السَّعوط في السنَّة والطب الحديث

عرف الإنسان المداواة منذ العصور القديمة، وكانت أوائل الأدوية عبارة عن مواد طبيعية متواجدة في محيطه القريب، منها النباتية والحيوانية والمعدنية. ولا تزال بعض المجتمعات البسيطة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، تستعمل أدوية وعقاقير خاصة بها تتوارثها جيلاً بعد جيل بالخبرة والتجربة؛ فمثلاً استُخلصت علاجات قوية المفعول بعد غليها أو نقعها في الماء وشربها، لعلاج أمراض خطيرة -كالملاريا- من لحاء شجرة السنكونا (Cinchona sp)، الذي يحوي مادة الكينين التي ما زالت تستعمل إلى اليوم. واستُعمل لحاء شجرة الصفصاف الأبيض (Salix alba) لخفض درجة حرارة الجسم، والذي يحوي حمض الساليسيليك الذي اشتق منه دواء الأسبرين. كما استُخدمت الضمادات والكمامات واللَّبخات والتبخيرات والمراهم والزيوت والحقن الشرجية.. لعلاج الآلام والجروح والكسور ولسعات الحشرات ولدغات الأفاعي والإمساك وأمراض أخرى. واستطاع بعض الأطباء تحضير وَصفات طبية لعقاقير مختلفة مفردة ومركبة، وبمقادير مضبوطة تناسب كل حالة مَرَضية. غير أن بعض البشر استبدلوا العلاج الحقيقي بالسحر والشعوذة والتمائم، واختلط الطب بالشعوذة فضاعت العلوم الطبية.

ومع ظهور الإسلام اختفت أغلب مظاهر العلاج بالسحر والشعوذة؛ لأن في القرآن الكريم والسنة النبوية المبادئ الصحيحة للعلاج والشفاء الروحي والجسدي، باستعمال آيات القرآن والأدعية النبوية والأدوية المعروفة آنذاك. وقد ذُكر في القرآن الكريم بعض الأشفية، حيث قال تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(النحل:٦٩)، وقال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا)(الإسراء:٨٢). واستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم الدواء وأمر بالتداوي، وبَيَّن طُرق العلاج وحتى الشفاء؛ ففي مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن عِلاقة عن أُسامة ابن شَريك، قال: كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعرابُ، فقالوا: يا رسول الله أَنَتَدَاوى؟ فقال: “نَعَمْ يا عبادَ الله تَدَاوَوْا، فإن اللهَ عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً غير داء واحد”، قالوا: ما هو؟ قال: “الهَرَمُ”. وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لكل داءٍ دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دواءُ الدَّاء، برأ بإذن الله عز وجل”.

وهكذا واصل الأطباء المسلمون والعرب نهج القرآن والسنة، وأضافوا إلى مكتسباتهم العلاجية عُلوم شعوب أخرى كالصين والهند واليونان. وازدهرت الكيمياء والطب، واستقل علم الصيدلة عن الطب وتجارة العقاقير مع مرور الوقت، وصارت كتبهم تُدرَّس في أوروبا لقرون. ومع تطور العلوم والتقنية، تطور الطب والدواء وكذا تطورت طرق العلاج، فظهر الطب التجريبي أو علم الأدوية بمفهومه الجديد، انطلاقًا من منتصف القرن التاسع عشر ميلادي، وأضافت الكيمياء لمسة جديدة على الدواء الذي أصبح يُصنَّع أغلبه في المعامل (Chemical Synthesis)، فازدهرت تجارة الدواء وتسويقه وظهرت مصانع ومخابر كثيرة عبر العالم، تتنافس على جلب انتباه المريض بطرق مختلفة، منها تغيير الشكل أو اللون أو الذوق أو زيادة الفعالية العلاجية.

