الخَواء الفكري وخطورته على الشباب

تُعدّ حالة الخواء الفكري الذي يعيشه قطاع كبير من الشباب اليوم، ظاهرة خطيرة جدًّا، وذلك لأن الخواء الفكري قاتل. وها هنا تكمن الخطورة إن لم تكن البُنى التحتية العلمية، والمنهجية الإسلامية عند الشباب قوية تمامًا، مستمدة أصلها من القرآن الكريم والسنة النبوية. ويكون التحصين الذاتي للشباب والتربية الأُسرية السليمة والرقابة المجتمعية، هي صمام الأمان ضد الانحرافات السلوكية والأخلاقية التي تكون نتاجًا لذلك.

الخَواء الفكري هو خلو العقل والفكر مما ينفع ويفيد، وليس شرطًا أن يكون الخَواء فكريًّا ممتلئًا بما لا يفيد، ولكنه خال مما يفيد، مما يجعل صاحبه مؤهلاً للتأثر بأي فكر وأي منهج بغض النظر عن محتواه العلمي ودرجة صحته وموافقته للشريعة، لأن امتلاء العقل والفكر بالعلم والمعرفة يكون رصيدًا قويًّا ضد الانحراف، ومانعًا صلبًا من الضلال.

وبالجملة يمكن القول بأن الظروف التي يعيشها كثير من الشباب؛ مثل عدم وجود مشاغل لأسباب الفشل في الدراسة وعدم إتمامها بسبب الظروف الاقتصادية، أو عدم وجود فرص عمل أمام الشباب، هذان عاملان تسببا في إحداث خَواء كبير في حياة الشباب، إن لم يحسن استخدامه ومَلْأه بالبرامج النافعة والمشاريع المفيدة -وهذا في الغالب ما لا يحدث- فإن هذا الخواء بدوره يقود لخواء فكري خطير جدًّا، له خطورته على حياة الشباب وانعكاساته على نمط تربيتهم. يواجه الشباب اليوم خواءً فكريًّا كبيرًا تسببت فيه وأوجدته عدة عوامل تفترق أو تجتمع في الحالة الواحدة، وتتنوع أسبابه ما بين عوامل خاصة وعامة. ويمكن تقسيم هذه الأسباب إلى الآتي:

1- أسباب عامة

ويمكن الإشارة إلى الأسباب العامة بأمرين:

أ- انتشار الجهل وانصراف الناس عن العلم. وفي هذه الحالة يسود المجتمع خليط من الأفكار الفاسدة، والخرافات والتصورات والعادات الجاهلية، ويصبح المجتمع مهيئًا لكل فكر ضال. كما أنه في بعض الأحيان يكون قابلاً لدعوات الإصلاح إذا لم تكن فيه بدع مستحكمة، ومفاهيم منحرفة مقدسة.

قال الدكتور عبد الحليم عويس: “ولئن كانت عوامل التجزؤ عديدة ورهيبة، فإن هذه العوامل لا تتسلل إلى الأمة إلا حيث تعاني من فراغ فكري، وفقر إلى مجموعة القيم التي تغنيها بدراية سليمة مطمئنة عن حقيقة كل من الكون والإنسان والحياة، إذ إن من شأن أي جماعة تعاني مثل هذا الفراغ، أن تغدو هدفًا لمطامع أُولي الدعوات الهدامة التي تصطنع المبادئ والقيم لبلوغ أمانيها وأغراضها”(1).

بـ- الفوضى الفكرية، حيث تنتشر المعارف وتقوى حركة التعليم مع اختلاف مشارب الأفراد الفكرية، فيجهر المبطلون بالضلال ويتفننون في عرضه على الناس. وعندها يتوزع أبناء المجتمع الواحد إلى طوائف، كل طائفة تسير خلف فكرة ومبدأ، ويزخرف كل فريق مبدأه، إما بتقريبه إلى الإسلام بالاستدلال الفاسد، أو بتقديمه على أنه الجديد المفيد المتجاوب مع مستجدات العصر، مع دعوى أنه لا يتعارض مع أصول الإسلام.

2- أسباب نفسية أو ذاتية

وهي أسباب توجد في نفوس الشباب أصلاً، ويضعونها بين أيديهم بلا تدخل من أي مؤثر خارجي، وهي بدورها تتسبب في خوائهم الفكري، مثل عدم وجود ثوابت فكرية عند كثير من الشباب، ولا فهم واضح للحياة ومشاكلها وتفاعلاتها المختلفة، مما يجعلهم غير قادرين على تحديد احتياجاتهم الفكرية ومن ثم السعي لتلبيتها.

