الرُّواد في كلَّ شيء هم الذين يشقّون لمن بعدهم طريقًا جديدةً يسيرون عليها، وعلى هذا يمكننا تحديد مفهوم الريادة بأنه: تحقيق الأسبقية في شقّ الطريق الأول برفق وسكون وأناة، بعد تخطيط قد لا يشعر به الآخرون، مع الحفاظ على تلك الأسبقية زمناً تتحدد فيه معالم ذلك الطريق لمن بعدهم.

ومع تفاوت الاختصاصات ونسبة الزمن المقدّر لظهور الرّيادة، إلا أنّ تحققها في مجال بعينه ومكان وزمان بعينه يتطلب تظافر أمرين مهمين: وجود جهة متخصصة تأخذ على عاتقها هذه المهمة الحضارية الكبرى، ووضح المعارف والأخلاقيات والتطبيقات الجديدة التي تحققت الريادة بسببها.

خصوصية الريادة الحضارية للمسلمين

إذا استعرضنا التاريخ العلمي لتحليل مناهج الريادة في باب استقلالية العلوم الشرعية بذاتها، ثم تناولنا كل علم منها على حدة مستخرجين فنونه المتعددة، والخطوات التي تبعت ذلك في ضبط مصطلحاته ومسائله ومؤلفاته، وجهود روّاده الأوائل لوقفنا أمام تاريخ عظيم، حافل بالعمل، ومليء بالإنجاز. وإذا استعرضنا تاريخ العلوم كذلك، لا من وجهتها العلمية، وإنما بسماتها الحضارية، لوجدنا تلك الريادة الفريدة شاملة لكل مناحي الحياة.

لقد حفظ الله تعالى سند العلوم الشرعية التي بها حفظ الدين، وأحاطها برعايته، وقيّض لها رجالاً يذبّون عتها ويجدّدونها بين الحين والآخر، لكن إذا انتقلنا من جديد إلى دراسة تاريخ العلوم الإسلامية ومنطلقاتها العلمية والأخلاقية، وأهدافها السامية، بوجهيها: العلمي التطبيقي المبني على المشاهدة الواعية للوصول إلى الحقائق، والحضاري الذي أخذ على عاتقه مهمة الرفع من مكانة الإنسان المكرّم، والسمو به في عالم الفضائل، وتوجيهه صوب الإعمار الحقيقي للكون، فإنا نجد أنّ ذلك التوازن بين العلم التطبيقي والنِتاج الحضاري الإنساني ظل متصلاً بشكل تكاملي، ولا يُتصوّر انفصامه في بقعة يرتفع فيها الآذان، طوال قرن من الزمان، ثم انقطع لسبب خفي. من بلاد المسلمين ليظهر من جديد في الغرب، ولكن بسند جديد، وتاريخ جديد، ولغة جديدة، وأهداف وقيم جديدة كذلك.

وهذا ما يصرّح به الدارسون لتاريخ العلوم الغربية اليوم: إنّ هناك على الدوام حلقة مفقودة في تاريخ المصادر الأصلية لتلك العلوم، وقفزة زمنية هائلة لا يقبلها المنطق السديد والعقل الرشيد! ومن تتبع تاريخ جملة من العلوم التربوية والاجتماعية، على سبيل المثال، وجد أن هناك شبه إجماع على تحديد نسق تاريخي مكون من ثلاث حلقات رئيسة:

  • تبدأ أولاً بحلقة التعريف بالجهود الأولى في الحضارات القديمة قبل الميلاد، وتشير على وجه الخصوص لإسهامات الصينيين القدماء، وتعاليم كونفوشيوس، وجهود الفراعنة في مصر القديمة.
  • تلي هذه الحلقة في تاريخ العلم حلقة الجهود الإغريقية، وتحتفي على وجه الخصوص بجهود كل من سقراط وتلميذه أفلاطون، وبخاصة ما أودعه في كتابه الشهير (الجمهورية)، وفي هذه الحلقة يرد كلام موسع عن الجهود الرومانية القديمة في تعزيز مفهوم ذلك العلم.
  • وفجأة يقفز بك تاريخ ذلك العلم قرابة ثلاثة آلاف سنة ليحدثك عما آل إليه في القرن السادس عشر الميلادي على أيدي الأوربيين!! ومعها يبدأ مسلسل التاريخ الحديث لذلك العلم مسطراً جهود العلماء الغربيين وإسهاماتهم في مفاهيمه وتطويرهم لنظرياته وتطبيقاته!!

