إن الحضارة في عمقها وجوهرها، هي القدرة العالية على المشاركة في صنع الحاضر وصياغة المستقبل. والفعل الحضاري هو الجهد البشري الذي يبذله الأفراد أو الجماعات لتحقيق هاتين الغايتين. ولا تكتمل لهذه المشاركة شروطها، إلا بالتعايش الثقافي الحضاري بين الشعوب والأمم، الذي يقوم على قاعدة التعاون الإنساني الرحب الواسع غير المحدود، والذي تحكمه القيم الإنسانية النبيلة. بهذه الفكرة المهمة افتتح الدكتور “عبد العزيز بن عثمان التويجري”، المدير العام السابق للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو، موضوع كتابه “الحوار من أجل التعايش”.

رسالة التفاعل الحضاري في عالم متغير

يرى “التويجري” أن العلاقة المتينة بين الحوار والتفاعل الحضاري، تقتضي أن يكون ثمة ترابط محكم بين أهداف الحوار وغايات التفاعل الحضاري. وبتعبير أدق إن التفاعل الحضاري عملية تكاملية تتم بين الطرفين، وتمتزج فيها عناصر شتى، وتؤدي في النهاية إلى حالة الانسجام والتناغم. وهي ليست عملية عشوائية لا إرادية، ولا هي ضرب من الترف الفكري، وإنما هي فعل ينتج عن التقاء إرادتين تسعيان إلى تبادل التأثير في المحيط الاجتماعي.

ومن أجل هذا، ينبغي أن يكون الحوار والتفاعل بين الثقافات والحضارات حوارًا هادفًا، وتفاعلاً بانيًا قائمًا على الاحترام، لكي يصير هذا الحوار والتفاعل فعلاً إنسانيًّا مؤثرًا في حركة التاريخ، وعنصرًا مساعدًا لاستتباب الأمن والسلام في الأرض، وقوة دفع لاستقرار الحياة الإنسانية وازدهارها ورقيّها. والهدف الرئيس من هذا كله هو إشاعة قيم التسامح بالمعنى الراقي للتسامح، أي التسامح كقيمة توحد الإنسانية وتجعلها أكثر تعايشًا.

آفاق مستقبل الحوار بين المسلمين والغرب

يذكر هنا “التويجري” أن لهذا الحوار حدودًا يتعين رسمها بدقة، والاتفاق عليها عن اقتناع، وهي:

أولاً: أن يكون الحوار متكافئًا، تتوفر له شروط المساواة والندية والإرادة المشتركة، وأن تتعدد مستوياته وتتفاوت درجاته؛ بحيث يكون حوارًا شاملاً يدور مع مختلف الفئات والشرائح، على المستوى الحكومي، وعلى صعيد المؤسسات الأهلية ذات العلاقة بالقضايا والمجالات التي تحدد هذا الحوار.

ثانيًا: أن يتناول الحوار مختلف القضايا التي تهم المجتمع العربي الإسلامي، لا يُستثنى إلا القضايا التي تدخل ضمن اختصاصات السيادة في الدول العربية والإسلامية، بحيث يتسع مجال الحوار ويتعمق مجراه، فيشكل كل موضوع ذي صلة بالحياة الثقافية والفكرية، والاقتصادية والاجتماعية، والعلمية والتّقانية، فلا يكون مقتصرًا على القضايا المعرفية فقط.

ثالثًا: أن يهدف الحوار إلى تحقيق منافع مشتركة للطرفين، وأن يؤدي إلى تأمين المصالح التي يحرصان عليها، والتي لها صلة بالتقدم في مجالات الحياة ثقافيًّا وعلميًّا، واقتصاديًّا واجتماعيًّا، بحيث يكون لهذا الحوار تأثير على مجمل العلاقات بين المسلمين والغرب، ويعود بالنفع والفائدة على الجميع.

رابعًا: أن يكون الحوار متحضرًا، ومترفعًا عن الموضوعات التي هي مثار اختلافات دائمة، مثل اختلاف العقيدة واللون والعرق.

وهنا يشير “التويجري” إلى الحوار الإسلامي-المسيحي؛ فلأول مرة في تاريخ الكنيسة الغربية، ناقش المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) على مستوى مذهبي وعقائدي، مشكلة العلاقة بين الكنيسة والديانات غير المسيحية، حيث صدر عن الكنيسة تصريح خاص حول “علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية”. وقد أولى هذا المجمع اهتمامًا خاصًّا بالإسلام، فلأول مرة منذ أربعة عشر قرنًا من وجود المسيحية والإسلام، يتحدث مجمع مسكوني كاثوليكي بصورة إيجابية عن الإسلام معترفًا بوضعه الديني. ثم جرت بعد ذلك تطورات عديدة على مستوى العلاقة بين الإسلام والمسيحية، كان من أبرزها الخطاب الذي ألقاه البابا “بولس السادس” في كل من عمان والقدس في يناير 1964؛ إذ دعا الكنيسة لاحترام أتباع الأديات التوحيدية الذين يعبدون إلهًا واحدًا حقيقيًّا.