طرق تناول الدواء ومساراته

حتى يكون الدواء فعالاً، وجب أن يتميز بشكل وهيئة (Dosage Form) يمكن للجسم امتصاصه جيدًا ويتقبله المريض، ويجب أن يعطى بطريقة مُعيَّنة (Route of Administration) ليصل بأقوى تركيز ممكن إلى الموضع الذي يؤثر فيه أي الهدف (Target)، دون أن يُحدث آثارًا جانبية كبيرة، وهذا كله يختلف باختلاف الدواء والداء وحالة المريض وعمره. ويمكن لهذه العوامل وغيرها أن تؤثر في التوافر الحيوي للدواء، أي تركيزه في الدم (Bioavailability) والتي تحدد بداية فاعلية الدواء ومدته. وأهم هذه العوامل تأثيرًا، هي طُرق ومسارات تناول الدواء وهي عديدة، منها طريق الفم، والأنف، والرئة، والأذن، والعين، والحقن عبر الوريد أو والعضل، وتحت الجلد، ولُصاقات موضعية، ومراهم جلدية، وغير ذلك.. ولكل منها مزايا ومساوئ.

وعمومًا تُستعمل الأدوية بطريقتين رئيسيتين حتى يصل الدواء إلى كافة أنحاء الجسم عبر الجهاز الدوري الدموي، وهو ما يعرف بالامتصاص العام أو المجموعي (Systemic Absorption): إما الطريق الخلالي أي الحُقني عبر الجلد عن طريق الحقن (Parenteral)، أو الطريق المعوي الهضمي (Enteral) مباشرة في نقطة ما من الجهاز الهضمي، وبنسبة أقل، تُعتمد الطرق الرئوية (التنفسية) والأنف. أما الطرق الأخرى، مثل العيون والجلد، فتطبيقها يكاد يكون حصريًّا للأدوية الموضعية، ويعتبر طريق الفم هو الأكثر شيوعًا، أما الحقن فيخصص للحالات الخطيرة والمستعجلة، وفي المستشفيات أو أدوية خاصة مثل الأنسولين (ببتيدات).

وقد ذُكرت بعض الطرق لتناول الدواء في السنَّة النبوية كطريق الأنف والفم والجلد. روى الترمذي وغيره من حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إن خير ما تداويتم به السَّعوط واللدود والحِجامة والمشي”. فـ”السَّعوط” هو ما يُصَبُّ في الأنف، بواسطة أداة (وعاء) تعرف بالمُسعَط. واللَّدود بالفتح هو الدواءُ الذي يُلَدَّ به، أي ما يُسقى الإنسان به في أحد شِقَّي الفم، والمعنى أُخِذ من لَدِيدَي الوادي، وهما جانباه. وأما “الوَجُور” فهو في وسط الفم. و”الحِجامة” من الحَجَم وهو المص، وهو استخراج الدم من نواحي الجلد. أما “المَشِي” فهو الذي يُمشي الطبعَ وَيُليِّنه ويُسَهِّل خُروجَ الخارج. وهذه أفضل طرق التداوي وتناول الدواء في السنَّة النبوية. كما جاء استعمال زيت الزيتون عن طريق الفم والجلد، حيث روى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : “كلوا الزيت وادهنوا به، فإن فيه شفاء من سبعين داء منها الجذام”.

السعوط في الطب الحديث

إن توصيل الأدوية عن طريق الأنف تقليد قديم ولا يزال يستعمل إلى يومنا الحالي، وهو تناول الأدوية على أشكال مختلفة؛ قطرات، رذاذ، مرهم، محلول لغسيل الأنف، مسحوق، كريم. وقد يكون تأثير الأدوية موضعيًّا أو عاما (جهازيًّا). يشمل العلاج الموضعي احتقان الأنف والتهابه، والتهاب الجيوب الأنفية، والحساسية، والحالات المزمنة الأخرى، بواسطة أدوية مختلفة كالكورتيكوستيرويدات، ومضادات الهيستامين، ومضادات الكولين، ومضيق الأوعية. أما التأثير العام فهو محدود لمجموعة من الأدوية فقط، وأدوية أخرى لا تزال تخضع للتجارب السريرية، وأمثلة ذلك الأنسولين، ومضادات الالتهاب الستيرويدية، والأوكسايتوسين (هرمون ببتيدي)، ولقاح الأنفلونزا.

