الخط العربي في كتابات الرحالة جمس بكنغهام

يلفت الخط العربي انتباه الرحالة الذين زاروا المنطقة العربية، وبفضل تعلّم هؤلاء اللغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي، فقد باتوا يستطيعون التمييز بين أنواع الخطوط العربية، بل إن أغلبهم تعرف على الخط الكوفي خاصة، وميزه عن الخطوط الأخرى؛ ولعل ذلك يرجع إلى أنه خط مميز بالفعل، ربما لهندسية هذا النوع من الخط، فهو نوع من الخط يابس مستقيم الحروف حاد الزوايا، أقرب إلى الشكل الهندسي، وهو من أجود الخطوط شكلًا ومنظرًا وتنسيقًا وتنظيمًا، فأشكال الحروف فيه متشابهة، ويشيع استخدامه بصفة خاصة في المساجد.

جمس بكنغهام

يولد الرحالة الإنجليزي جمس سلك بكنغهام J. S. Buckingham(1786-1855) عام 1786 في قرية بالقرب من مدينة فالموث بإنجلترا لأب مزارع، ويُغرم بالبحرمنذ صباه، وينتقل وهو شاب إلى الهند؛ حيث يعمل في إحدى دوائر شركة الهند الشرقية الإنجليزية، ثم يُصدر “صحيفة كلكتاCulcutta Journal، التي نجحت نجاحًا كبيرًا لما كان يكتبه فيها من نقد لأعمال شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وما يعالجه من شؤون الهند ببعض من العدل والإنصاف. ولكن انتقاداته أثارت غضب السلطات البريطانية في الهند، وضاق به ذرعًا “جون آدم”، نائب ملك بريطانيا في الهند عام 1823؛ فعطل صحيفته وأمر بإخراجه من الهند. ليعوج بكنغام إلى بريطانيا؛ ليُقيم دعوى قضائية ضد شركة الهند الشرقية أمام البرلمان البريطاني مطالبًا إياها بالتعويض، ويُصدر البرلمان حكمًا لصالحه إذ يُلزم الشركة بأن تدفع له تعويضًا ماليًا بمبلغ مائة باون في السنة.
يغتنم بكنغهام أثناء عمله في شركة الهند الشرقية، ما يتجمع لدية من إجازات سنوية ليُنفقها في رحلة من رحلاته المحفوفة بالمخاطر والأهوال، إذ كان كثير الطواف والترحال، وكانت البلاد العربية قبلة أنظاره في رحلاته وأسفاره، وبدأ أولى رحلاته العربية بمصر عام 1812 فطاف بها من بورسعيد حتى جنوبي أسوان مستوضحًا عن أماكنها الأثرية خاصة، ومدونًا أحوال السكان أثناء اتصاله بهم في تطوافه، وفي حله وترحاله عامة، وطبع تلك الرحلة في جزئين كبيرين، وفي عام 1814 يقوم برحلة أخرى إلى فلسطين، وشرقي الأردن، وأخرج مشاهداته وملاحظاته في كتابين أيضًا. وفي سنة 1816 بدأ رحلته إلى العراق عن طريق سورية بدأها من مدينة حلب في 27 مايو 1816، وبعد أن عبر نهر الفرات اتجه نحو أورفه داخل الحدود التركية حاليًا، ثم سار منها إلى ماردين فديار بكر، ومنها كر راجعًا إلى ماردين فمدينة نصيبين، ومن هناك عبر الحدود العراقية متخذًا طريقه عبر سهل سنجار إلى الموصل، ثم دخل بغداد عن طريق الموصل، أربيل، كركوك. وبعد زيارات خاطفة لعكركوف وآثار بابل استقر بضعة أيام في بغداد ليُغادرها إلى الهند عن طريق إيران. وقد أصدر مجلدين عن رحلته إلى العراق، بعنوان “رحلات في بلاد ما بين النهرين Travels in Mesopotania” (لندن: 1827)، الجزء الأول عن ديار بكر وماردين، والثاني عن الموصل وكركوك وبغداد وبابل وبغداد. كما صدرت رحلته عن إيران في مجلدين أيضًا، بعنوان “رحلات في أشور وميديا وإيران Travels in Assyria, Media and Persia” (لندن: 1830)، يصف فيها سفره من بغداد إلى إيران بطريق خانقين وقصر شيرين إلى أن وصل إلى أنقاض مدينة برسبوليس الإيرانية القديمة، ومن هناك غادر إيران إلى الهند ثم عاد من الهند بحرًا ليستقر في مدينة البصرة وبوصفها اختتم رحلته الثانية هذهوضمّ كتابه عن إيران فصولًا خاصة عن البصرة والخليج العربي. وأصدر بعد ذلك كتابًا جديدًا باسم “رحلات بين العشائر العربية”، تحدث فيه عن تطوافه بين العشائر العربية على امتداد فلسطين والأردن وسوريا والعراق. وفي ديسمبر 1816 يزور مسقط في طريق عودته من الهند.

