القراءات المعاصرة للقرآن الكريم المفهوم والمنطلقات

سأحاول في هذه الورقة أن أناقش أهم الأسس والمنطلقات التي تقوم عليها القراءات المعاصرة للقرآن الكريم، ويتعلق الأمر بإسقاط نتائج المناهج الحديثة على مصادر الوحي، والانطلاق في الاستدلال من مخرجات حددت سلفًا، مما يسائل النزاهة والموضوعية والحياد العلمي.

وأشير إلى ادعاء -أصحاب القراءات المعاصرة- أن خطاب القرآن الكريم يغلب عليه الطابع العاطفي، ويعكس المستوى الثقافي للبيئة التي نزل فيها، فطريقة عرض القرآن مبعث على النفور لغياب المعطى المنهجي والنسقي كما يرى (أرجون)، وأن دلالة العلم في القرآن الكريم محصورة في العلم الشرعي فقط، وأن العقل يستعمل في سياق الحبس والمنع. وإذا كان له معنى إضافي غير هذا فلن يكون بمعنى الفهم المنطقي والعلمي، بل بمعنى التذكير بنعم الله.

وإذا كان هناك من إنجاز حضاري فلم يحدث ولم يتبلور إلا بعد دخول الفكر الإغريقي.

لأصل في النهاية إلى أهم السمات والخصائص المشتركة بين هذه القراءات.

أولا: مفهوم القراءات المعاصرة ومنطلقاتها.

تحديد مفهوم القراءات المعاصرة ضرورة منهجية تعين على توظيف هذا المركب الإضافي عند التعامل مع القضايا والرؤى المرتبطة به، وكذا بيان أهم الأسس والمنطلقات التي تقوم عليها القراءات المعاصرة، وهذا ما ستتم معالجته في هذا المحور.

  • مفهوم القراءات المعاصرة

تكاد الدراسات النقدية التي تناولت القراءات المعاصرة للقرآن الكريم تجمع على هذا الاصطلاح، حيث تواضعت على إطلاقه على الأبحاث التي تمتح من خلفية حداثية وتروم تقديم قراءة جديدة للخطاب القرآني، تتجاوز بها ما يُعتقد أنه قديم ولم يعد مواكبًا لمستجدات العصر وحاجياته، ولذلك وردت جملة من التعاريف لهذا المركب الإضافي منها:

يقول محمد كالو: “يشيع اليوم في الأقطار الإسلامية مصطلح القراءات المعاصرة كتعبير حديث عن وجهات النظر المختلفة المفسرة للنصوص الدينية وغيرها، ظلت ردحًا من الزمن تمثل ظاهرة فردية إلا أنه منذ سنوات أصبحت هذه الظاهرة جماعية، ينتمي إليها أفراد من مختلف الأقطار العربية والإسلامية، تجمعهم أفكار متطابقة، ويوحدهم أو يكاد منهج مشترك، ويمكن تصنيفهم في نحلة واحدة”.

ويقول عبد الواحد الشلفي: “القراءات المعاصرة نشاط فكري موجه يسقط تجربة الغرب مع نصوصه على نصوص الكتاب والسنة، ويستنسخ من الفكر الغربي وسائل منهجية متعددة لتفسير النصوص وتبديل الأحكام وقلب المعاني والدلالات بعد عزل أصول منهج الاجتهاد الأصولي وقواعده”.

وتأسيسًا على ما سبق يمكن تعريف القراءة المعاصرة بـأنها: “ذلك الاتجاه الفكري الذي يروم قراءة الخطاب القرآني على ضوء المناهج المعاصرة، واستنساخ التجربة الغربية في التعامل مع قضايا الدين، واستبعاد الأصول والقواعد التي تواضع عليها علماء المسلمين”.