يعتبر مسار الأنف هدفًا واعدًا لتناول دواء ما، خاصة في التغلب على مشكل التمثيل الغذائي (الأيض) العالي للمرور الأول، وإمكانية تفكك الدواء في الجهاز الهضمي المرتبط بالإعطاء عن طريق الفم. ومؤخرًا كان التركيز على طريق الأنف لتوصيل الأدوية بشكل مجموعي لعدد أكبر من الأدوية. ويفضل استعمال الطريق الأنفي للأدوية غير الفعالة، عن طريق الفم، والتي تستخدم بشكل مزمن، وتتطلب جرعات صغيرة، وأن يكون الدخول السريع في الدورة الدموية أمرًا مرغوبًا. يتأثر معدل انتشار الأدوية من خلال الأغشية المخاطية للأنف بالخصائص الفيزيائية والكيميائية للدواء. ومع ذلك، فإن امتصاص الأنف للمركبات الكيميائية ذات الوزن الجزيئي الأقل من ٣٠٠، لا يتأثر بشكل كبير بالخصائص الفيزيائية والكيميائية للدواء.

يمكن أيضًا توظيف هذا الطريق لتوصيل الدواء مباشرة إلى الدماغ والجهاز العصبي المركزي، لأن توصيل الأدوية عبر الحاجز الدموي الدماغي (Blood Brain Barrier) يطرح العديد من التحديات والمشاكل. ويُعتقد عمومًا أن الأدوية تنتقل من تجويف الأنف إلى السائل الدماغي النخاعي (الشوكي) عبر النسيج الشمي، وبالتالي تتجاوز الحاجز الدموي الدماغي. فالعصب الشمي هو الهدف عندما يكون الامتصاص المباشر في الدماغ هو المقصود؛ لأن هذا هو المكان الوحيد في جسم الإنسان، حيث يتم التعبير عن الجهاز العصبي المركزي مباشرة على سطح الغشاء المخاطي للأنف. ومن الأمثلة على أدوية تتناول عبر هذا الطريق؛ مضادات الاكتئاب (Antidepressants) ومسكنات الألم، كما أن هناك تجارب لعلاج الزهايمر وأخرى على الحيوان لعلاج الباركنسون باستعمال دواء “L-dopa”.

من مميزات التجويف الأنفي، أنه مغطى بغشاء مخاطي رقيق غني بالأوعية الدموية، لذلك يمكن أن ينتقل جزيء الدواء بسرعة من خلال طبقة الخلايا الطلائية المفردة (Epithelium) مباشرة إلى مجرى الدم، دون الخضوع لتأثير المرور الكبدي الأول والاستقلاب المعوي، كذلك النفاذية العالية في الغشاء المخاطي للأنف، مقارنة بالبشرة أو الغشاء المعدي والمعوي، سرعة الامتصاص، عادة خلال نصف ساعة. تجنب تأثير المرور الأول الذي يحدث بعد امتصاص الأدوية من الجهاز الهضمي. تجنب آثار ركود المعدة والقيء، -على سبيل المثال- في مرضى الصداع النصفي. سهولة التناول من قبل المرضى الذين عادة ما يكونون على دراية بقطرات وبخاخات الأنف. التوافر البيولوجي (Bioavailability) للأدوية أعلى منه في حالة المسار المعدي المعوي أو الطريق الرئوي، وهو أنسب طريق لتناول الأدوية الببتيدية.

