الرياضة الروحية وتحسين السلوك

تنتشر داخل المجتمعات اليوم، النظرة والمعايير الفردية التي يتولد عنها نوع من فهم مغلوط لدى الفرد نفسه؛ فمثلاً إذا كان هناك شخص سيء الخُلق وعاتبه أحدهم لسوء خلقه، لن يكون رده سوى “هكذا أنا”، و”هذا طبع فيّ جُبلت عليه”، بل “هكذا أُعبر عن نفسي وهذا هو أنا الذي يجب أن أعبر عن حقيقته”.. الأمر الذي يفتح على هذا الشخص بابًا من التلَف الروحي والنفسي، ليجد معه فراغًا هائلاً داخل ذاته الإنسانية. ولأنه لا يبحث عن علاج، يتمادى في أفعاله السيئة التي تؤدي بالضرورة إلى نتائج عديدة لا تخدم هذا الفرد نفسه، ولا تعود بالنفع على المجتمع من حوله. ومن هذه النتائج انتشار الفساد والأفعال السيئة داخل مجتمعات اليوم، وبالتالي استخدام هذه المنطقية الخاطئة لتبرير كل فعل أو خُلق يخالف ما يجب أن يكون عليه الإنسان. وإن هذا الأمر لم يستشر فجأة، ولكن هذه المنطقية خدمتها الفلسفات الغربية، والفلسفات ما بعد الحداثة، بشخصنة كل شيء؛ فلا ثابت هناك، ولا يوجد ما هو موضوعي لدى هذه الفلسفة، بل كل شيء خاضع لتقييم شخصي بحت. مثلاً، إذا تخيلنا أن هناك شخصًا يعتقد أن الكذب والخداع أمر جيد -بالنسبة له- لأنه يتربح من خلاله، فسيدفعه ذلك إلى الظن بأن الصدق والإنصاف في المعاملة أمر سيء، بل سيعتقد أيضًا أن هذه الصفات في حد ذاتها ليست لها أيّ معنى لعدم جلبها الربح. وإن هذه الأيديولوجية تم الترويج لها بنماذج مختلفة داخل عدد لا بأس به من المسلسلات والأفلام العالمية.

إن ما تطرحه هذه المقالة، هو الإجابة عن السؤال الأصلي في هذه المسألة، وهو: هل يمكن تغيير الطبع والسلوك، أم أن هذا أمر فطري لا يمكن تغييره؟ وما علاقة ذلك بالرياضة الروحية؟ إن هذه التساؤلات جديدة وقديمة في الوقت نفسه، فالعلماء والفلاسفة من زمن أفلاطون، تحدثوا وتساءلوا.. ونحن اليوم سنحاول تقديم طرح يحمل بعضًا من المعقولية. نقول أولاً إن منطلقنا البحثي هو النفع المجتمعي، وإن أي جواب أو طرح يؤدي إلى الخلل الاجتماعي بالضرورة، ليس مطلوبًا أو حتى مرغوبًا فيه.

إن الطباع تتغير وتتحول في كلا الاتجاهين السيء والجيد، وإن الإنسان يملك بإرادته القدرة على اختيار الطباع التي يريد أن يتحلى بها، ولكن هذا لا يتم إلا من خلال ما يطلق عليه الصوفية بـ”الرياضة”. ومصطلح “الرياضة” يعبر عن عملية تغيير الطبع بصورة مثالية، فجميعنا يعرف أن لتقوية بنية الإنسان الجسدية، لا بد من المداومة على ممارسة الرياضة، وهذه المداومة تثمر نتائجها بعد عدة أشهر، بل إن كان الإنسان يستهدف تحقيق بنية مثالية، فقد يستغرق الأمر أعوامًا من المواظبة على ممارسة الرياضة والمتابعة مع مدرب متخصص، بل الأمر لا يتوقف عند حد الوصول إلى تحقيق الهدف المطلوب، إنما المحافظة على ما وصل إليه الشخص من جسد ممشوق القوام وعضلات مفتولة، لا يدوم ويستمر على هذا الشكل إلا بالحفاظ على ممارسة الرياضة بصورة منتظمة. وهاك مثال آخر يقرب فكرة الرياضة الصوفية؛ جميعنًا يحض الصغار على قراءة الكتب لأنها تنمي العقل وملكاته، ومع مرور الوقت والمداومة على القراءة يصبح الشخص أوسع أفقًا وأكثر إدراكًا، وكأن القراءة تمثل نوعًا من الرياضة العقلية للإنسان، ومطالعة كتاب ما واستيعابه والتناقش مع أحدهم حوله يمثل رياضة عقلية تقوي الفهم والإدراك.

