الساعة البيولوجية.. سيمفونية الجينات والمجرات

بعد أن زاوج العلماء الثلاثة “جيفري هول” و”مايكل روزباش” و”مايكل يونج” آخر ما وصل إليه علم وظائف الأعضاء مع تقنيات البيولوجيا الجزيئية وعلم الجينات -وباستخدام ذباب الفاكهة كنموذج بيولوجي- تمكَّنوا من عزل الجين المسؤول عن التحكم في الإيقاع البيولوجي اليومي للذبابة، ونجحوا في تحديد البروتين الذي يحمل ذلك الجين شفرته ويعمل على إنتاجه، واكتشفوا مكونات بروتينية إضافية أخرى تتحكم في آلية عمل الساعة البيولوجية.
ولكن كيف يؤثر هذا الجين على عمل الساعة البيولوجية؟ أنفق هؤلاء العلماء الثلاثة -الفائز كل واحد منهم بجائزة نوبل- عقودًا للإجابة على هذا السؤال. وبعد عدة أبحاث أصيلة ورائدة، مُنحت جائزة نوبل للطب عام ٢٠١٧ مشاطرة بين العلماء الثلاثة، وإلى جانب الجهد والتعب والمجد والشرف العلمي العظيم، تقاسموا مبلغ ٨٢٥ ألف جنيه إسترليني قيمة الجائزة المادية. ولكن كيف حدث ذلك؟
تقنيات البيولوجيا الجزيئية
في عام 1971 لاحظ عالم الأعصاب الأميركي “سيمور بنزر” وتلميذه “رونالد كونوبكا، تعطل “الدورة اليومانية” (Circadian rhythm) لعدد من ذبابات الفاكهة المتحولة إحيائيًّا. كانت فكرة وجود أسس جينية للإيقاع الدوري لفقس الذباب محل جدل في ذلك الوقت، ولكنّ العالِمين أرجعا السبب إلى حدوث تغييرات إحيائية (طفرات) داخل أحد جينات الذباب تسببت في تعطيل الساعة البيولوجية لديها. لم يتم تحديد الجين المسؤول عن الساعة البيولوجية آنذاك، ولكن عندما تم عزله لاحقًا مُنح اسم “جين الفترة” (Period)، أي الجين الذي لم يكن معلومًا في تلك الفترة.
بدأت الدراسات الجينية للساعة البيولوجية عام 1984، بفريقين يعملان في توقيت متزامن تقريبًا، قاد الفريق الأول “جيفري هول” و”مايكل روزباش” في جامعة برانديس بولاية ماساتشوستس الأمريكية، والفريق الثاني كان “مايكل يونج” يقوده في جامعة روكفلر بنيويورك؛ درس الفريقان بدقة وعمق جينات ذباب الفاكهة على مدار 24 ساعة، وعلى الرغم من عملهم المنفصل في إجراءاته المعملية، إلا أن تبادل الأفكار والاقتراحات بين الحين والآخر ساعد على تطوير الأبحاث وتسريع خطوات الحصول على النتائج.

الساعة البيولوجية الغامضة

نجحت محاولات عزل الجين الذي يتحكم بالإيقاع البيولوجي، وثبت أنه عند تعطل هذا الجين تفقد ذبابة الفاكهة ساعتها البيولوجية، وكان ذلك إثباتًا لكون هذا الجين هو المسؤول عن هذه الوظيفة الحساسة. تم أيضًا التعرف على البروتين “بي إي أر” (PER-protein) الذي يحمل ذلك الجين شفرته. وقام العلماء باستنساخ هذا الجين، وتمكنوا من التحكم في إنتاج البروتين “PER”، واكتشفوا أنه يعمل على تعديل معدلات إفراز هرموناتنا، ويتحكم في نشاط الأيض في خلايانا، ويؤثر في سلوكنا، ويعمل على تعديل فترات النوم واليقظة، وضغط الدم، وضربات القلب، ودرجة حرارة أجسامنا، ونشاط كل عضو فيها حسبما يتطلب اختلاف النهار والليل.. وثبت أن ذلك المؤقت الذاتي داخل الخلية ليس قاصرًا على ذبابة الفاكهة فقط، بل يوجد بنفس الآلية ولنفس الغرض، في جميع النباتات والحيوانات، وكذلك الإنسان.
نحن ممتنون للغاية لذبابة الفاكهة التي تعرفنا -من خلال جيناتها- على الجينات والبروتينات المسؤولة عن الساعة البيولوجية الغامضة التي تدور عقاربها وتدور تروسها برشاقة ودقة دون ضجيج في أعماقنا.