هذا ما تجده وأنت تتنقل بين تاريخ العلوم المعاصرة، وفي كل مرة يحدث التجاهل للحلقة الأشد وضوحًا في تاريخ العلوم الإنسانية والتطبيقية ألا وهي حلقة الإسهامات الإسلامية التي ظل الغرب يعتمد عليها طويلاً قبل أن يصل إلى ما وصل إليه، لدرجة عبّر عنها (بريفولت) بقوله: ليس هناك مظهر واحد من مظاهر التقدم الأوربي إلا وفيه أثر حتميّ النفوذ للثقافة الإسلامية. وقال (سيديّو): إن العرب (ويقصد: المسلمون عموماً) كانوا أساتذة أوربا في جميع فروع المعرفة.

ونتيجة لهذا التغييب ـ المتعمّد ـ لحقبة النبوغ الريادي في العلوم الإسلامية وقع الغرب في الخطأ الكبير، حين لم يستفد ـ في يقظته العلمية الأخيرة ـ من الريادة التكاملية في المنهج العلمي لدى المسلمين: الريادة التخصصية المهنية، والريادة القيمية الأخلاقية، وبسببه تحول المنهج العلمي الغربي المعاصر إلى هويته المادية البحتة التي تفتقر إلى القيم والأخلاق.

وكثير ممن يُنصف العلوم الإسلامية ويُظهر ريادتها وأسبقيتها، يقع هو الآخر في الخطأ ذاته حين يُغرق في ذكر نماذج من الريادة الإسلامية في العلوم التطبيقية، ولا يكاد يتوقف مع الريادة القيمية لتلك العلوم.

نماذج من الرّيادة القيمية للمسلمين في العلوم التطبيقية

لم تزل المؤلفات التي تؤكد ريادة المسلمين في مجال الطب تشير إلى أنه -منذ القرن الثالث الهجري- كان هذه المهنة إسلامية بحتة يُرجع فيه إلى عباقرة أطباء المسلمين من أقاصي الدنيا. وقد تتبع الباحث (ميير هوف) ثلاثة وأربعين مؤسسة طبية إسلامية من بغداد إلى مراكش ومن اسطنبول إلى سوريا ومصر كان لها حضورها العالمي، وتأثيرها الكبير على صناعة الطب آنذاك.

شواهد من الريادة الإسلامية في العلوم الطبية

والشواهد على تفنن المسلمون في مجال الطب وريادتهم فيه كثيرة لا تخفى على أهل الاختصاص؛ فعلى صعيد المستشفيات كانت توجد في بلدان المسلمين ثمانية أنواع من المستشفيات التخصصية: المستشفيات المتنقلة للقرى والبوادي، والمستشفيات المتنقلة الخاصة بالسجون، وأخرى خاصة بالأمراض العقلية، وأخرى خاصة بالجذام، وأخرى بمثابة محطات للإسعاف، وهناك المستشفيات الخاصة بالجيش، والمصحات الخاصة بمأوى العميان والأيتام والنساء العاجزات، وأخيراً المستشفيات العمومية في المدن الكبيرة، ولربما وجدت في المدينة الواحدة عدة مستشفيات بحسب اتساع المدينة وكثرة سكانها، وقد كان العلاج مجانيًّا في جميع مستشفيات الدولة الإسلامية، يشمل ذلك: مجانية الإقامة، والغذاء، والعقاقير، والألبسة، إضافة لتعويض مالي لشهر كامل يُدفع للمريض عند الشفاء والخروج من المستشفى.

وقد كان انتشار المستشفيات سمة بارزة للمدن الإسلامية، ولم يكن لهذه المستشفيات مثيل في العالم، حيث كانت كالقصور الفخمة، فيها الأجنحة الكثيرة والغرف والماء الغزير والفرش الجيد، والموقع الصحي. ويكفي أن نعلم أن في قرطبة وحدها كان يوجد أكثر من خمسين مستشفى لا مثيل له، ثم تقلّص ذلك العدد إلى أقل من النصف بعد سنوات من دخول النصارى، وعُطلت منافعها، وتدنّت مستوى الخدمات فيها.

واختيار مكان المستشفى ـ هو الآخر ـ كان يتم بعناية فائقة تخضع لمواصفات خاصة، يراعى فيها: الهواء النقي والرطوبة والإنارة وطهارة التربة، وتُجرى على ذلك فحوصات وتجارب دقيقة يطول ذكرها والاستشهاد لها، ويتم تمويل ذلك كله من بيت مال المسلمين؛ حيث كانت الدولة ومعها الناس يرصدون الأوقاف والأموال الطائلة على هذه المستشفيات، وعلى العاملين، والباحثين والطلاب بها.

