إن ثقافة الإنسان تخضع لمكونات متعددة وظروف بيئية معينة، ومن ثم تتشكل الثقافة من خلال التأثير البيئي، والعادات والتقاليد والأعراف السائدة والأنماط المسيطرة والمهيمنة، كما أن هناك عدة عوامل تؤثر على ثقافة الإنسان، مثل العوامل الدينية، والتعليمية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإعلامية، والشخصيات المحيطة بالإنسان.
كل هذه العوامل لها أثر كبير في تشكيل البنية الثقافية، ودليل ذلك المخرجات الثقافية في المجتمع؛ فهناك الثقافة الإسلامية، واليهودية، والمسيحية.. وهناك المخرجات الفكرية كالثقافة الأحادية، والثقافة العلمانية، والليبرالية، والثقافة التصادمية، والثقافة المتسيبة.
وكثير من الناس -على مختلف مستوياتهم- لا يدركون معنى هذا المصطلح (مصطلح الثقافة)، ومنهم من لم يفهمه الفهم الصحيح، ومنهم من نظر إلى هذا المصطلح نظرة جزئية، ومنهم من قصر الثقافة والتثقيف على فئة بعينها. وتعدد هذه الأفهام والاختلافات ليس من سبيل اختلاف التنوع الذي يصل بنا إلى الثراء المجتمعي، ولكنه من قبيل اختلاف التضاد الذي يؤدي إلى فتنة ثقافية تستأصل الجهود العلمية والإبداعية والحضارية، ويجب على الجميع، خاصة العلماء والمفكرين وأصحاب الجهود العلمية والحضارية وغيرهم بمعاونة المسؤولين، البحث عن أسباب هذه الفتنة الثقافية، ومحاولة إيجاد الحلول المناسبة لوأدها.

أي حضارة -وإن اعتمدت على العلم- خالية من الجانب الإيماني والإنساني، تصبح حضارة جافة كالجثة الهامدة يشقى بها العالم؛ لأنها ستستخدم في الدمار والخراب.

فقدان الهوية

لقد شيد أجدادنا حضارات في شتى المجالات، وكان التفاعل الحضاري بين المسلمين وغيرهم تفاعلاً إيجابيًّا مع الحفاظ على شخصيتهم وهويتهم، والتمتع بالأهلية الحضارية الكاملة، لتثمر هذه العقول نهضة متسعة الأرجاء.
إن الذي يربط التقدم والتأخر بالإسلام قد يقع في خطأ منهجي؛ لأنه حاكَم الإسلام بأفعال المسلمين، ولو أزال الغشاوة عن عقله وفكر قليلاً لعلم الحقيقة وعرف السبب.. فتقدُّم الغرب، نتيجة لجهد وجهاد علمي وفكري، والعدل الإلهي في هذه المسألة يتعامل مع البشر من خلال أعمالهم وليس من خلال دينهم، كما يتعامل بقاعدة “لكل مجتهد نصيب” ولو كان غير مسلم، كما يتعامل مع كسالى العقل والفكر والإنتاج بنفس الميزان ولو كانوا مسلمين. فمن عمل وأنتج يحصل الثمرة الطيبة، والذي تكاسل لا يحصد إلا نكدًا، قال تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)(الأعراف:58).
إن النجاح الحضاري -كأي نجاح- يحتاج إلى فكر وعقل، ويد منتجة، ومشاركة فاعلة، وإخلاص، وكفاءات، ونهضة إصلاحية شاملة تجمع بين المادة والروح، والدنيا والآخرة.

أسباب الفتنة الثقافية

إن الفتنة الثقافية لها أسباب متعددة ومتشابكة، ومن أهم هذه الأسباب:

1- الجهل الثقافي

إن الجهل الثقافي يصدر معضلات كبيرة جدًّا تعرقل التفاعل الإنساني والحضاري بين الناس، ومن هنا فإن الجهل فتنة يجب دفعها، والثقافة المعاصرة ستصبح فتنة إذا لم يتم التعامل معها برؤية استقلالية ومنهج مستقيم. لذا فإن علاج الفتنة الثقافية بمكوناتها هو التحلّي بالثقافة الإسلامية، فهي الثقافة التي لا تتنازل عن هويتها، ولا تنعزل عمن حولها، فهي ثقافة تعطي وتأخذ، ولكن بمقدار وحساب.
إن الثقافة المنضبطة تتلاقى ولا تتنافر، تتنوع في مادتها. ومن العيب أن نقصر الثقافة على لون واحد من المعارف، ونسقطها على جانب واحد من أنماط الحياة، فبعض الناس يحصر الثقافة في الشكليات والعادات والتقاليد، وبعضه الآخر يحصرها في علم معين وجانب واحد من جوانب الحياة وإن خالفت هذه الثقافة العقائد والأخلاق التي تعد جانبًا مشتركًا ومحترمًا بين الجميع.
فالثقافة المنضبطة شاملة لجميع جوانب الحياة، شريطة أن تنطلق من معايير واضحة وثابتة لا تتعارض مع القيم والأخلاق والعقائد والجوانب الإنسانية، وأن تجمع هذه الثقافة بين الجانب المادي والروحي، حتى يكتب لها البقاء وتصبح نافعة.