سباق البروتينات

اكتشف “جيفري هول” و”مايكل روزباش”، أن مستويات البروتين “PER” تتأرجح ارتفاعًا وانخفاضًا على مدار 24 ساعة، فهذا البروتين يتراكم داخل الخلية كل ليلة، ليبلغ ذروته قبل أن يبدأ في التحلل مرة أخرى مع حلول النهار.. ولكن كيف تتكرر هذه التذبذبات البيولوجية يوميًّا على هذا النحو من البراعة؟
جاءت الإجابة بعد عشر سنوات (عام 1994) من جامعة روكفلر، عندما اكتشف “مايكل يونغ” أن توقف إنتاج البروتين “PER” مع حلول الصباح لا يحدث كـمجرد ردة فعل مثبطة نتيجة لتراكمه، ولكن هناك جين آخر يسمّى “جين الوقت المزدوج” (Double time)، يحمل ذلك الجين شفرة لتخليق بروتين جديد أسماه البروتين “TIM”، إذ عندما يلتقي هذا الــبروتين بالبروتين “PER” داخل الخلية، فإنهما يتلازمان معًا، ويتحركان نحو نواة الخلية ليوقفا عمل الجين “Period”. وهذا هو السبب وراء توقف الخلايا عن إنتاج المزيد من البروتين “PER”، وليس بسبب التراكم والتغذية المرتجعة كما كان يُعتقد سابقًا.
وفي نهاية تسعينيات القرن الماضي، درس العلماء الثلاثة، وعلماء آخرون، التنظيم الجزيئي لجين “الفترة” والبروتين “PER” الذي يشفره، واكتشفوا جينات أخرى مثل “Clock”، و”Cycle”، إلى جانب الجينات التي تم اكتشافها سابقًا، تتشارك جميعًا في تنظيم الساعة البيولوجية.
كشفت عدة أبحاث أخرى عن الآليات الجزيئية المعقّدة بين الجينات المُنظمة لعمل الساعة البيولوجية، وحددوا مكونات إضافية جديدة للساعة البيولوجية ومجموعة من البروتينات الإضافية المطلوبة لتفعيل “جين الفترة”.
إن هؤلاء العلماء الثلاثة الذين تمكنوا من الولوج إلى تروس وماكينات ساعتنا البيولوجية، وكشفوا عن عبقرية إيقاعها الداخلي الذي يسمح للكائنات الحية بالتكيف اليومي مع دورة الضوء والعتمة المرتبطة بدوران الأرض، وأوضحوا الكثير عن الآليات الجزيئية لانتظام الساعة البيولوجية التي بدأنا نسمع تكاتها مؤخرًا.

سيمفونية الجينات والمجرات

إذا ذهبنا في رحلة إلى نواة الخلية عند لحظة الصفر في الدورة اليومية التي تبدأ بعد الغروب مباشرة، فإننا نكاد نسمع تكات الساعة البيولوجية أثناء عمليات نسخ وترجمة الجين المسؤول عن تكوين البروتين “PER”، وتظل عملية تخليق البروتين مستمرة إلى أن تبدأ عملية تخليق بروتين آخر مع حلول النهار؛ فيبدأ البروتين الأول المتراكم عبر ساعات الليل في التحلل مرة أخرى، وتتتابع عملية “التراكم” و”التحلل”، فيما يشبه الملاحقة بين بروتين الظلام وبروتين الضوء، حيث يطارد بروتين النهار بروتين الليل يوميًّا في حلقة محكمة ذاتية التنظيم.
ولكن إذا ذهبنا في رحلة إلى الفضاء الكوني، وأخذنا نلتقط صورًا للكرة الأرضية وهي تدور حول نفسها، ثم قمنا بعملية تسريع لتلك الصور، فإننا سنرى بوضوح حركة التلاحق والتعاقب المتتالية لدورة الظلام والنور.. كما سيُظهر الفيديو المُعدّل بآلية التسريع أيضًا، أن الليل هو الأساس الذي يشغل الجزء الأكبر من هذا الكون؛ فالعتمة تحيط بالكرة الأرضية التي يغشاها الليل من كل جانب ما عدا طبقة رقيقة هي طبقة النهار، وأن الظلام يلحق بهذه الطبقة الرقيقة من الضوء بحماس لا يفتر دون أن يسبقها. وقد صوّر لنا القرآن الكريم هذا السباق بقوله تعالى: وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ(يس:40). وبكلمات قليلة اختزل مشهد الليل وهو يتعقب النهار ويلحقه باستمرار: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا(الأعراف:54).
الأبحاث الجينية أثبتت أيضًا، كيف يطلب البروتين الثاني المُصنّع بالنهار، البروتين الأول المُصنّع بالليل، وكيف يلاحقه ملاحقةً حثيثة، وكيف تضبط هذه المناوبة بين الجينات المزامنة بين النشاطات الحيوية داخل الخلية والساعة الكونية على مدار اليوم. وهذه المزامنة الوثيقة بين إيقاع ساعاتنا الداخلية والساعة الكونية، هي التي تتحكم في العديد من الوظائف البيولوجية، مثل مستويات الهرمونات، ودرجة حرارة الجسم، وعملية التمثيل الغذائي.. كما تضبط ساعات النوم والطعام وتكييف ضغط الشرايين.. وهكذا تتكامل العلوم لتعيد رسم أفهامنا للحياة، حيث يحيط علم وظائف الأعضاء، بالظواهر الكبيرة والقواعد العامة لأجهزة جسمنا وأنسجته، ثم تتسلم الراية علوم البيولوجيا الجزيئية، لتكتمل الفسيفساء الميكروسكوبية، وتكتمل قطع “البازل” الفريد الذي يمثل كياننا.

بصمة واحـــدة

إذا كان هناك ملاحقة الليل على النهار -والعكس بالعكس- على مستوى الكرة الأرضية والساعة الكونية الكبرى، فهناك أيضًا سباق دائم على مستوى الجينات والبروتينات والآليات الجزيئية التي تنظم إيقاع الساعة البيولوجية داخل خلايانا.
وليس البيولوجيا الجزيئية وحدها القادرة على سبر أغوار هذا الجسم البشري المعجز، بل إننا نجد بصمة واحدة فوق جميع المخلوقات؛ الكونية والمجهرية، الضخمة والدقيقة.. ثمة تناغم وانسجام بين إيقاع الكون الكبير الهائل والكون متناهي الصغر الذي يشكل أجسادنا.. والإبحار في كليهما يوصل إلى نتيجة واحدة، هي أن تنوع الخلق يدل على القدرة والإبداع، وتشابه وحدة التركيب في الخلق يدل على الوحدانية والانفراد.