الخط العربي

يشاهد بكنغهام على برجي سور بغداد الباقيين كتابة مستطيلة طويلة في أعالي هذين البرجين نفشت على نسق الخط العربي القديم، و”تحتل شريطًا عريضًا في الجزء الشمالي من هذين البرجين قد خطت بأحسن خط عربي قديم، ويظهر من صفة تلك الكتابة أنها ذات الكتابة التي استنسخها “نيبور” من أحد الأبراج، ويظهر من هذه الكتابة أن الخليفة الناصر هو الذي شيدها في سنة 618 للهجرة أو سنة 1221 للميلاد”.
يذهب بكنغهام إلى أنه شاهد على عتبات حوانيت بغداد “خاصية لم ير مثلها في أي مكان آخر”، فيذكر أنه لاحظ في سوق بغداد “وجود شريط من كتابات عربية قديمة تعلو عتبة كل حانوت، وقد حفرت بحروف كبيرة، واعتنى بها مثل أي من الكتابات الموجودة في المسجد. ولقد نقشت هذه الكتابات بنسق وانتظام إلى درجة تحمل المرء على الاعتقاد بأنها كانت معاصرة للسوق نفسه، وهو قديم جدًا، ولكن هل أن هذه الكتابات تحمل أسماء الذين اشغلوا تلك الحوانيت عند افتتاحها، وهل إنها تضم بعض العبارات المقدسة أو تشير إلى تأريخ تأسيسها؟.إن نظراتنا الخاطفة إليها لم تدعنا نتأكد من ذلك”.
يلاحظ بكنغهام كتابات الخط العربي على جوامع بغداد، فيذكر أن مئذنة جامع سوق الغزل تختلف هن مآذن سوريا ومصر، “والسطح الخارجي لهذه المأذنة يحمل دلائل التصدع، لكن الجزء الباقي منه يشير إلى أن بعض أجزائه الأخرى، كانت مزينة بالنقوش العربية المدهشة، وأن إحدى الكتابات التي نقلها نيبور بمساعدة أحد الملالي العرب تبين أن المسجد قد شيد من قبل الخليفة المستنصر سنة 633 للهجرة الموافق لسنة 1235 الميلادية”. أما جامع مرجان، الذي لا يبعد كثيرًا عن جامع سوق الغزل، نراه يصفه بأنه “مسجد.فيه آثار مساوية في القدم لآثار جامع الغزل وواجهته غنية بالنقوش العربية، وباب مدخله جميلة جدًا مؤلف من قوس عال ينتهي كل جانب منه بسلسلة من أشرطة فخمة منحوتة نحتًا رائعًا، وفي أعقاب آخر هذه الأشرطة قائمة كبيرة ذات قطر كاف يمكن اعتبارها عمودًا، وهذه القائمة مخططة بصفة لولبية على امتداد ارتفاعها، وتبدو على الأجزاء البارزة من هذه التخطيطات كتابات ونقوش دقيقة بذل جهد كبير فيها كتبت بنسق العصر الذي وجدت فيه. وهناك فيض من الكتابات التي يستطيع أي أمريء نقلها إذا تهيأ له الوقت اللازم لهذا العمل الذي يتطلب عدة أسابيع على الأقل” أما جامع الرصافة الذي شيده الخليفة هو أبو جعفر المنصور سنة 143هـ/ 760م، ويعتبر أقدم جامع في جانب الرصافة من بغداد، وكان يُعرف باسم جامع القصر، ثم أطلق عليه اسم جامع الخليفة فجامع الخلفاء، أما مئذنته الشهيرة التي لا تزال قائمة فقد شيدت سنة 678هـ/ 1279م”.
يواصل بكنغهام حديثه في موضع آخر عن كتابات عربية بالخط العربي بحروف مستقيمة، وحروف فارسية متعرجة، بجامع الخاصكي ببغداد، فيقول إن “البناء الظاهر داخل المسجد يبدو أنه من تاريخ متأخر كثيرًا عن أصل البناء، فهو لم يكن بسيطًا فحسب بل وضعيفًا، ولو أنه يضمّ بعض الكتابات العربية بحروف حسنة بارزة أحداها بالخط الفارسي المتقطع المائل” أما جامع الميدان ببغداد “الذي أضيفت إليه في الآونة الأخيرة زخارف كثيرة، والذي يحتفظ بقبة ومنارة جميلتين زخرفتا بالقاشي الملون والكتابات.
يلتفت بكنغهام كذلك إلى الخط العربي المكتوب على قباب بغداد، فيشير إلى أن “قباب بغداد ذات مسحة فارسية، والفرق بينها وبين قباب تركيا وسوريا من حيث الهيئة والطراز كان أولى الصفات المميزة التي استرعت انتباهي عند دخولي المدينة. وهنالك قبتان أو ثلاث مسطحة وغير مزخرفة لا أهمية لها، ولكن القباب الرئيسية جميعها عالية وضيقة وارتفاعها يزيد على طول قطرها بنحو النصف، وهي غنية بالزخرفة بالكاشي المزجج والرسوم، أما الألوان السائدة فهي الأبيض والأخضر، وبعض الكتابات التي تطوق قاعدة القبة هي الأخرى مزخرفة على هذا النمط”.
يهدي أحد دراويش بغداد إلى بكنغهام نسخة من القرآن الكريم، والتي سرقها منه بعض المسافرين معه في القافلة التي كان يسافر برفتها في البادية، فيذكر أن “هذا القرآن في أصغر حجم يمكن أن يكون فيه، ومع ذلك كانت قراءته ممكنة لأنه كتب بخط جيد”.