وما يقال عن الريادة في بناء المستشفيات والعناية بها يقال كذلك عن تعلم مهنة الطب وتعليمها؛ فقد كانت دراسة الطب تتم عمليًّا في تلك المستشفيات نفسها، التي كان يقودها أفذاذ وعباقرة العالم في الطب آنذاك في شتى التخصصات، ينتشرون في جميع المدن والأمصار الإسلامية، ولهذا ظهرت أسماء لامعة في ريادة مهنة الطب التخصصي، لا يزال ذكرها في أوربا حتى الآن، ولا يتسع المقام لذكرها. لقد تناول هؤلاء الرواد جميع الأمراض التي تصيب الإنسان، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وكثيراً ما يجتمع عدد منهم للتشاور في تشخيص الحالات المستعصية وعلاجها، وكذا في العمليات الجراحية الكبرى؛ فقد كان هناك طبيب للتخدير، وآخر لمراقبة النبض، وثالث يُجري العملية، ومساعد يمسك مبضع الجراح بآلة ذات شقّين، ومن هنا انتشرت كتبهم الطبية البارعة في أرجاء العالم، وبخاصة في تشخيص الأمراض، وذكر العلاج، وتصوير أدوات الجراحة، وعرض الرسوم التوضيحية للأمراض التي تعتري الجسم، وصور أخرى لطلاب وهم يجتمعون حول رئيس الأطباء في المستشفى وهو يشرح كيفية فحص المريض ويشخّص المرض ويصف العلاج. وتنوّعت المؤلفات في الطب، فهناك تخصص يتناول الأمراض وأنواعها وأسبابها، وهناك تخصصات في الأعضاء، كطب العيون وسائر أعضاء البدن الأخرى، وأخرى في العظام، تجد فيها فحصاً دقيقاً لآلاف العظام والجماجم. وهناك علم الأدوية، وعلم الآلات الجراحية ونحوها.

من مظاهر الريادة القيميّة لأطباء المسلمين

هذا القدر الرفيع من إظهار الأسبقية كاف بحد ذاته لإثبات الريادة لو أردنا المقارنة بين ما كان عليه المسلمون في عصورهم المشرقة، وما كانت عليه أوروبا في عصورها المظلمة. غير أن هناك مضمار فريد آخر للريادة في مجال الطب لا يجب أن نغفل عنه، وهو الريادة القيمية في مجال العلوم الطبية الإسلامية التي لا تجد فيها منافساً على الإطلاق.

ولكل فنّ إسلامي أصيل ريادته القيمية، ومجال التنقيب عن معالمها ينصبّ على عاتق المختصين في ذلك الفنّ، بثبات وموضوعية ومصداقية، بعيداً عن التحيّز والعواطف، واستناد على الحقائق والأرقام والشواهد.

ومؤشرات هذا النوع من الريادة الطبية وشواهده في المجالات المهنية والأخلاقية يظهر عند تحليل المناهج الدراسية في تلك المستشفيات والمعاهد الإسلامية العريقة آنذاك، وكذا محتوى الإجازات العلمية والشهادات والتوصيات المقدمة للخريجين؛ حيث كان على الطبيب أن يحلف قبل مزاولة عمله أن يراعي قيم هذه المهنة وأخلاقياتها، كما ذكر الدكتور أحمد عيسى بك مؤلف كتاب “تاريخ البيمارستانات في الإسلام” سنة 1357هـ أنه عثر على خزانة قديمة تضم صورتين لإجازتين طبيتين قديمتين، ومما ورد في إحداهما: (… فاستخرت الله تعالى، وأجزتُ له أن يتعاطى من صناعة الجرّاح ما أتقن معرفته… هذا مع مراجعته لرؤساء هذا الفن من المتبحرين، والأساتذة العارفين، مع تقوى الله والنصح في الصناعة). وفي الأخرى توصيات مهمة حول آداب التعامل مع المريض بألا يهتك له سترًا، ولا يكشف له عورة، وأن يقتصر على ما تدعوا إليه الحاجة، وألا يخلو بامرأة ما استطاع، وأن يتقي الله تعالى عند وضع المبضع، وعند قطع عضو مصان، مع التأكيد على حرمة المسلم حيًّا وميتاً، ونحوها من القيم الرفيعة التي شهد بها القاصي والداني.