الذِّبْح العظيم

.(يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾(الصافات:102)
افعل أبي ما تؤمر، حدَّ سكينك، وارهف شفرته، اسقها ماءَ عطفك، واغمسها في رحيق روحك، وكالبرق الخاطف دعها تنـزل على رقبتي وتحزَّ حلقي وتفجر دماء نحري، وإذا ما أخذتَ بناصيتي، ومن شعفة رأسي أمسكتَني، ثم للجبين تليتني… فاعصب عينيّ حتى لا أراك وأنت تهمُّ بي فأفزع، وربما ارتجف قلبي، وجفلتْ روحي فأتردّد قليلا، وأصير عاقًّا، وفي سجل العاقِّين يكتبُ اسمي، وعاصي الأقدار يُرسَم شخصي!
ما رعشة أراها في يدك، وصفرة ألحظها في وجهك، ودمعة تخضلُّ بها لحيتك؟! تماسكْ يا أبي… أيُّها الأوَّاهُ الحليم… يكاد السكين من يدك يسقط، ومع دمعتك ترسل ذَوبَ نفسك، وآهات روحك، وصرخات ضميرك، وتوجعات قلبك. بي لا تأخذك الشفقة، وعليَّ لا تحزن، وأمرَ ربك أَطِع، فأنا على الآلام مستكبر، وشلاّل الدّم لن ينال هضبات روحي ولا يشارف سوامق إيماني.
لإمضاء أمره اختارني القدر، ولإنفاذ حكمه أرادني، والذبيح سَمَّاني، ورمزًا للتضحية والفداء أقامني. والبشرية ذاهلة والهة واجمة، تحبس أنفاسها وآهاتها، وألف سؤال في ذهنها يدور. ماذا دهى النبُّوات، أم بهذا تمتحن الإرادات، وتختبر العزائم والطاعات، أم هكذا تكون التضحيات؟! فيا ويح الأوَّاه الحليم… بابنه يهمُّ وبفلذة كبده يُفَرِّط!

ها هي البشرية ترمق الفتى بنظرات الشجى والحنين، وروح الأب المسكين في سلسال آلام تذوب، لكنها لا تنهزم، وعلى إمضاء الفعل تصرُّ. إنها تسلم نفسها لامتحانات القدر، معزيةً ذاتها بأبدية الانتساب وخلودية المأوى الأمين. إنها ذبحة صدر لا تطاق، لكنها لا تقتل العزائم ولا تَفُلُّ غَربَ الإرادات.
وسرعان ما احدودب ظهره، وانحنى صلبه، وزاد خفقان قلبه الكليل. وبنبضات قلبه الواهنة يلج صورة التصديق، ويحضر في بؤرة “الرؤيا” ليرى حقيقة الحقائق التي تضلُّ عنها الحواس والعقول، ولا تقبل الرسم بالكلمات ولا بالأفكار. إنه يعتنق الروح الإلهي في لحظة من أخصب لحظات النبوة، وأشدّها توترًا، وأعمقها استجابة، وأعلاها شهامة قلب، وأحدّها يقظة بصر.
أمِن موجبات “الخِلّة” أن تُمتَحَن بابنك، وأن يُصبّ عليك البلاءُ صبًّا، ليحرّك فيك كلّ ساكنٍ من روحك، وكل مطمئنٍّ من قلبك، وكلّ آمنٍ من فكرك؟ إنك الشعلة الإلهية التي لا يريد لها الله تعالى الذواء والذبول، ولا لقريحتك النبوية أن تصاب بالخمود والكلال، فعليك إذن أن تعاني من برحاء الألم والعذاب لتظل جذوتها في توهج وفتيلها في اشتعال. إنه الرزء الفادح والألم البارح، غير أن شفتيك مطبقتان، لا تهمّان بصيحة ولا تندُّ عنهما نأمة، لا شكاة، لكنه أنين مكتوم يهزُّ أجواء الضمير، ويحرّك قوى النبوة الكامنة في الأعماق لتتواثب في الآفاق وتستقر في القلوب والأذهان.
إن بعض الأيام القدرية -ومهما بدت ضرباتها موجعة وقاسية ومجافية للمنطق، غير أنها- تفجِّر فينا ينابيع من قوى البطولة والحماس والإقدام، فننهض من جديد بأعلى هامات نفوسنا، وأعظمَ شموخ إنسانيتنا، وبأرقى إدراكاتنا لمجريات أسرار القضاء وخفايا سريان القدر.
يا أنّات روحي اصمتي، ويا موجعات قلبي تَصَبَّري، ويا مَدَامِعَ نفسي كُفِّي واكففي، ويا إشفاقات قلبي تنحّي اليوم عنِّي، ويا مساكبَ الرحمة أمسكي، ويا خفقات الحنان والتَّحنان أطلقي يدي، بيني ومقبض السكين لا تحولي… فتصديق “الرؤيا” شأني اليوم، وطاعة القدر في ابني شغلي الشاغل. لن أنكص على الأعقاب، ولن أكون أول خليل يعصي خليله وحبيب يجافي حبيبه.
ما دمٌ مطلول، ولا قلب مفجوع، ولا روح مسلوب، ولا فتىً على الثرى طريح مصروع، ولا سكين بيد النبوة للذبح مرصود… سوى أجزاء صورة لمّا تكتمل بعد. وهي في نية “الخليل” قائمة حاضرة، وبين ناظريه مجسّمة وعلى بعد لحظاتٍ من سكينه،وفي غيبوبة نشوته في امتثال الأمر الإلهي إذا بالهتاف السماوي آتٍ من الأعالي: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾(الصافآت:103-107).