الخط الكوفي

يميز بكنغهام الخط الكوفي في عقرقوف، ففي جانبها الغربي من دجلة، يزور أحد المستشفيات الرئيسة للدراويش. والتي يصفها بأنها بناية “جيدة شيدت من الآجر، وهي كأي من صروح بغداد، تم تشييدها من ذات المواد التي تبني منها البنايات الفخمة في أوروبا في الوقت الحاضر، فالنطاق الكبير في الجبهة ذو شكل غوطي، وهو جد مرتفع. والأشرطة الواسعة على كل جانب منه، تضم كتابات كوفية طويلة جميلة خطت بشكل بارز في صيغة زخرف” .ويرجع سبب تسمية هذا الخط إلى مدينة الكوفة التاريخية، نقلا عن كتاب الدكتور فنسنت “Dissertations on the Commerce of Arabia”، والذي يشير إلى أن الفتح الإسلامي لبلاد فارس، قد عمل على فتح طريق عبر شبه الجزيرة العربية من مكة إلى الكوفة، المدينة التاريخية التي ينسب إليها الخط الكوفي”.
يتعرف بكنغهام على الخط الكوفي على مباني المدرسة المستنصرية في بغداد، فيذكر أنه شاهد “جبهة البناية المجمعية الشهيرة المعروفة باسم مدرسة المستنصرية التي ذكرها المؤرخون العرب بأنها طراز إحدى الكليات ومأوى المتعلمين. أما الآن فإنها في حالة تهدم ولو أن جزءًا منها ما يزال مستخدمًا بمثابة خان أو كروان صاري. ويشاهد على واجهة هذا الجزء المتجه نحو النهر عمود سميك يمتد بطول البناية كلها، وقد يبلغ طوله نحوًا من مائتي قدم ويضم كتابه مستطيلة بالخط الكوفي نقشت في الإفريز العلوي فوق قاعدة مزخرفة وكلها مصنوعة من الآجر وقد تهدمت بعض أجزاء الجدار الذي تمتد حوله هذه الكتابة. وأجرى تصليحه دون تجديد الحروف المطموسة حيث تقطع تلك البقع من البناء المتهدم سطور هذه الكتابة في عدة أماكن. وما يزال هذا الشارع يعتبر من أوسع الشوارع العامة في بغداد. فهو قريب من الجسر لأنه يقع على جهته اليمنى حينما يتم عبوره من ناحية الغرب، وعلى ضفة النهر مباشرة. وقد استطاع نيبور أثناء إقامته هنا أن يستنسخ هذه الكتابة بواسطة أحد الملالي حيث ظهر منها أن ذلك البناء قد تم تشييده من قبل الخليفة المستنصر سنة 630 هجرية، أو سنة 1231 مسيحية”.

المصادر والمراجع:

– جمال محمود حجر: “الأرمن في رحلة نيبور”، مجلة أريك، العدد الثاني، (مايو 2010).
– سهيل قاشا:الموصل في مذكرات الرحالة الأجانب خلال الحكم العثماني، (بغداد: دار الوراق للنشر، 2009).
– هلال الحجري: “مدخل إلى أدب الرحلات في عمان، دراسة وصفية للرحالة البريطانيين 1626-1970″، مجلة نزوى، العدد 35، (يوليو 2003).
– جمس بكنغهام:رحلتي إلى العراق سنة 1816، ترجمة سليم طه التكريتي، الجزء الأول (بغداد: مطبعة أسعد، 1968).
– جمس بكنغهام:رحلتي إلى العراق، ج1.