمة: “يَبلُغ ويُبلِغ ويُبلّغ وهو بالغ في النفس بليغٌ”. بهذا التمكن التام الذي سبَّبه وجود شروط وخصائص في الكلام، تجعله يُحْدِث ذلك الأثر الذي يشبه السحر، وشتان بين المعنى في مادة “بلغ” -لا في الجذر والأصل- التي لا تهتم بالسبب الذي يجعلها كذلك ولا بالواسطة، ولكن تهتم بالأثر في النهاية، كما أن الحديث بهذا الأثر وبهذه النهاية، يستلزم ما قبل ذلك استلزامًا.
وحينما نقول عن القرآن إنه “القول” وإنه “البليغ”، فيمكن أيضًا أن نتحدث عن هذه البلاغة في القرآن من جهات ثلاث: أنه الأجمل، والأكمل، والأفعل.
فمن حيث أنه الأجمل؛ لأنه حتى الآن لم يقدَّر للغة العربية أن تتركب في نصٍّ لغويٍّ يحمل من أسرار الجمال التي تجبر المتلقي على أن تحدث فيه آثارًا بعينها إلا في القرآن: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(ق:37)، أي الذي لا حجاب له على القلب، فكلام الله ينفذ إليه دون حواجز وكأنه مباشرة يتم النطق بالقلب.
والثانية أنه الأكمل؛ أي أن بلاغته -بهذا المعنى الذي نتحدث عنه- لا علاقة لها بجزئيات بعينها وإن كان كلّ مركَّب في الأصل مجموعة من الجزئيات، ولكن قد يتعذر علينا أن نتبين كلَّ الجزئيات، فالخصائص إنما تكون للمركب لا للجزئي؛ ففي الكيمياء نجد أن الماء لا علاقة له بالأوكسجين والهيدروجين -على سبيل المثال- وإن كانا هما الأصل، ولكن الذي له خصائص الماء إنما هو الذي يتركب من كل ذلك. فالمضمون والشكل وكل المكوّنات -كيفما كان نوعها في هذا القول- تصل إلى حد الكمال البلاغي من خلال علاقات التركيب.
وبهذا الكمال البلاغي تأتي الخاصية الثالثة؛ أي أنه الأفعل، بمعنى الذي يحدث في النفوس فعلاً لا يفعله سواه. فنحن نعلم أن لهذا أصلاً واضحًا هو أنَّ ابن آدم مركَّب من طين والروح: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾(ص:71-72)، وهذا النفخ ليس خاصًّا بآدم عليه السلام، فإن كل وليدٍ بعد أن تمرَّ الأشهر التي يدخل فيها الجنين أربعين يومًا يكون نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يرسَل إليه الملك لينفخ فيه الروح… ذلك السر الذي عندما يغادر قسم الطين (الجسد)، يبقى الإنسان كما هو، ولكن كل شيء فيه معطَّل؛ الأعين حاضرة والآذان حاضرة واليدان والرجلان… والقرآن هو قوت ذلك السر، فلا يمكن للقسم الروحي في الإنسان أن يتغذى بغير هذا الغذاء، والحاجة إلى هذا الغذاء أكثر من الحاجة إلى الغذاء العادي، أي غذاء الطين. نفهم هذا -ببساطة- من إجبارية الصلوات الخمس في اليوم، لأن الصلاة في الأصل صلة، وعمود هذه الصلة الوحي. فهذه الإجبارية تعني أنَّ جوع الأرواح أخطر من جوع الأشباح بكثير، وأن العبد إذا لم يغذِّ روحه خمس مرات، فإنها تدخل بجدارة في عالم الأموات. والقرآن يعبر عن الذي لا اتصال له بهذا المعنى بـ”الميت” مباشرة: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾(الأنعام:122)، وجاء في الحديث الصحيح: “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت” (رواه البخاري).
إذن، لماذا يغذي القرآن الأرواح؟ لأنه هو في حد ذاته روح، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾(الشورى:52).
فلا غذاء للروح إلا بالروح، وحين يُستعذَب كلام وتعجَب به الروح الطيبة إنما لِما فيه من هذه الروح، فيكون للحديث شيء من الأثر يشبه آثار القرآن، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “أوتيت القرآن ومثله معه” (رواه أبو داود)، فهو وحي لكنه لا يتلى. وفي كلام الراسخين في العلم الربانيين مَن أثَر من هذا المعنى الشيء الكثير، وتأدية هذا المعنى هي بسبب حضور الوحي وتأثير الوحي في أصل ذلك الكلام. إذن، فإن هذا القول البليغ هو النموذج للأدب الأسمى من حيث وقعه من هذه الزاوية الأدبية.

علاقة الأدب بالقرآن

إن الامتلاء والتضلع من القرآن، وإن الشبع والتشبع بالقرآن إلى الحد الذي لا يبقى فيه انفصام بين العبد وربه، إلى الحد الذي يحاول أن يجعل من فعل ما أو فكرة ما قرآنيةً، هو الذي يؤسس تأسيسًا صحيحًا لإنتاج أدب إسلامي أو لإنتاج “الأدب الحقيقي”.