عدم وجود الرؤية الواضحة عند الشباب للمستقبل، وعدم وجود أهداف لتحقيقها، مما يجعله يدخل في دوامة حيرة فكرية، وتدور في رأسه مسائل وإشكالات عديدة مثل؛ ماذا أقرأ؟ ومَن أصاحب؟ ومَن أتابع؟.. ويضاف لهذا من المشكلات، التخصص الأكاديمي الضيق الذي يجعل الشباب لا ينظر إلا تحت قدميه، غاضًّا الطرف عن استشراف المستقبل والتطلع نحو بناء الذات وتطويرها. فكثير من الشباب حدّ علمهم ومنتهاه، قاعة الدراسة والمراجع الأكاديمية المتخصصة، مما يتسبب في ضعف الأفق العلمي وسطحية المنهج الفكري.

3- أسباب أُسرية

تتسبب كثير من الأُسر المعاصرة في صناعة خَواء فكري كبير لدى أولادها من البنين والبنات، خاصة إن لم تحسن التربية والرعاية لهم، وحفظهم وتثبيتهم على أسس علمية وإسلامية وصحية في الوقت الذي كثرت فيه الاختلافات الفكرية والاضطرابات المنهجية، فضعف التربية الأُسرية وعدم قيام الأُسرة بدورها في تحصين أولادها علميًّا، وسد نهمهم الفكري يحدث خواءً كبيرًا عندهم، مما يجعلهم يسعون فرديًّا لسد هذا النقص الفكري والعوز المعرفي، وهنا تكمن خطورة عدم القدرة على تميز غث الأفكار والمناهج من سمينها.

كما يتسبب انتشار الجهل والأمية داخل الأُسرة في هذا الخواء الفكري عند الأولاد، وفاقد الشيء لا يعطيه، وهذا إضافة إلى ما تحدثه الظروف المعيشية عالية الرفاهية إذا تضافرت مع ذلك الجهل وتلك الأمية.

4- أسباب اجتماعية

المعني بالأسباب الاجتماعية هو دور المؤسسات العلمية والأكاديمية التي تقوم على الرعاية والتوجيه في المجتمع. فعدم قيام هذه المؤسسات بدورها تجاه الشباب، يخلق عندهم خواءً فكريًّا يكون السعي لسده فرديًّا، وذلك عندما لا تحتوي مناهج هذه المؤسسات على مناهج تلبي احتياجات الشباب حسب أعمارهم وجنسهم.

كما يتسبب ضعف المنهج كثيرًا في تخريج “أنصاف متعلمين”، مما يجعل تأثرهم سهلاً بأي فكر وأي منهج.

هناك مظاهر ودلالات كثيرة تدل على الخواء الفكري الذي يعانيه قطاع لا يستهان به من شباب الأمة، قد تكون هذه المظاهر سلوكية تظهر في سلوكهم، أو فكرية تتضح في فكرهم، أو حتى عملية تظهر في ممارسة الحياة العملية.

ولنا أن نتساءل، ما هي دلائل أنّ هذا الشاب خاويًا فكريًّا؟ وكيف يمكن الحكم على منهجٍ ما بأنه خواءٌ فكري؟ في الواقع إن هنالك عدة مشيرات؛ فالشاب الخاوي فكريًّا يتَّسم بالسطحية في المناقشة وعرض الأفكار، كما يظهر خواء الفكر في عدم الموضوعية في تناول المواضيع الجادة ذات الشأن، كما أنه تغيب عنده الرؤية العلمية والمنهجية في الحياة. أيضًا من سمات أصحاب الخواء الفكري، أنهم يقرؤون ويطلعون ويتصفحون كل ما يقع في أيديهم من كتب ومؤلفات مختلفة الرؤى والأفكار، دون القدرة على تمييز النافع من الضار والغث من السمين.

من المظاهر الخطيرة جدًّا كذلك، كثرة الانتقال من مذهب فكري إلى آخر دون إعمال عقل أو تدوير فكر أو تمحيص رأي بسبب عدم تحديد احتياجات الشاب المقنعة. من مظاهره أيضًا، الشعور بالملل والاكتئاب المستمر. كذلك من المظاهر السالبة أيضًا، الإسهاب في عرض قضية ما، وذلك بالتركيز على الجزئيات الضيقة دون النظر إلى كليات القضايا والأمور.