2- الإفراط والتفريط

هناك اتجاهان في التعامل مع المعطيات الثقافية، أو مع الثقافة على وجه العموم والثقافة الغربية على وجه الخصوص، وهذان الاتجاهان هما:
أ- منهج الإفراط، أي الانفتاح المبالغ فيه على الغير.
بـ- منهج التفريط، أي الانغلاق المبالغ فيه على النفس.
إن التحرر من الفكر الغربي وعدم الذوبان والاضمحلال فيه، لا يعني أيضًا التقوقع والانغلاق، فالأمة الإسلامية في نهضتها الأولى أفادت من الأمم التي عاصرتها، وكانت هذه الإفادة عاقلة ومنضبطة، حيث لم تقبل الثقافة الغربية في صورتها الخام، بل شكلتها من جديد بما يوافق المنهج الإسلامي.

3- الهوة الكبيرة بين القيم والسلوك

هناك هوة كبيرة فاصلة بين القيم والسلوك، وبين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وهنا يحدث الاضمحلال الثقافي، وعدم القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، والعجز عن اتخاذ القرارات المصيرية، مما يضعنا في أزمة داخلية تفتح الباب على مصراعيه لشتى أنواع الغزو الخارجي.

كيفية وأد الفتنة الثقافية

من خلال الوقوف على أسباب الفتنة الثقافية، يمكن لنا وضع علاج ناجع لوأد هذه الفتنة، ويتمثل هذا العلاج في الآتي:
1- الوقوف على أهم معطيات الحضارة الإسلامية وفهمها فهمًا واعيًا، وإدراك أن الأساس الأول -الذي يحرم تجاوزه أو تجاهله- لهذه المعطيات الحضارية الإسلامية هو العلم، لذا كانت بداية الرسالة المحمدية للعالم كله “اقرأ”، وكل انطلاقة تفتقد هذا الأساس فمصيرها الذبول والزوال.
2- تدعيم الجانب العلمي بالجانب الإيماني والإنساني؛ فأي حضارة -وإن اعتمدت على العلم- خالية من الجانب الإيماني والإنساني، تصبح حضارة جافة كالجثة الهامدة يشقى بها العالم؛ لأنها ستستخدم في الدمار والخراب، وهذا ما نشاهده الآن على أرض الواقع، حيث مشاهد القتل، وسطو وتحكم القوي في الضعيف، وامتلاك طائفة معينة لموازين القوة في العالم.

إن الثقافة المنضبطة تتلاقى ولا تتنافر، تتنوع في مادتها. ومن العيب أن نقصر الثقافة على لون واحد من المعارف، ونسقطها على جانب واحد من أنماط الحياة.

3- تحقيق التوازن في التعامل مع معطيات الحضارة؛ فلا إفراط ولا تفريط، فنأخذ الجانب الإيجابي من كل الحضارات، ونتجنب السلبيات التي تضر، فالإسلام ليس دينًا منغلقًا على نفسه، وفى الوقت ذاته ليس منفتحًا الانفتاح الذى يفقده هويته وذاتيته.
4- مراعاة الجانب الأخلاقي والسلوكي: في مراحل السلم الحضاري والحرص الشديد، أن نقدم الأخلاق في صورة عملية وسلوك راق، ونتصدى بحكمة وحلم لكل سلوك وخلق يتنافى مع الأخلاق الإنسانية الفاضلة التي تعد عاملاً مشتركًا بين الحضارات كلها.
5- ضرورة الأخذ بالمنهج الانتقائي: نحن لا نريد أن نستورد قيم الغير كما هي لنبني عليها حضارتنا، فهنا مكمن الخطر الحقيقي والانهزامية، ومن هنا تظهر ضرورة الأخذ بالمنهج الانتقائي الذي يجنب الأمة فقد الهوية، ويكسبها اتزانًا حضاريًّا، واستمرارية في العطاء؛ لأن الأمة التي تستطيع أن تنتقي ما ينفعها وينهض بها هي أمة واعية، لأنها أعملت فكرها وعقلها واستطاعت أن تميز بين النافع والضار، وهي أمة يكتب لها البقاء، تفرض وجودها وتنشر ثقافتها التي تحمي الأمم كلها من المخاطر، وتحقق لهم السعادة الدائمة.