واضح بعدما تقدم من أن الأدب “قول بليغ” وأن القرآن هو “القول البليغ”، أن العلاقات التي تنبني على هذا كثيرة نذكر منها:
1-علاقة الأصل بالفرع: وذلك أن أيَّ قول بليغ -أيْ أدب- هو في إطار ما نتحدث به، يرتفع معناه ويسمو على قدر ما فيه من هذه القولية البليغة، أي على قدر ما فيه من الأدبية التي تتضمن الجانب الشكلي والجانب المضموني في هذا الإطار. الأدبية بهذا المعنى داخل هذا الإطار الذي يجعل القرآن أدبًا أسمى؛ لأنه لن يصير القول إلا بما فيه من حق، ولذلك فإن ما ليس بحقٍّ، يخرج عن دائرة الأدب. وفي إطار علاقة الأصل بالفرع، أطرحُ نصًّا بعينه كما ذكر سيد قطب حينما تحدث عن الشاعر من أنه: “الذي يستطيع غور جوانب بعينها، وكلما تطابق ذلك الشاعر مع الفطرة وتجاوب معها وعبَّر عنها صار شاعرًا كبيرًا”. ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾(الروم:30)، فالخلق فُطر على كيفيةٍ هو متَّجه فيها إلى الحق والصواب دائمًا… هذا هو الأصل كما في الحديث: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه” (رواه البخاري)، ولم يقل “أو يسلمانه” وتلك هي الفطرة، وفي الحديث القدسي: “خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين فأضلتهم” (رواه أحمد). فالأصل في الخلق والكون هو الفطرة، وهي مرآة الحق والصواب: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾(الأحقاف:3)، هذا هو الأصل في أمر الخليقة، ثم جاء الإفساد: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾(الأعراف:56)، أي بعد إذ سُوِّيت وقُدّرت فيها أقواتُها وضبطت ضبطًا كاملاً. هذه هي العلاقة الطبيعية؛ علاقة الأصل بالفرع.
الأصل إذن، هو هذا “القول البليغ” القُرآن، والفرع هو كل “قول بليغ”، وإنما تكون درجة قوليته بليغة على حسب قربه من “القول البليغ”، أي من الأصل.
2-علاقة الرؤية بالممارسة: لكي يستطيع المسلم إنتاج قول بليغ، فإنه يحتاج إلى أن يتمكن من الرؤية القرآنية في كيفية سير الأمور في هذا الكون، لأن القرآن يصف واقع الأشياء وسنن الخلق؛ كيف هي وكيف تتطور وإلى أين تصير… كل ذلك مضمّن في القرآن. فإذا تمكَّن المسلم من الرؤية العامة للقرآن الكريم، فداخِل إطارها يبني ممارسته، أي يكتب أو ينتج لونًا من التفاعل بين ما استوعبه من الرؤية القرآنية -بالتفاعل بينها- وبين ما حوله من الأكوان، ثم يخرج النتيجة إلى الناس قولاً بليغًا على صورة ما. ولذلك أقول إن الامتلاء والتضلع من القرآن، وإن الشبع والتشبع بالقرآن إلى الحد الذي لا يبقى فيه انفصام بين هذا العبد وربه؛ الحد الذي يحاول أن يجعل مِن فعل ما أو فكرة ما قرآنية، هو الذي يؤسس تأسيسًا صحيحًا لإنتاج أدب إسلامي أو ما يسمّى بـ”الأدب الإسلامي”، أو لإنتاج الأدب الحقيقي.
3-علاقة الذاكرة بالذكر: ثَمَّ علاقة أخرى ترجع إلى الأصل الكبير ويمكن أن نسميها بـ”علاقة الذاكرة والذكر”. فالقرآن خزَّانٌ ضخم للكليات وللأساسيات وللتجارب العظمى في التاريخ، فالقصص القرآني جملةً -سواء كان قصص الأنبياء والمرسلين والصالحين أو كان قصص الطغاة والظالمين وغير ذلك- هي خزَّانة لكليات التجارب في التفاعل بين القرآن بمعنى القول أيْ كلام الله، وبين الكون عبر قناة الإنسان وواسطته.
إذن، فإن الكليات أقوالٌ، سواء كانت في الصورة القصصية أو الفعلية أو في الصورة القاعدية (القواعدية) أو في الصورة المقاصدية، كل ذلك مضمَّن في هذا الكتاب، ومن ثَمَّ صار بمثابة ذاكرة ضخمة جمعت الكليات والأساسيات منذ بدء الكون حتى الآن مما ينفع الناس. هذه الذاكرة الضخمة تحتاج إلى ذكر لها، ولكنه ذِكْرٌ بغير المعنى الذي سميت الذكر بعد، يعني إلى رجوع إليها لاستلهام الأدوات والوسائل واللوازم العامة لإنتاج قول بليغ. هذه الذاكرة الضخمة جدًّا موجودة لننتج قولاً بليغًا، أي لنذكر الله. فنحن -اليوم- نحتاج إلى هذه الذاكرة لتحصيل الذكر.

الخاتمة

إذا أردنا أن نتجاوز اللحظة الحالية بالتجارب في نقط كثيرة من الأرض -وهي تجارب الخير- وإذا أردنا فعلاً ما يسميه البعض “الشهود الحضاري” كي نعود من جديد إلى التاريخ روادًا وقادةً… لا سبيل إلى ذلك من غير أن نمثل الخصوصية التي هي في حقيقتها داخل الإطار الذي نسميه العددي وهي العالمية، لأنها هي التي تلتقط ما في الفطرة من خصائص لتخرجها وتمثلها فيها، وابن آدم كيفما كان نوعه في الأفضلية ميسَّر لما خلق له وهو العبادة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِِ﴾(الذاريات:56)، وما زُوِّدنا به من التجهيزات الضرورية، إنما لنؤدي هذه الوظيفة؛ فلكي ننتج قولاً بليغًا يتم به في هذا المجال -أي المجال الأدبي- الشهود الحضاري، نحتاج إلى التضلع من القرآن أو استدراج القرآن كما في الأثر: “مَن حفِظ القرآن فكأنما استدرج النبوة بين جنبيه”.