بناء على ذلك يرى “التويجري” بأننا في حاجة اليوم إلى أن ننتقل بالحوار إلى الجامعات ومراكز البحوث والدراسات، ونساهم في إنشاء كراسي للدراسات الإسلامية في أعرق الجامعات الغربية، ونقيم جسورًا من التواصل والتعاون بين جامعاتنا وجامعات الغرب، ونتبادل التجارب والخبرات ونتائج البحوث الأكاديمية في شتى فروع العلم والمعرفة.

العولمة والهوية

إن العولمة لا يمكن أن تكون نقيضًا للهوية، ولن تكون بديلة عنها. والعولمة بهذا المفهوم، وفي إطار التنوع الثقافي وازدهار هويات الشعوب، وفي ظل الحوار الراقي الهادف بين الأديان والحضارات، هي الخيار الإنساني المتاح والمفتوح أمام مستقبل البشرية، وهو الأمر الذي سيؤدي -بالتتابع وبتراكم التجربة- إلى تعميق الاحترام المتبادل بين الجميع.

وبناء على ذلك، يستحضر “التويجري” هنا موضوع التسامح، معتبرًا بأنه “أمر لا غنى عنه للعلاقات الإنسانية السلمية في أي مجتمع. وعندما يتحول التسامح إلى احترام متبادل -وهي صفة أكثر إيجابية- فإن نوعية العلاقات ترتقي بشكل واضح. ومن ثم فإن الاحترام المتبادل يشكّل أساسًا لإقامة مجتمع إنساني تعددي، وهو نوع المجتمعات الذي يمثّله الجوارُ العالمي ذاته، والذي لا يتميز بالاستقرار فحسب، بل باحترام تنوعه الذي يُغنيه.. وإذا فقدت نظرية العولمة هذا العنصر الإنساني، وعدمت هذا الأساس الأخلاقي، كانت إلى الأيديولوجية الشمولية أقرب منها إلى النظام القانوني القابل للتطبيق لصالح البشر كافة”. إن العولمة بهذه الصورة تجعلنا نتفق مع رأي “التويجري”، لكن أن تحول العولمة الإنسان إلى مجرد أرقام وسلعة، فهذا يضر الإنسانية في تنوعها دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.

التنوع الثقافي

لقد أضحى الحق في التنوع الثقافي في رأي “التويجري” قاعدة من قواعد القانون الدولي، وذلك استنادًا إلى ميثاق الأمم المتحدة والعهود والاتفاقيات التي تحكم علاقات التعاون الثقافي بين المجموعة الدولية وفي كفالة هذا الحق من حقوق الإنسان، تأكيدًا على الخصوصية الثقافية لكل شعب من شعوب العالم، وإبرازًا للهوية الوطنية ذات السمات الحضارية التي تشكل في مجموعها الهوية الإنسانية العامة القائمة على أساس وحدة الجنس البشري، ووحدة الصفات المشتركة التي أودعها الخالق البارئ في الطبيعة البشرية.

جاء في المادة الأولى من إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي:

1- لكل ثقافة كرامة وقيمة يجب احترامهما والمحافظة عليهما.

2- من حق كل شعب ومن واجبه أن ينمّي ثقافته.

3- تشكل جميع الثقافات، بما فيها من تنوع خصب وبما بينها من تباين وتأثير متبادل، جزءًا من التراث الذي يشترك في ملكيته البشر جميعًا.

وعلى ذلك، يمكن القول مع “التويجري” إنه ليس في تنوع الهويات وتعدد الخصوصيات ما يتعارض وقضاء المصالح المشتركة بين الشعوب والأمم في إطار التعاون الإنساني القائم على قاعدتَي التعارف والتعايش، وإنما ينطوي هذا التنوع على عناصر تغذي الميول الإنسانية الفطرية نحو امتلاك أسباب التقدم والرقي بحافز من التنافس الطبيعي، وبوازع من التدافع الحضاري. يقول “التويجري” معلقًا: “وما دامت الهوية بهذا الرسوخ في طبائع الأمم والشعوب، فلا سبيل إلى تجاوزها، أو محوها، أو انصهارها في بوتقة هوية واحدة مهيمنة ذات سيطرة ونفوذ، مهما كانت الذرائع وبلغت الأسباب والدوافع، فليس في ذلك فقط خروج على طبيعة الأشياء، وتمرد على سنن الكون وفطرة الحياة، وإنما في محاولة إلغاء هويات الشعوب بالقهر والقسر والإكراه، خرق للقوانين المتعارف عليها عند البشر، ومسّ خطير بقواعد القانون الدولي، وتهديد للأمن والسلم والاستقرار في العالم”، أي إن التعدد والتنوع والاختلاف أوجده الله للتعايش فيما بيننا.