أما وصفها بالقراءة لأنها عبارة عن أفكار ورؤى وتصورات وخواطر وتأملات، وليس تفسيرًا بالمفهوم العلمي، فأصحابها غالبهم يتعاملون مع الخطاب القرآني كالنص الأدبي تحليلاً وتركيبًا واستنتاجات.

ووصفها بالمعاصرة من جهة انتمائها إلى العصر الحاضر، ومن جهة توسلها بالمناهج الحديثة لفهم الخطاب وتحليله وإطراح كل المناهج التراثية واقصاؤها.

والقصد من ذلك حسب روادها وأعلامها: عقلنة الظاهرة القرآنية، وإطلاق سلطة العقل وعدم تقييده بحدود معينة في تفسير القرآن، واستخدام العلوم الاجتماعية والإنسانية، لنقد العقل الديني ولزحزحة إشكالية الوحي من النظام الفكري الخاص إلى فضاءات التأويل التي يفتحها العقل الاستطلاعي الجديد.

– منطلقات القراءة المعاصرة 

هناك شبه إجماع عند أصحاب القراءة الحداثية أن القرآن الكريم كتاب ديني بالمعنى الضيق للكلمة وبإيحاءاتها في المنظومة الغربية، وأن لا علاقة له بمناهج العلوم، سيمة خطابه الوعظ والتذكير، ومخاطبة البعد العاطفي في الإنسان، وكذا الخيال باستعمال الصور البلاغية والمجازية، ويفتقر إلى المعطى النسقي والبناء المنهجي الصارم ويعتمد أسلوبًا حجاجيًّا افحاميًّا لا استدلاليًّا برهانيًا، كما أن دلالة العلم فيه تقتصر على العلم الشرعي، بالإضافة إلى أن استعمال العقل يرد بمعنى المنع والربط والنهي، ومن ثم فالحضارة الإسلامية حضارة فقه لا علم، والعقل العربي عقل بياني شرعاني، مثقل بالتعامل مع النصوص المقيدة للإبداع والإنتاج. ولا مناص من الفكاك من هذا الأسار إلا بالإقبال غير المشروط على المناهج الحديثة واطراح كل الكسب المعرفي والمنهجي السابق، باعتباره عائقًا ابستمولوجيا يحول دون القراءة المعاصرة المواكبة للمستجدات.

يقول محمد عابد الجابري: إن القرآن يتعامل مع  ظواهر الطبيعة وموجوداتها وحوادثها، كآيات وعلامات تدل على الخالق وقدرته وعظمته…إننا نرى أن هناك فرقا كبيرًا واضحًا بين توظيف ظواهر الطبيعة توظيفًا إشاريًّا، أي النظر إليها كأمارات تنبه إلى وجود خالق أو صانع على حال معينة، وبين توظيف الأمارات توظيفًا استدلاليًّا لتفسير الطبيعة وتشييد صورة للعالم على أساس هذا التفسير… فالقرآن كما نعرف جميعًا يستعمل التشبيه والتمثيل والمجاز والاستعارة والكناية على نطاق واسع، ولكنه لا يرتفع بهذه الأساليب البلاغية إلى مستوى الاستدلال العقلي الذي “يوجب الحكم” بل يستعملها قصد التنبيه فقط، قصد الإشارة والإيحاء، فالقرآن لا يقرر طريقة معينة في الاستدلال، وإنما يدعو إلى الاعتبار ويضرب الأمثال للناس ليحرك خيالهم وعقولهم وينبهها إلى مسألة معينة. والخطأ الذي وقع فيه البيانيون، فيما نعتقد، هو أنهم جعلوا من وسائل التنبيه التي يستعملها القرآن قواعد للاستدلال ومنطقًا للفكر، ولكن لا باتخاذ النص القرآني سلطة مرجعية وحيدة، بل بقراءته بواسطة سلطة مرجعية أخرى هي عالم الأعرابي، عالمه الطبيعي والفكري الذي تحمله معها اللغة العربية، التي جعلوا منها مرجعية حكما، بدعوى أنها اللغة التي نزل بها القرآن”.

