الرأي العام وضرورة مراعاته

لم تغفل السنة النبوية عن ظاهرة اجتماعية وسياسية ارتبطت بظهور المجتمعات الإنسانية، وباتت عامل ضبط وتنبيه للسلطة، ألا وهي ظاهرة الرأي العام، وهو مصطلح حديث عهد، لا نجده حرفيًّا في نصوص السنة النبوية، غير أن مدلوله موجود وشواهده واضحة.

فالمراعاة تعني الإبقاء على الشيء ومناظرته، ومراعاة الأشخاص أو أقوالهم تستلزم معرفة تفصيلية بهم وبأقوالهم، وتبنى هذه المعرفة على التدقيق في الأقوال وتدبرها والنظر إلى أي قول منها ستنتهي، وعدم الأخذ بقول أو برأي ما لا يعني عدم مراعاته إذا تم الإصغاء إليه وسماعه وتدبره.

وأما الرأي العام فهو في اصطلاح علماء السياسة والإعلام: “وجهة نظر أو رأي أغلبية الجماعة الذي لا يفوقه أو يحجبه رأي آخر، في وقت معين، وإزاء مسألة تعني الجماعة، وتدور المناقشات صراحة أو ضمنا حولها وفي إطارها، أو هو رأي ذو تأثير معين انتهت إليه أغلبية جماعة معينة في وقت محدد تجاه مسألة تتعلق باهتماماتها بعد مناقشة وحوار مستفيضين.

مقتضى حرية الفكر  أن يبدي رأيه ويعبر عنه دون قيد أو شرط، وأن يتاح له أسباب التعبير قولا وكتابة، وليس لأحد منعه أو عقابه أو أن يحجب عنه أسباب الاتصال التي يتداول بها الرأي في المجتمع

وفي الاصطلاح الإسلامي يشير إلى اتجاهات جماهير المسلمين نحو قضية تهمهم في وقت معين ومجتمع محدد، بعد مشاورة وحوار ومناقشة يحكمه كتاب الله U وسنة رسوله r، فهو الرأي السائد الذي ينبع من الأفراد وغايته الجماعة بعد السؤال والاستفهام والنقاش؛ تعبيرا عن الإرادة والوعي تجاه أمر ما في وقت معين، بشرط موافقته للشريعة والسير في حدودها، من أجل تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وترتبط اتجاهاته بالولاء القومي والوطني والديني لأفراد الأمة.

والخلاصة، فإن الرأي العام هو الرأي المنضبط السائد بين جماهير المسلمين، والذي ينبع من بعض الأفراد الذين يتصفون بصفات خاصة، نحو قضية تهم هذه الجماهير في وقت معين ومجتمع محدد، بعد مشاورة وحوار ونقاش يوافق الشريعة ويسير في حدودها.

وفي تقرير حق إبداء الرأي العام يروي تميم الداري عن رسول الله: “الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.

إن هذا الحديث يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم سلطة الأمة، ويوصي بأن يكون كل مسلم مشرف تمام الإشراف على تصرفات حكومته، يقدم لها النصح والمعونة ويناقشها، ويأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، ويراقب احترامها للحق وإنفاذها لأحكام الله.

ومقتضى حرية الفكر والرأي  أن يبدي رأيه ويعبر عنه دون قيد أو شرط، وأن يتاح له أسباب التعبير قولا وكتابة، وليس لأحد منعه أو عقابه أو أن يحجب عنه أسباب الاتصال التي يتداول بها الرأي في المجتمع، مثل: حرية الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى، وتأليف الكتب.

وقد أوجب الإسلام إبداء الرأي، فعن أبي سعيد الخدري t أن رسول الله عزوجل قال: “ألا لا يمنعن أحدَكم هيبةُ الناسِ أن يقول في حق إذا رآه أو شهده أو سمعه”، فهذا حض للمجتمع وحث لأفراده على ممارسة ظاهرة الرأي العام.

ضوابط الرأي العام:

إن الرأي العام الذي يريده الإسلام في المجتمع الإسلامي هو الرأي الصالح الذي يتفق وعقيدة الأمة ويتلاءم مع قيمها، وهو الرأي الذي يحقق الخلافة في الأرض واستعمارها، والإسعاد للبشرية عموما… ولهذا فإن له عددا من الضوابط:

أولها: أن يكون القصد منه بذل النصح الخالص للحاكم أو المسؤول.

ثانيها: استنباطه من الكتاب والسنة واستناده إليهما.

ثالثها: العدل والقسط عند إبدائه، حتى مع غير المسلمين.

رابعها: عدم تضمينه سبًّا أو تشهيرًا وطعنًا، والكلام الفاحش والافتراء والتضليل، فنحن مأمورون باعتماد اللين والطيب من الكلام، وألا يختلط بالشتم والأذى والسب والتشهير.