فالخاوي فكريًّا، سريع التأثر بأي فكر يكون قويًّا في عرضه وجذابًا في مظهره ولو كان فكرًا ضالاًّ، والمواقع على الإنترنت تحمل آلاف الآراء والأفكار الضالة. كما قد يتسبب الخواء الفكري في التزام الشاب بمنهج يناقض سلوكه وأخلاقه ومثله العليا، بل تطلعاته الهادفة النبيلة، وهو لا يشعر بذلك حتى يتمكن منه الداء العضال، ويصعب عليه الانفكاك عن المنهج الذي تعوده.

كما ويصاب الخاوي فكريًّا بعدم وجود مرجعية علمية يمكن الرجوع إليها إذا ما واجهته مسألة علمية أو أزمة فكرية. فهو خاوي الفكر مما يفيد ومن معرفة من يفيد، لأنه لو تمت له مدارسة مع أصحاب العقول الراجحة والأفكار النيرة، لحصل له من العلم ما يملأ خواءه الفكري، ومن ثم يكون التخبط والاضطراب نتاجًا طبيعيًّا لهذه الحالة، ومن ثم قد يستعين بمن يظنّهم أهل العلم -وليسوا بأهله- وربما يكونون من أصحاب الأهواء الشخصية أو الضلالات المنهجية، فيزيدوا مشكلته تعقيدًا، وتزيد خطورة هذه الظاهرة في الوقت الذي أصبح فيه كل طالب علم مبتدئ قادرًا على إنشاء موقع فيستفتي ويجيب وهو جاهل بدين الله وأحكامه الشرعية، فضلاً أن يرقى إلى مستوى حل مشاكل الشباب وفك معضلاتهم العلمية. ومن العجيب أن بعض الشباب يجعل أدلته في مسائل خلافية مواقع يزورها على الإنترنت دون التثبت من صحتها.

مما ينبغي التنبيه عليه أيضًا هو أن الخواء الفكري، يسبب ملل وقلق دائمين بسبب توفر الوقت وخواء العقل، فصاحبه يحتاج لأمر يقضي فيه وقته ويضيعه. وأجهزة التقانة الحديثة فيها قدر كبير من اللهو والمرح المباح وغير المباح، كما تحتوي وسائطها على مغريات كثيرة، ومن ثم في حالة عدم وجود الوازع الديني والتربية والرقابة من الأُسرة، فإن ذلك يؤدي إلى اختلالات سلوكية خطيرة.

تكون الوقاية من الظواهر المجتمعية السالبة، في تعطيل الأسباب المنشئة والمغذية لها. ومن خلال تحليلنا لهذه الظاهرة، وجدناها تتفرع من أسباب ذاتية وأخرى أسرية، وعوامل اجتماعية كما سبق البيان، ومن ثم تكون الوقاية منها والمعالجات لها، من خلال ذات المحاور التي تلج منها هذه الظاهرة السالبة.

ففي الجانب الأُسري تكون المعالجة على يد الوالدين بحفز الأولاد ودفعهم للهمم العالية، كما ينبغي ربطهم في المستقبل، وأن يكون لهم أهداف سامية يسعون لتحقيقها والوصول إليها. كما ينبغي تحصين الشباب وتثبيتهم على قواعد ومنطلقات فكرية سليمة، وهذا ما يسمى بـ”قاعدة التحصين الذاتي”، والتي أشار حديث ابن عباس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلّم -: “يا غلام إني أعلِّمك كلمات، اِحفظ اللهَ يحفظْك، اِحفظ اللهَ تَجدْه تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلمْ أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيءٍ لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلامُ وجَفَّت الصحفُ” (رواه الترمذي). هذا دليل واضح على اهتمام الرسول – صلى الله عليه وسلّم – بالشباب وكيفية المحافظة على عقائدهم وأفكارهم، وذلك بالتوجيه المباشر لهم ليس تركهم لعواصف الفتن والأهواء أن تعصف بهم.

جانب آخر من وسائل العلاج والوقاية، هو المحور الأُسري ودوره المتعاظم في الوقاية من الظواهر السالبة. فكما هو معلوم فإن البيت هو عمدة المجتمع وركيزته الرئيسة التي يرتكز عليها، وها هنا يكون التلازم في علاج الظواهر السالبة في ابتداء معالجة التفلتات الأُسرية والانحرافات داخلها، مما يشكل في مجموعه أمن وسلامة المجتمع وبناء مجتمع سليم ومعافى.