عند تفكيك هذا الموقف وهذه الأحكام المرسلة لا بد من التساؤل حول ما إذا كانت صادرة نتيجة قراءة القرآن من داخله، أم هي رؤى وتصورات مسقطة عليه من خارجه بكل تعسف؟ ولا شك أنها تفتقد إلى البناء المنطقي والاستدلال العلمي لتثبيتها والإقناع بها، بل هي قراءة مغرقة في الذاتية ولم تسلم من الإطلاقية.

ونتساءل أيضا: ماهي مآلات هذه الرؤية على طبيعة حضور القرآن في واقع المسلم في الحياة العامة وواقع الناس؟ إن هذا التوجه عندما يتم إرساء قواعده وإعمال آلياته لن يكون له إلا نتيجة وحيدة، وهي تحويل القرآن إلى تعاليم روحية يلجأ الفرد إليها في خلوته ليمارس نوعًا من الطقوس الغارقة في التأمل المفصول عن الواقع وإشكالاته الباحث عن الخلاص الفردي. فهل هذه هي مهمة القرآن الكريم؟ وهل هذا هو المقصود من الوحي؟ وماذا عن هذه العلوم التي نشأت في محيط القرآن؟ أليست لها أي قيمة علمية أو منهجية؟

إن هذا الذي حرره الجابري نتيجة طبيعية لما سبق أن توصل إليه بشأن مفهوم العقل في القرآن الكريم، فهو عقل مرتبط بالمعنى القيمي من حيث التمييز بين الخير والشر، بين الهداية والضلال، يقول: ولعل مما له مغزاه في هذا الصدد أن القرآن لا يستعمل مادة -ع ق ل – في صيغة الاسم. فلفظة العقل- لم ترد قط في القرآن، وإنما وردت المادة في صيغة الفعل في معظم الحالات…نعم يمكن أن نلمس من خلال الدلالات المختلفة لكلمة “عقل” والكلمات الأخرى التي في معناها ما يمكن ربطه بالنظام والتنظيم، ولكن حتى في هذه الحالة يظل الجانب القيمي حاضرًا دومًا. فالنظام والتنظيم في المجال التداولي للكلمات العربية المذكورة متجه دومًا إلى السلوك البشري لا إلى الطبيعة وظواهرها. ومن هنا يمكن القول إن (العقل) في التصور الذي تنقله اللغة العربية المعجمية يرتبط دومًا بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها القيمية. فهو في نفس الوقت عقل وقلب، وفكر ووجدان، وتأمل وعبرة… أما في التصور الذي تنقله اللغات الأوروبية فالعقل مرتبط دوما بالموضوع، فهو إما نظام الوجود، وإما إدراك هذا النظام، أو القوة المدركة”.

واضج إذن أن الجابري يستبطن مفهومًا للعقل كما هو في الثقافة الغربية، فجعله معيارا يحاكم الخطاب القرآني وفقه. ولذلك نفهم السبب وراء إصرار الجابري في إنتاجاته القديمة على تكرير فكرة أن منطقة الإيمان لا تقاطع بينها وبين منطقة الممارسة العقلية. يقول في ذلك: يعتمد الدين على الإيمان كمنطلق وأساس كما يعتمد الخطابة كمنهج، والأسلوب الجدلي الخطابي في الإقناع هو من المشادات الكلامية مع الخصم تستهدف إفحامه وإلزامه وذلك بالعمل على إفساد براهينه، وهو يستهدف الهدم أكثر مما يستهدف البناء، ويلجأ التفكير الديني إلى الخيال أكثر من العقل وتتجه إلى إثارة الوجدان وإلهاب العواطف أكثر مما تعمل على استثارة العقل، وسيلتها في ذلك صور خيالية وتعابير فنية بلاغية وأمثال محكمة، فيها بلاغة وسحر وجمال وفن”.