إن الإنسان ليس جسدًا فقط، فهناك روح تسكن هذا الجسد، كما أن الإنسان ليس عقلاً فقط، فهناك قلب يميل ويوجه هذا العقل، والدخول إلى عالم القلب هذا، يحتاج رياضة من نوع خاص تتيح للإنسان فتح باب هذا العالم والولوج إليه واستكشاف درجاته.

الإنسان ليس جسدًا فقط، فهناك روح تسكن هذا الجسد. وليس عقلاً فقط، فهناك قلب يميل ويوجه هذا العقل.. والدخول إلى عالم القلب، يحتاج رياضة من نوع خاص تتيح للإنسان فتح باب هذا العالم والولوج إليه واستكشاف درجاته.

والرياضة لدى الصوفية تعني تزكية النفس، وتهذيب الخلق، أو كما يعبر عنها الأستاذ فتح الله كولن هي: “انضباط الحياة وانتظامها، أي ابتغاء الحمد والشكر في المأكل والمشرب والقيام والقعود، وتقييد كل هذا بمقاييس الحاجة”.

بالطبع فإن عملية تهذيب الخلق ليست عملية سهلة، ولكن كما يقول الإمام الغزالي: “إن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة، وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعًا. فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعًا واعتيادًا وتعلمًا، فهو في غاية الفضيلة، ومن كان رذيلاً بالطبع واتفق له قرناء السوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها، فهو في غاية البعد من الله عز وجل.. وبين الرتبتين من اختلفت فيه من هذه الجهات ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صورته وحالته”.

ولذا فعلى من يريد أن يحسن من سلوكه، أن يتوجه بعزم وإرادة صادقة نحو ذلك، وأن يصادق من يدله على ذاك السلوك الحسن، ويقتدي بمن هم أصحاب خصال حسنة؛ ليرتفع حسن هذا الفعل من الحواس إلى القلب، فيصير حسن الخلق له فطرة ثانية يتحلى بها ويصلح بها ذاته، ويصير نافعًا لمن حوله في المجتمع.

جزء آخر من الرياضة وحسب تعريف الأستاذ فتح الله كولن “هو الوصول إلى حالة من الانضباط والانتظام داخل حياة الفرد، وتقييد كل أموره بمقاييس الحاجة”. إن الجانب اللافت في هذا التعريف أنه يطرح رؤيةً وتصورًا للحياة، معتمدًا على محاكاة كونية. فكل شيء في الكون حولنا يسير في نظام وانتظام دقيق، يشير إلى أن الخالق سبحانه خلق كل شيء بميزان دقيق وبمعيار حساس، وهو ما استدل به مجموعة كبيرة من علماء الكون والفيزياء في كتاب صدر تحت عنوان “دلائل وجود الله في الكون المتسع”؛ فكأن الخالق سبحانه يتحدث إلينا مباشرة عبر مخلوقاته سواء في مجالها الكوني أو في نطاقها البيولوجي، فخلق الإنسان نفسه بأعضائه المختلفة التي تؤدي وظائف في غاية الدقة، بحيث لو أن أحد الهرمونات أخل بوظيفته بمعيار ضئيل للغاية، قد يؤدي ذلك إلى خلل وظيفي كبير لجسم الإنسان.. وإن كان الأمر كذلك فالانضباط السلوكي والخُلقي، يجعل من الإنسان مخلوقًا يتناغم مع خلقته ومع الكون من حوله، ولا بد أن هذا الانضباط سينعكس بصورة كبيرة على علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بالمجتمع من حوله، وسيحفز الآخرين على الانضباط.

