القرصنة الرقمية

القرصنة أو التحميل غير القانوني لوسائل الإعلام الرقمية بدءًا من عام 2012 ظهر على الساحة السياسية في أمريكا، حيث قام الكونجرس الأمريكي بتقديم اقتراحين قانونيين؛ الأول أطلق عليه (SOPA) أو وقف القرصنة عبر الإنترنت، والثاني متعلق بحماية الحرية الفكرية. وكلا المشروعين كان يستهدف منع التحميل والاستخدام غير المشروع لوسائل الترفيه والإعلام الإلكترونية، مثل ألعاب الفيديو والموسيقى والأفلام.. إلخ. لكن العديد من المستخدمين رأى أن هذا تدخل سياسي يطول حرية التعبير الإلكترونية. وهكذا انطلقت المظاهرات المناهضة لمشروع القانون، وهو الأمر الذي دعا الرئيس الأمريكي أوباما -في ذلك الوقت- إلى التصريح بأنه لن يقبل مشروعي القانون، وقام الكونجرس بتأجيل الحديث عن مشروعي القانون. وفي الوقت الذي يحاول فيه المجتمع والشركات والحكومات التصدي للقرصنة، من المهم فهم السبب الكامن وراء قيام الأشخاص بقرصنة البرامج.

فهم تكلفة وفوائد القرصنة

في البداية نريد أن نفهم القرصنة بغض النظر عن الجانب الأخلاقي أو الأحكام المعيارية، فالقرصنة فعل كغيره من الأفعال له تكلفة وفوائد. ويبين حساب المنفعة أو تحليل التكلفة والعائد، أن الفوائد المادية تفوق بكثير أدنى التكاليف المادية للقرصنة؛ فعادة ما يكون لوسائل الإعلام الترفيهية سعر يجب على المستهلك دفعه، مثل شراء تذاكر لمشاهدة فيلم في السينما. من ناحية أخرى، وبالنظر إلى أن الفرد يمتلك المعرفة التقنية، يمكن للفرد الحصول على نفس الترفيه مجانًا إذا اختار قرصنة وسائل الإعلام بدلاً من شرائها. وفي حين يتم القبض على بعض هؤلاء ليدفعوا رسوم خدمة الترفيه.. إلا أن احتمال وقوع هذه النتائج السلبية صغير نظرًا لعدم وجود عوامل خارجية أخرى.

السبب المحتمل لانتشار القرصنة هو “العادة”، فعندما يقوم الشخص بالقرصنة بالرغم من المبادئ الأخلاقية المعارضة للفعل، يختبر الشخص نوعًا من المتعة في الحصول على الترفيه بصورة مجانية.

بالإضافة إلى أننا إذا نظرنا للأمر من الناحية السلوكية، فسنجد عملية القرصنة منطقية إلى حد كبير، فعندما يقدم الشخص على قرصنة وسائل الترفيه الإلكترونية، يحصل على المنفعة بصورة مباشرة، فالتكلفة هنا قليلة للغاية ونسبة المخاطر أيضًا ضئيلة. وبالمقارنة مع السرقة الفعلية لـ”DVD” أحد الأفلام من أحد مراكز التسوق، نجد أن مخاطر القرصنة لا تتعدى ضغطة زر بريئة.. وإذا تأملنا فيما إذا كان يجب سرقة قرص DVD آخر لفيلم ما، فإن الشخص سوف يزن ما إذا كانت الفائدة الترفيهية تستحق أن يعاني من الإجهاد والمخاطر الكبيرة التي قد تؤدي إلى تعرضه للمساءلة القانونية. قارن هذه الحالة بالتفكير في تحميل فيلم بشكل غير قانوني، وكل ما سيحتاج إليه الشخص تحديد ما إذا كانت فائدة الترفيه أكبر من الضغط على بعض الأزرار، ومع مثل هذه المخاطر المنخفضة والإشباع الفوري، فإن سلوك القرصنة يترسخ بسهولة.

وبهذا التحليل للمنفعة والتكلفة المجرد عن الأخلاق والمبادئ والدين يظهر لنا سبب انتشار القرصنة، فالقرصنة سهلة ومجدية في الحصول على المنفعة، ولكن على كلٍّ فالبشر لا يعيشون مجردين في خواء من الأفكار والأخلاق والمبادئ والدين.

القرصنة من الجانب الأخلاقي

لو كانت القرصنة سرقة، فهي غير أخلاقية ولا تتفق مع المبادئ. وهي بالتأكيد سرقة، فكل وسائل الإعلام الإلكترونية -سواء أكانت فيلمًا أو موسيقى أو كتابًا أو لعبة إلكترونية- جميعها منتجات لعمل وجهد شاق، مثلها مثل المحصول للمزارع، أو الكتاب للعمل الأدبي.. فالوسائط الرقمية ما كانت لتوجد لولا الجهد الذي يقوم به المنتج، والمنتج له حق الملكية على الإعلام الرقمي عن طريق الإنتاج وقوانين حقوق النشر. والحقوق الرقمية الحديثة، هي دليل على وجود هذه القاعدة الاجتماعية إذن. والسؤال الواجب سؤاله في هذا الصدد: إذا كانت القرصنة فعلاً خاطئًا، فلماذا يقوم الأفراد بالقرصنة على الوسائط الرقمية؟

الإجابة، عندما يكون لدى الشخص اختيار بين الدفع للحصول على الترفيه أو استهلاكه بصورة مجانية، يحدث صدام بين المبادئ الأخلاقية والرغبة، وفي محاولة للتوفيق بين هذا التناقض بين الضمير المؤنب والرغبة، يبدأ الأفراد بإيجاد المبررات التي دفعتهم إلى القيام بالقرصنة؛ فقد يقول الفرد هذه الشركات المنتجة في غاية الثراء ولن يصيبها أدنى ضرر، أو قد يقول الشخص إن أوضاعه المالية لا تسمح له بدفع قيمة المنتج ما يجبره على القيام بهذا العمل عن طريق غير قانوني.. وهكذا، فمن خلال تلك المبررات يستطيع الأفراد القرصنة بلا تأنيب للضمير.