ولقد ظلت هذه الرؤية ثاوية في مواقفه حتى في آخر أعماله، والغريب أيضًا أن الجابري يرفض بشدة تفسير القرآن على ضوء المعطيات الحديثة.

إن الخلل المنهجي الذي يمكن أن نسجله على الجابري هو محاكمة النص القرآني إلى قناعة مسبقة، مع أن القرآن الكريم في الواقع سابق إلى ما استقر عليه موقف الجابري، وأبسط دروس المنهج وأولوياته أن نفهم الموضوع من داخله وندرك محدداته قبل أن نتعرض لمناقشته، فبنية القرآن في تناول قضايا العلم مباينة لما يريد الجابري، ومن هنا نشأ سوء الفهم والتفاهم، ولذلك يقوم النظام المعرفي في القرآن الكريم على ما يلي:

  • تحديد الغاية والهدف من العلم والمعرفة.
  • تحديد مصادر العلم والمعرفة.
  • استقصاء أنواع العلوم والمعارف، والتعامل معها ضمن أولويات العقيدة وحاجات الأمة في الزمان والمكان.
  • التوجيه إلى مناهج الكشف عن العلوم والمعارف وسبل اكتسابها.
  • تحديد وتطوير الوسائل الضرورية والمناسبة لاستخدامها في التوصل إلى أنواع العلوم والمعارف المختلفة.
  •  تطوير التطبيقات اللازمة لما يكتسب من العلوم والمعارف”.

وفي ذات السياق يلتقط محمود الرشدان إشارة في غاية الأهمية تتعلق بنوع القضايا ذات الأولوية في النسق القرآني وترتيب النزول يقول: ”فالنظام المعرفي القرآني إذن يقوم على الجمع بين قراءتين متلازمتين متكاملتين، هما قراءة كتاب الله المسطور (الوحي) وقراءة كتابه المنظور(الكون)، قراءة الخبر وقراءة المختبر. ولعل مما يساعدنا على تصور الانقلاب العظيم الذي أحدثه هذا المنهاج القرآني في المعرفة ومفاتيحها ومصادرها أن نتخيل أوضاع المجتمع الجاهلي في القرن السادس وأوائل القرن السابع بعد ميلاد، ثم نحاول أن نقرر محتوى الخطاب الإصلاحي الذي يمكن أن يبدأ به أي مصلح دعوته لمثل ذلك المجتمع. لعل القارئ يوافقني القول أنه في المنظور والاجتهاد البشريين لا يمكن لبشر أن يبدأ دعوته الإصلاحية التغييرية بمثل ما بدأ به الوحي على رسول الله محمد صلى عليه وسلم (إقرأ) العلق:1. فلو كان التوحيد مستقلاً عن النظام المعرفي، بحسبانه وحده محور الرسالة الجديدة، لكان من الأولى، في اجتهادنا البشري المحدود، ونعوذ بالله من التطاول عليه، أن تتنـزل سور كسور الإخلاص والكافرون قبل سور التكوير والأعلى والليل والفجر والضحى، وغيرها مما هو سابق في التنـزيل، وكل هذه السور بطبيعة الحال مكية، ولعل في أسمائها ما ينبئ بأن النظام المعرفي القرآني، يجعل الكون وما فيه من آيات مدارًا رئيسًا لما يليق بالمسلمين خاصة، وبالناس عامة، أن يعملوا على اكتشافه وفهم أسراره وقوانينه وسننه، باعتبار ذلك شرطًا لازمًا لتمكينهم من تسخيره، وإعماره والقيام بمسؤولية الخلافة فيه.