أما مساوئ هذا الطريق وهي قليلة مقارنة بالمميزات: إمكانية حدوث التهابات للجهاز التنفسي العلوي أو تهيج للغشاء المخاطي للأنف. أمراض الأنف قد تؤدي إلى ضعف الامتصاص. الجرعة محدودة بسبب المساحة الصغيرة نسبيًّا المتاحة للامتصاص. الوقت المتاح للامتصاص محدود. لا يُعرف سوى القليل عن تأثير نزلات البرد على توصيل الأدوية عبر الأنف، ومن المحتمل أن يؤدي وجود فائض من سيلان الأنف المائي إلى طرد الدواء من الأنف. وتقول بعض الدراسات أن المسار الأنفي لا ينطبق على جميع الأدوية، فامتصاص الأدوية القطبية وبعض الجزيئات الكبيرة غير كافٍ بسبب ضعف نفاذية الأغشية، والتدهور الأنزيمي في تجويف الأنف.

السعوط في الطب النبوي

ذكر أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم اسْتَعطَ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره واستعط، وفي السنن والمسند عنه من حديث جابر بن عبد الله قال: كانت عند أم المؤمنين عائشة امرأة معها صبي يقطر منخراه دمًا، فدخل رسول الله فقال: “ما شأن هذا الصبي؟” قالت: به العذرة، قال: “ويحكن يا معشر النساء لا تقتلن أولادكن، وأي امرأة كان بصبيها عذرة أو وجع برأسه، فلتأخذ قسطًا هنديًّا فلتحكه ثم لتسعطه”، ثم أمر عائشة ففعلت ذلك بالصبي فبرأ. (رواه أبو يعلى). وروى البخاري ومسلم عن أمّ قيس بنت محصن، قالتْ: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “عليكم بهذا العُود الهنْدي، فإن فيه سبعة أشْفِيَة: يُسْتَعَطُ به من العُذْرَة، ويُلَدُّ به من ذات الجَنْبِ”. والعذرة التهابات الحَلْق كانت تعالج بغَمْز الحَلْق بالأصابع أو بالخِرقة ونحوها، فيطْعنون بها الموضع فيتفجَّر منه دم أسود، وربما سبَّب قرحة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل الخطأ، وأرشدهم إلى العلاج الصحيح. فهذه الطريقة النبوية علاج لأمراض التهابات الحلق أو البلعوم أو اللَّهاة أو اللوزات، وكذا علاج وجع الرأس بتناول الدواء عبر الأنف. وهذا سَبْقٌ للطب النبوي في استعمال طريق الأنف لتوصيل الدواء إلى الدماغ وشفائه من الألم. كما أشار صلى الله عليه وسلم إلى العلاج بماء القسط، الذي يحتوي على مركبات تذوب في الماء (Hydrosoluble)، وفي الواقع أغلب الأدوية التي تُعطى عن طريق الأنف، ذات طابع مميز. كما أن توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم تحث على الرفق بالمريض وألاّ يُعَذَّب، خاصة إن كان صغيرًا، لوجود طرق بديلة غير مؤذية أو مؤلمة.

خاتمة

بالرغم من التقدم في علم الأدوية والصيدلة الحيوية (Biopharmaceutics) الذي أدى إلى تطورات مثيرة في الطرق التي يمكن بها تناول الأدوية، إلا أن طريق الأنف، أو السعوط في الطب النبوي، يبقى طريقًا واعدًا ومشجعًا (Promising Method) لاستعمال الأدوية، وخاصة لعلاج بعض أمراض الدماغ والجهاز العصبي المركزي في العصر الحالي، وقد سَبَق الرسول صلى الله عليه وسلم الإشارة إليه قبل ١٤٤٢ عامًا، فهو صلى الله عليه وسلم وحي يوحى، قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(النجم:٢-٤).

كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن استخدام طرق قاسية للعلاج، فالمؤمن هين لين، ويدعو صلى الله عليه وسلم إلى الرأفة والرحمة في التطبيب وفي كل شيء.

(*) أستاذة الكيمياء الصيدلانية، معهد الكيمياء، كلية العلوم، جامعة مسيلة / الجزائر.