ويأتي أخيرًا دور المحور المجتمعي، وهو دور مؤسسات الدولة التعليمية والإعلامية والمؤسسات الأكاديمية الأخرى، في تصحيح المنهج الفكري عند الشباب والمحافظة عليه، وإبعادهم عن كل آفات الفكر.

الخلاصة

ساهمت مؤسسة المجتمع في هذه الظاهرة؛ إذ قلّت المنتديات العلمية والفكرية النافعة، واكتفت المؤسسات الأكاديمية بتخريج “أنصاف المتعلمين” وأصحاب النظر الضيق والأفق المحدود، لا يرون المستقبل ولا يستشرفونه، مكتفين بالنظر تحت أقدمهم.

ولقد تنامى الدور المجتمعي أهميته في التربية السلوكية للأفراد في العصر الحديث بعد تراجع كبير لدور الأُسرة، وانشغال كثير من الآباء عن أولادهم، مما أحدث فجوة تربوية كبيرة. كما انشغلت المؤسسات الأكاديمية وانحصرت في البرامج الدراسية المتخصصة في وقت تنامت فيه وازدهرت وسائل الاتصال مع المجتمعات الخارجية بسهولة ويسر، ودخلت هذه الوسائط المرئية والمسموعة كمُربٍّ؛ له أثره في الشباب وتوجيه أفكارهم وصياغتها، وله أثره الظاهر في أخلاقهم. ومن ثم لابد من مواجهة ذلك المد التقني الجارف بدور مجتمعي قوي وفاعل في توجيه الشباب والرقابة عليهم. ويقول الباحث التربوي محمد نبيل موضحًا أهمية دور المجتمع: “على قدر تعدد الأوساط التربوية وكثرتها وترابطها يظهر تميز مؤسسة المجتمع في كبر مساحتها وسعة دائرتها وأهمية موقعها في حياة كل فرد ومستقبله”(2).

كما يتضح ذلك أيضًا عندما “يغادر الفرد بيئته أو مدرسته أو مسجده، ويلتحق بالمجتمع وينخرط فيه، ويتفاعل مع جميع أطيافه، متدثرًا بعوامل مناعية وسلوكية اكتسبها من خلال أسرته وأصدقائه ومسجده ومدرسته. ومن خلال تلك الاكتسابات السلوكية واستشعاره بدوره لتأكيد ذاته وأهميتها، يشعر بأنه من خلال تكوينه التربوي، عضو في مجتمعه، فيحافظ ذلك العضو الجديد ويطور مكاسبه الأخلاقية والتربوية والمعرفية”(3)؛ فيقعون صيدًا سهلاً لأصحاب المآرب الشخصية والعداوة للإسلام. كذلك كان لابد من وقفة وقاية من هذه الظاهرة ومثيلاتها، ولابد من سبيل ناجح للعلاج مما أصاب الشباب من تراوح بين الخواء الفكري والاستخدام السيئ للتقنيات. وأول خطوات الوقاية والعلاج هي الأُسرة، إذ إنها أول لبنة في المجتمع، فلابد أن تقوم بدورها المنوط بها نحو أبنائها والمنسوبين إليها، تحصينًا ومراقبة ومحاسبةً على الأخطاء المرتكبة داخل الأُسرة وخارجها.

كما ينبغي أن تقوم مؤسسات المجتمع بدورها الموكل إليها في سد ذرائع الفساد والفتنة الموجهة للشباب الذين هم رجال المستقبل وصُنَّاعه، حتى لا يصاب غدًا المجتمع بالشلل الحركي فتتعطل قوته وتقل فاعليتها، ويصبح المجتمع عالة على ما حوله من المجتمعات، مكتفيًا بالاستهلاك منها لبضائعه القيمية والفكرية، كما ينبغي أن تراجع مؤسسات التعليم مناهجها لتخريج شباب ذوي رسالة ينفعون بعلمهم وينتفعون به. وعلى الشباب ألا يضيعوا جهدهم وأوقاتهم فيما يعود عليهم بالوبال والحسرة، وأن يكونوا بعيدي النظر غير منجرفين وراء الشهوات والفتن التي تحد من تقدمهم ورقيهم الإنساني.

(*) جامعة السودان / السودان.

الهوامش

(1) ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، ص:188.

(2) المنهج الإسلامي دراسة المجتمع، نبيل محمد توفيق، دار الشروق، جدة، ط ح 1402هـ، ص:250.

(3) دور القضاء السعودي للإصلاح التربوي، المملكة العربية السعودية، صبحي بني يحي الحارثي، ط 1427هـ/2006م، ص:309-310.