ومن هنا نفهم وجه الحكمة في ربط الرسول صلى الله عليه وسلم للمتلقي بالمشاهد الطبيعية من خلال ضرب الأمثلة المحركة للذهن والموقظة للملكات العقلية والداعية إلى استعمال الحواس وعدم تعطليها من أجل التكوين والبناء لا التلقين وملء الوعاء. من ذلك أحاديث النهر الجاري الذي يمحو الدرن، وتشبيه الوحي بالغيث ودرجات القابلية بالأراضي الخصبة، وقارئ القرآن والأترجة والريحانة، والحنظل، وحديث الأعرابي والجمل الأورق، وخضراء الدمن، وتشبيه الرسالات السماوية بالبيت واللبن، والوحدة العضوية للجسد المسلم، وتشبيه المؤمنين بالبنيان المرصوص، وتشبيه الناس بالمعادن، وغثاء السيل، والرواحل والإبل المائة، والمؤمن مثل الشجرة التي لا يسقط ورقها”.

وهو منهج يسعى إلى ربط تفكير المسلم بالكون وعناصره من أجل انهاجه، شحذا للحواس وتدريبًا على الاشتغال والفهم والتعقل والتركيب والتفكيك والاستنتاج.

هذا الربط بالواقع والأمثلة الطبيعية هو المنهج الذي جسد الرؤية القرآنية القائمة على الاستفهام والتساؤل وعدم التسليم والحرص على طلب الدليل، والقطع مع كل أشكال التفكير الخرافي والتبريري، فإذا استعرضنا القرآن المجيد نجده مفعمًا بالمشاهد الاستفهامية والبعد عن التقرير، الذي سقطت بعض الكتابات الفلسفية التي تزعم الطرح النسبي والممارسة الفكرية الحرة.

ورغم أن الجابري يقول إنه سيعتمد تفسير القرآن على حسب ترتيب النزول إلا أنه لم يقف عند دلالات البدء بفعل القراءة بدل عشرات أفعال الأمر التي يقتضيها الظرف والسياق، لكن ربما تعمد التغافل عن ذلك لأنه لا يتماشى مع رؤيته التي حددها سلفا.

أما محمد أرجون فيقول: كلمة معقول وتعقل، نلاحظ أن كل هذه المفردات غائبة من القرآن الذي يستخدم فقط صيغتي عقل- يعقل. هنا نجد أنفسنا عند التحديات الأولية للغة. إننا نعرف أن عقل بالمعنى البدوي تعني ربط حيوان من رجليه من أجل حجزه لكيلا يفلت، ثم إنها تعني أيضا دفع الدم والتراجع عن تنفيذ قانون القصاص بالمثل مما يتضمن الاعتراف بالمسؤولية. يضاف إلى ذلك أن اللهجات التي بقيت بمنأى عن اللغة العالمة – الفصحى- لا تعرف معنى آخر لهذه الكلمة إلا المعنى القريب من استخدام القرآن لها، أي معنى الحجز والربط والتذكر ثم التعرف على الشيء. إن الكلمة تعني عملية شمولية وأولية تقوم بها الروح أو القلب بحسب القرآن التي توافق بشكل عفوي على صحة ما كانت قد رأته أو عرفته أو تعرفت عليه. إن التحليل اللفظي والنحوي والأسلوبي للمقاطع القرآنية التي تحتوي على فعل عقل- يعقل يكشف عن فعالية الإدراك والتصور لدلالات متعالية يقوم بها “س” لا يتجزأ. هذه الدلالات متضمنة في العلامات الرموز. يتمثل هذا الإدراك -الإحساس- في آن معًا بعملية الحجز أو الربط والتذكر تفكر- تذكر- وفي فهم الخطاب -فقه- وفي إحساس صميمي بالمعنى-شعر- ثم هو يتمثل أخيرًا في العلم الاني والكلي -علم- الذي يولد الموافقة والخضوع لكلام الله الخلاق. نلاحظ أن كل هذه الأفعال التي بين قوسين قد استخدمت مرات عديدة كبدائل لكلمة عقل ضمن عبارات ذات بنية نحوية وأسلوبية متماثلة من مثل “ولكن أكثر الناس لا يتفكرون… لا يتذكرون… لا يفقهون… لا يشعرون” أو كما في الجمل التالية: ذلك شعب يتفكر… ويفهم … ويعلم…” أو “لم لا تتفكرون … لا تتذكرون … هل أنتم على هدى … ولكنهم لا يشعرون …لا يعرفون… لا يفقهون”.