التعايش بين الأديان

إن التعايش بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان، ينبغي أن ينطلق من الثقة والاحترام المتبادلين، ومن الرغبة في التعاون لخير الإنسانية في المجالات ذات الاهتمام المشترك وفيما يمسّ حياة الإنسان.

من هذه القاعدة حسب “التويجري” يمكننا الانطلاق في اتجاه تعميق البحث العلمي في إطار جهود مشتركة، للوصول إلى نتائج تدعم أسس التعايش الذي هو -في البدء والختام- التعاون بين المؤمنين في الأرض على ما فيه الخير والصلاح للإنسانية جمعاء. والبحث العلمي النزيه عن اتصال الأديان وآثار ذلك الاتصال، خطوة صالحة في سبيل السلام العالمي والأخوة الإنسانية.

إذن، فالتعايش بين الأديان، يجب أن يكون دعمًا للجهود الخيّرة التي يبذلها المجتمع الدولي، من أجل التعايش الحضاري والثقافي بين الأمم والشعوب، وأن يكون قوة دفع لهذه الجهود نحو تطويرها وإغنائها وتعميمها. وحتى يكون التعايش بين الأديان في خدمة السلام العادل، يجب أن تتحرر الأطراف المشاركة فيه من كل القيود والضغوط والارتباطات التي تتعارض ومبادئ هذا التعايش وأهدافه.

حوار الثقافات والحضارات ضرورة إنسانية

إن الحاجة إلى حوار هادف يقوم بين الثقافات والحضارات، تنبع أساسًا من طبيعة هذا العصر الذي اشتد فيه الصراع بين الدول والأمم والشعوب، وفشا فيه النزاع حول المصالح والمواقف والسياسات، واكتسى فيه تعامل البشر بعضهم مع بعض على عدة مستويان طابع العدة والضراوة، بينما تراجعت القيم الإنسانية السامية التي تحض على التسامح والتراحم، وتهدي إلى الإيثار ونشدان الخير.

وبقدر ما تعظم الحاجةُ إلى حوار جدّي بين الثقافات والحضارات لإقامة جسور التفاهم بين الأمم والشعوب، ولبلوغ مستوى لائق من التعايش الثقافي والحضاري، تقوم الضرورة القصوى لتهيئ الأجواء الملائمة لإجراء هذا الحوار، ولإيجاد الشروط الكفيلة بتوجيهه الوجهة الصحيحة التي تؤدي إلى تحقيق الأهداف المنشودة والغايات المرجوة. يقول “التويجري”: “ولعل قاعدة الاحترام المتبادل للأفكار والمبادئ والتصورات، والاتفاق على القدر الكافي من الموضوعية والجدّية وتحديد الأهداف بدقة متناهية، هي أقوى ضمان للوصول إلى اقتناع مشترك بحصيلة من النتائج التي من شأنها أن تعزز الجهود الإنسانية الصادقة التي تبذل من أجل تقوية أسباب السلم في مدلوله العام، وإلى تدعيم دواعي الأمن في مفهومه الحضاري العميق الشامل”.

ومن ثم يمكن القول إن تحديد الأهداف الرئيسة والفرعية من عملية الحوار بين الثقافات والحضارات، شرط أساس لترتيب قائمة الموضوعات والقضايا التي يتعين أن يشملها الحوار. والحق أن طبيعة العصر بكل تفاعلاتها، تدعونا إلى أن يكون التعايش الثقافي والحضاري بين البشر، غاية تجتمع حولها عقول النخبة المفكرة وإرادات أصحاب القرار، وذلك من منطلق الإيمان بوحدة الجنس البشري أولاً، والتسليم بحق الإنسان في أن يحيا على هذه الأرض في وئام مع نفسه، وفي وفاق مع أخيه الإنسان، وفي سلام شامل ينعم بثماره ويحفظ كرامته الإنسانية.

ومن كل هذا يمكن القول، إن التسامح والانفتاح على الثقافات والحضارات، والحوار معها، والتعايش مع الأمم والشعوب الأخرى، والتعاون معها لما فيه الخير للبشرية قاطبة، سينتج عنه وحدة إنسانية قاسمها المشترك هو التآخي والتراحم والمحبة والصدق والمنفعة العامة.

(*) متخصص في الدراسات الإسلامية / المغرب.