أما النقطة الثانية في التعريف الذي قدمه الأستاذ فتح الله كولن، والتي تحتاج إلى معالجة أكاديمية مطولة، فهي ” تقييد كل أموره بحسب الحاجة”. إن الأستاذ فتح الله كولن وهو يقدم هذا التعريف، يقدمه لتحقيق نفع حقيقي للإنسان الفرد والمجتمع، ويعرض أسلوب حياة يخالف الأسلوب السائد في عالمنا اليوم. فالواقع الذي نحياه يغرز فكرة الاستهلاك غرزًا داخل السلوك الجمعي، وهذا ما نراه واضحًا في الإعلانات المختلفة حيث السعادة تساوي التملك أكثر والشراء أكثر والرفاهية الأكثر.. ولذلك تستشري المعايير النفعية التي تسوق العديد للشعور الدائم بالإحباط، لأنه لا يمتلك شيئًا ما حتى وإن كان هذا الشيء تحسينيًّا أو لا حاجة له فيه سوى أنه سيظهر الشخص بمظهر السعيد، وسيضفي عليه طابع الرفاهية والوجاهة الاجتماعية. يقدم الأستاذ فتح الله كولن هنا نموذجًا حياتيًّا بديلاً يعتمد على فكرة الاستغناء عن التحسيني والاكتفاء بالاحتياج الضروري للإنسان. ففي النهاية، السعادة الحقيقية لا توجد عبر تملك الأشياء، بل من خلال علاقة مع خالق الأشياء جميعها، فبينما الثقافة الحديثة تدعو للإسراف والتبذير، يدعو الأستاذ كولن من منطلق صوفي اجتماعي، إلى حياة اقتصادية للفرد والمجتمع. وفي نفس الوقت يجب أن نلفت النظر إلى أن الأستاذ كولن لا يدعو إلى البطالة والاتكالية، بل إنه يدعو في الوقت ذاته إلى الكد والعمل باعتبارهما واجبًا دينيًّا.. فما دام الإسلام فرض الزكاة، فعلى كل مسلم العمل على تحقيق هذا الفرض من خلال السعي والكسب المباح.. وما يطرحه الأستاذ كولن هنا، هو بدلاً من إنفاق الزائد على الحاجة في أمور تحسينية تستخدم للمباهاة غالبًا، يجب استخدام هذا الزائد عن الحاجة لتحقيق حاجة الآخرين داخل المجتمع، الأمر الذي سيؤدي لتحقيق توازن اجتماعي وسيقلل الفجوة بين الطبقات، وسينشئ بين أفراد المجتمع حسًّا تضامنيًّا عاليًا.. فمن ناحية يحفز على العمل، ومن ناحية يضع ضوابط للإنفاق، ومن ناحية ثالثة يجعل الفرد فاعلاً رئيسيًّا داخل المجتمع.

إن كثيرًا من المفاهيم الصوفية مجمدة داخل كتب تراثية قلّ من يطلع عليها ويزيح عنها غبار القرون الفائتة، ولذلك نجد أن الأستاذ فتح الله كولن يتجاوز إزاحة غبار القرون، إلى بث الروح في هذه المفاهيم وإعادة إحيائها داخل المجتمع والفكر الإنساني.

(*) كاتب وباحث مصري.

المراجع

(١) كتاب تلال القلب الزمردية نحو حياة القلب والروح، محمد فتح الله كولن، الجزء الثاني، دار الانبعاث للنشر والتوزيع، القاهرة ٢٠٢٠.

(٢) إحياء علوم الدين، الإمام الغزالي.