إن هذه العبارات ذات التلوينات العاطفية الواضحة لا تتطلب استخدام الفهم المنطقي الذي يطابق بين الفكرة الواضحة والحقيقة الخارجية عنها بصفتها حقيقة واقعية. ترد هذه العبارات أو الآيات- دائما بعد التذكير بنعم الله على البشر وتدخله في تاريخ النجاة الأخروية. إنها تنبه إذن إلى ضرورة الاندهاش والتعجب والاستحسان والـتأمل والاستبطان، استبطان الآيات لكي يعيش المؤمن رابطة الميثاق أو العهد بشكل أكثر كثافة وقوة. ولهذا السبب نلاحظ أن عضو الإدراك هو القلب وليس العقل، كما يتجلى ذلك واضحا في آيات عديدة من القرآن من مثل : “الله يفتح القلب أو الصدر للإيمان -أو على العكس- يختم على قلبه، يطبعه- ويجعله قاسيا -ران- ويعميه ويتركه لشهواته ونفاقه وكفره وكدره وعدم إحساسه ومعارضته، إلخ… على الرغم من أن وصف أو ذكر الحالات السلبية يغلب في القرآن على وصف الحالات الإيجابية –من مثل القلب الذي يفقه ويعلم ويتلقى ويخشى الله. هكذا ينبغي ألا نبني أوهاما كثيرة على تواتر المفردات ذات التلوينات العقلية في القرآن”.

كان لزامًا سوق هذا الكلام على طوله ودون بتره، ليتضح النفس الإيديولوجي الذي يسمه ويطبعه، ويتجلى ذلك من خلال عبارات الغمز واللمز، وكذا أسلوب التقعر والالتواء، والحشد المصطلحي الكثيف، دون أن يقيم الحجة على ذلك، وإنما يستعمل أرجون سلطته المعرفية وموقعه في الساحة ليمارس المصادرة على المطلوب بشكل فج ومفضوح. كما يسعى إلى محاكمة الخطاب القرآني إلى نموذج جاهز ماثل أمام ناظريه.

ويقول أيضا: فبالنسبة إلى فكر معاصر متعود اتباع نوع معين من البرهان، والإيحاء والوصف والسرد في نصوص يجري إنشاؤها بحسب مخطط صارم، فإن القرآن مدعاة للنفور بعرضه غير المنظم، واستخدامه غير المعتاد للخطاب، ووفرة إيحاءاته الأسطورية، والتاريخية، والجغرافية، والدينية، وكذلك بتكراره، وانعدام ترابط، واختصارا بمجموعة كاملة من الرموز التي لم تعد تجد البتة دعائم ملموسة سواء في طرق تفكيرنا أو في محيطنا الطبيعي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي”.

واضح من خلال هذه الدعاوى: استبعاد القرآن من تأسيس العقل الإنساني وضرورة الفصل بين العقلانية والنصوص الدينية العقلانية حيث المنطق والمنهج والاستدلال والسببية والتنظيم والعلم، والنصوص الدينية حيث الخطابة والجدل والمناظرة والخيال والإثارة والإفحام والبلاغة والمجاز والعاطفة والوجدان ودغدغة المشاعر.

وواضح أيضا المنحى الإسقاطي المثقل بالحمولة الإيديولوجية المسكونة بالتجربة الغربية، سواء ما يتعلق بالصراع الكنسي، أو بمفهوم العقل والمنهج الوضعي في العلم والمعرفة، ولا ريب أن لذلك أهدافًا ومرامي وخصائص وعناصر مشتركة بين أصحاب ذلك الاتجاه وهو ما أتطرق إلية في المحور الثاني.