تبرير القرصنة

بالإضافة للمبررات العامة لأي انتهاك أخلاقي، فالقرصنة لها مبررات فريدة من نوعها تتطابق مع فرادة الوسائط الرقمية، وهي أن القرصنة الرقمية لا تمثل أي ضرر للمنتج، ولا تمثل خسارة لإرادات المنتج، سواء أكان المنتج لعبة رقمية أو فيلما أو أغنية، طالما أخذت الوسيلة الإعلامية الترفيهية الصورةَ الرقمية. نعم لا تعد قرصنة لعبة رقمية خسارة مباشرة للمنتج، ولكن إذا تم سرقة ساعة من إحدى مراكز التسوق، ألا يمثل هذا ضررًا للشركة المنتجة لأنه في حالة ما بيعت كانت ستعوض جزءًا من تكلفة المنتج لدى المصنع.. والقرصنة كذلك؛ فقيام الشخص بقرصنة لعبة رقمية، يعني عدم قدرة المنتج على تسويق اللعبة الرقمية وإقناع الآخرين بشرائها، وسيؤدي ذلك إلى أضرار وخسائر كبيرة للمنتج، بينما الذين يعتقدون أن استخدام الوسائل الترفيهية للمنتجات الرقمية لا تضر المنتج، ستصبح القرصنة لديهم فعلاً كله مميزات إيجابية.

التحليل للمنفعة والتكلفة المجرد عن الأخلاق والمبادئ والدين يظهر لنا سبب انتشار القرصنة، فالقرصنة سهلة ومجدية في الحصول على المنفعة

ولكن هذا التبرير الذي يقوله هؤلاء القراصنة، به علتان معيبتان الأولى أن القرصنة قد تؤدي إلى خسائر مباشرة لأرباح الشركات المنتجة، فلو أقدم شخص على شراء منتج، ثم توجه -بدلاً من شراء المنتج- إلى الحصول عليه عن طريق القرصنة، فإنه بمجموع أعمال القرصنة الفردية ستتكون خسارة تراكمية فادحة للمنتج تصل لملايين الدولارات.

أما الثانية فهي أن القرصنة تشكل اعتداء على ملكية خاصة لشخص ما، وتعتبر انتهاكًا لحق ملكية الأفراد؛ فلو أن الشخص قرر أن يتقاسم ملكيته مع من يدفع قيمة منتجه، فيعد أخذها دون دفع قيمتها اعتداء على حق ملكية هذا الشخص، وهكذا يكون فعل القرصنة غير أخلاقي دون الدخول في نقاشات حول مدى الخسارة المادية اللاحقة بالمنتج.

العادة

السبب المحتمل لانتشار القرصنة هو “العادة”، فعندما يقوم الشخص بالقرصنة بالرغم من المبادئ الأخلاقية المعارضة للفعل، يختبر الشخص نوعًا من المتعة في الحصول على الترفيه بصورة مجانية، وهكذا يبدأ الشخص في الحصول على الترفيه من خلال القرصنة حتى تترسخ العادة. ويمكن أن نفهم الأمر بصورة أكثر وضوحًا باستعراض حالة لعبة الفيديو الرقمية (Proun). وهي لعبة رقمية قليلة التكلفة، وأطلقت بنظام دفع يسمى “ادفع ما تراه مناسبًا”، وهذه الطريقة تتيح للمستخدمين دفع أي مبلغ من المال مقابل الحصول على اللعبة الرقمية، أي إن للشخص الحصول على اللعبة الرقمية بصور قانونية دون أن يدفع أي شيء. وقامت الشركة بعمل الإحصاءات لتكتشف أن 40% من الأشخاص قاموا بالحصول على اللعبة الرقمية من خلال القرصنة على الرغم من إمكانية حصولهم عليها بصورة قانونية، من موقع الشركة الإلكتروني بصورة مجانية قانونية.

هذه التجربة أثبتت أن قيمة المنتج لا تمثل السبب الوحيد وراء إقبال الأفراد على القرصنة. والتفسير المحتمل هو أن كثيرًا من المستخدمين اعتادوا على الحصول على الترفيه الرقمي من خلال القرصنة الرقمية، فمع قلة المخاطر اختار الأفراد الحصول على الترفيه الرقمي والمنتجات الرقمية بالقرصنة، وأصبح فعل القرصنة بالنسبة لهؤلاء المستخدمين فعلاً طبيعيًّا إذا تعلق الأمر بالمنتجات الرقمية حتى ولو كانت متاحة مجانًا للجمهور؛ وبعبارة أخرى، أصبحت القرصنة المعتادة مشروعة في أعينهم، ولم يعد الفرد بعد أن دخل دائرة القرصنة، يضع اعتبارًا لمدى عدم أخلاقية الفعل، وهكذا أصبح كل فعل لاحق يعزز هذه العادة فقط.

(*) كاتب وباحث مصري.