خامسها: ارتباطه بجلب مصلحة أو بدفع مفسدة وإلا فالسكوت أولى.

سادسها: إبداؤه وفق الوسائل المشروعة، وإن كان القصد من ورائه نبيلا، فمخالفة الشرع ضرر وفساد لا يترتب عليه مصلحة.

سابعا: إبداؤه لا يحصل على وجهه الصحيح إلا بتربية الأفراد على معاني العقيدة الإسلامية ومخافة الله عز وجل في السر والعلن.

إن الرأي العام الذي يريده الإسلام في المجتمع الإسلامي هو الرأي الصالح الذي يتفق وعقيدة الأمة ويتلاءم مع قيمها، وهو الرأي الذي يحقق الخلافة في الأرض واستعمارها، والإسعاد للبشرية عموما

فإذا صدر الرأي من الذين ليسوا أهلا لإبدائه ولم تتحقق فيه هذه الضوابط، فذلك من علامات قيام الساعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”.

فالرأي العام لا يعتبر به ولا تكون له هويته الخاصة إلا إذا انضبط بضوابط تكسبه صفته القيادية، وتجعل الحاكم يراعيه ويتحراه؛ لينير له الطريق، فيرتقي بالأمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والنهوض بالمشروعات العظيمة، وتقويم عمل الحاكم وحكومته.

أما الرأي السائد الذي لا يقصد نصحا للحاكم والمحكوم، ولا يستند إلى الكتاب والسنة، ولا يكون عادلا مع الذين يتوجه إليهم، متضمنا التشهير والسب والطعن، ولا يراد به إصلاح الأحوال ودفع الضرر، مستعملا الوسائل غير المشروعة، صادرا عن أفراد ليسوا أهلا لإبداء الرأي – هو رأي فاتر ضعيف فاقد لقوته، لا يقوى على حشد الصفوف وتوجيهها وجهة معينة، فهو رأي لا يعدو أن يكون الرأي العامة وليس رأيا عاما.

ويتكون الرأي العام نتيجة لاجتماع عدة عوامل من أهمها:

  1. صفات الإنسان التي فضلته عن غيره من سائر الكائنات الحية، مثل: العقل والتكليف، والمسؤولية، والعلم والتعلم، وحريته البشرية وعبوديته الإلهية.
  2. الميول والاتجاهات المرتبطة بمشاعر الإنسان وأحاسيسه بقضية ما، كلها تنمو داخل الفرد باستمرار نموه وتطوره، وهي ثمرة لمعرفته وإدراكه وثقافته التي تلقاها خلال مسيرته وحياته، ومن ثم تؤثر على رأيه الصادر منه اتجاهها.
  3. الأعراف والعادات والتقاليد.
  4. الدين وهو وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات.
  5. الأوضاع السياسية والاقتصادية، والأحداث المهمة كالحروب والكوارث الطبيعية والأزمات.
  6. الحاكم أو الزعيم من خلال تواصله مع الجماهير، والتأثير عليهم وعلى أفكارهم واتجاهاتهم، وتتفاوت بين حسن التوجيه بجوانبه الثلاثة: الشورى والحوار، والحزم وضبط الأمور بسعة عقل، والعدل، أو سوء الإرشاد بمقابلات الثلاثة السابقة.
  7. الشائعات والأكاذيب والنفاق.

وظائف الرأي العام وحدوده:

وللرأي العام عدد من الوظائف والحدود أهمها: اختيار الحاكم وتنصيبه، والتأثير على القرار السياسي، وعلى هيبة الدولة سياسيا، وعلى وحدة الصف وتماسك الجبهة الداخلية، ومحاسبة الظالم والأخذ على يديه، والمتابعة السياسية، وإنجاح خطط الدولة، ومساندة تطبيق قواعد السياسة الخارجية، ورعاية الأخلاق النبيلة والقيم السامية، بالإضافة إلى رفع الروح المعنوية للجماهير بدعم روح التعاون والتكامل والتعارف فيما بينهم، أما حدوده فعلى رأسها عدمُ مجاوزة سلطة الرأي العام إرادةَ الله U وإرشادات رسوله r، وعدم إلزام الحاكم الانصياع لها.

أهم المراجع:

  1. علي عبد الواحد وافي: حقوق الإنسان في الإسلام، دار نهضة مصر، القاهرة، 1979م.
  2. فراس محمد إبراهيم: مراعاة الرأي العام، دار النفائس، بغداد، ط1، 2013م.
  3. محمد عبد الفتاح الخطيب: حرية الرأي في الإسلام – مقاربة في التصور والمنهجية، كتاب الأمة، عدد 122، 1428هـ.
  4. محمد محيي الدين عبد الحليم: الرأي العام في الإسلام – رؤية عصرية، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، 2008م.
  5. محمد منير حجاب: أساسيات الرأي العام، دار الفجر، القاهرة، ط3، 2007م.