الحشرات العازفة

تلعب الحشرات دورًا هامًّا في حياة الإنسان؛ لأنها تعتبر العامل الرئيسي في تلقيح الأزهار، وبالتالي تكوين الثمار والبذور اللازمة لغذاء الحيوان والإنسان، وحتى تؤمِّن هذا، لا بد من استمرار تكاثرها.. ولذا نجد أن الحشرات تسعى للاتصال بأفراد نوعها، فهي لا تعيش بصمت كما يبدو لنا، بل تستعمل عدة لغات، فمنها من لا يجيد إلا لغة واحدة، ومن يجيد اثنتين، وهناك المبدع في ذلك.

إشارات صوتية

لعل الصوت من أكثر وسائل التفاهم انتشارًا في عالم الحيوان، ناهيك عن أنه من أهم الوسائل للتخاطب في عالم الإنسان.. وتصدر معظم الحيوانات أصواتًا، فللحشرة أعضاء تلتقط الذبذبات الصوتية، ويمكننا تسمية هذه الأعضاء آذانًا، ولكنها تختلف عن آذاننا اختلافًا كبيرًا؛ فهي تعمل في الحدود التي تحتاج إليها الحشرة، فأذن الإنسان تسجّل نحو 30.000 من الذبذبات في الثانية، بينما تسجّل أذن الحشرة أصواتًا أقل ذبذبة من الصعب أن نسمعها.
من بين وسائل الاتصال والتفاهم بين الحشرات، نجد أن هناك وسائل صوتية، حيث تبعث بعض الأنواع من هذه الحشرات إشارات صوتية، لها معنى من دون شك عند أفراد نوعها، وهي تحافظ على الإيقاع والوزن بشكل دقيق، وتعتبر هذه الإشارات نوعًا من الموسيقى. وهناك من يغني ويسافر في الليل دون ملل ليجذب قرينته وصاحبته.
فليس الهدف من الموسيقى هو مجرد الغناء وإبراز الأصوات فحسب، بل ثمة أغراض؛ فبجانب التعبير عن الغزل، فإنها تعبّر بالموسيقى عن غضبها وإحساسها بالخطر، كما أنها تتغذى أحيانًا على نغمات الموسيقى. فالحشرات تصدر صريرها الموسيقي تحت ظروف عاطفية عديدة، مثلها مثل الطيور التي تستخدم أصواتها في كثير من الأغراض الأخرى، بجانب الغناء المقصود منه جذب العشاق. وكثير من الحشرات الموسيقية تصدر موسيقاها الغاضبة لتعبّر عن حالة الكرب أو الضيق أو الخوف، فتظل تضرب السيقان الفارغة الخاوية للأشجار أو أي أشياء مجاورة، وتستخدم بعض الحشرات موسيقاها وغناءها كصيحات تحذير.

موسيقى الحشرات

لحّنت بعض أغنيات الحشرات الموسيقية بنفس النظام الذي تلحن به أي أغنية لمطرب أو مطربة من البشر.. في موسيقى الحشرات تكون النوتة الموسيقية المعبرة عن النغمات مستقرة على درجة واحدة للصوت، وبذلك تكون ناقصة عملية تنغيم الصوت نفسه، كما يحدث في أغنيات الإنسان والطيور.
ها هو الصرصار الحفّار، يطلق ما يشبه زغرودة لا نهاية لها، وقد اتضح أن كل جنس بل وكل نوع من الحشرات الموسيقية له ما يميزه من أغنياته، حتى إنه يمكن تمييز هذه الأجناس والأنواع عن طريق النغمات لأغنياتها، والصوت الناتج عن حشرة ما، يمكن أن يكون ذا نغمة فيها تطويل، أو قد يكون من سلسلة نغمات قصيرة ذات أطوال متغيرة، وبينها فترات راحة متغيرة الأطوال أيضًا.. وكل هذه المتغيرات في النغمات وتلك الاختلافات في المقامات الموسيقية، تعطي مدى واسعًا لصوت الحشرة المغنية.
وفي العديد من الحشرات، نجد آلة الكمان بقوسها وأوتارها في أماكن معينة من أجسامها. ولكي نعرف كيف تعزف هذه الحشرات على آلة الكمان، ينبغي أن نشير إلى الاختلافات الموجودة في موقع قوس الكمان وأوتاره، أو كليهما معًا على جسم الحشرة نفسها، ومن أمثلة هذه الحشرات الجرادة والصرصار، وحشرة “جرايلس” و”ميرميكا رويدا”. والكمان في معظم الحشرات الموسيقية، يتخصص لإنتاج نغمات ذات درجة واحدة من مقام الصوت، لكن أحد العلماء أثبت أن في بعض الخنافس الموسيقية أصواتًا تتشابه مع نغمات الكمان. والبيانو معروف عند حشرة السيكادا، التي يطلق عليها اسم حشرة المدّاح أو المنشد، ولها أصوات رنانة وعالية وحادة تميزها عن أي صوت مسموع للحشرات الأخرى.
أما الناي فصوته ينطلق من بعض الحشرات الموسيقية أثناء طيرانها حين تضرب الهواء بأجنحتها ضربات سريعة، ولكي يصدر الصوت نايًا لا شيء غيره، ينبغي أن تكون تلك الضربات السريعة للأجنحة في صورة ذبذبات، وعلى نسق واحد وبدرجة كافية؛ كما هو الحال في نحلة العسل وأنثى البعوض.وبالنسبة لآلات النفخ، ففي كثير من الحشرات ثنائية الأجنحة يوجد جهاز موسيقى بداخل كل فتحة تنفسية في جسمها، ويتكون هذا الجهاز من عدة ثنيات ورقية الشكل، تتركب كل منها ضد الأخرى بواسطة حلقة رنانة، وعندما تتنفس هذه الحشرات يندفع الهواء داخل الفتحات التنفسية، وتهز الثنيات الغشائية التي بها، فتصدر عنها الموسيقى.
وفي “ذبابة مايو” يوجد عضو للتغريد والزقزقة بداخل كل فتحة تنفسية، وهو عبارة عن ثنية على شكل لسان يبرز في تجويف الفتحة التنفسية وبالذات عند فتحتها الخارجية، فحينما تتنفس الحشرة يهتز اللسان وتحدث الزقزقة. وقد لوحظ أن الزقزقة تزداد في أثناء طيران الحشرة، لأنها تتنفس وهي طائرة قدرًا من الهواء أكثر مما لو كانت على الأرض.

الغناء للذكور فقط

ويبدو أن الغناء من اختصاص الذكور، فالإناث تنجذب لغناء أغنية يترنّم بها الذكَر وتستجيب له. وعندما تتقارب ذبذبات نوعين من الحشرات، فإنه لكي يضمن الذكر والأنثى عدم الالتباس بين ذبذبات الأغنيتين، فإن مثل هذين النوعين يحاولان عدم التواجد في المكان نفسه، بل يتباعدان عن بعضهما البعض.. ومثلما تفهم الأنثى لغة الذكور فإن الذكور التي من نوع واحد تفهم الآخر، ونتيجة ذلك يتجمع عدد كبير من الذكور في منطقة واحدة، حيث تقوم معًا بعزف الأغنية على هيئة كورس، وبهذا يرتفع الصوت فيجذب عددًا كبيرًا من الإناث.. ومن الغريب أن الذكور تكرر النغمات نفسها دائمًا، إذ لا توجد نغمة واحدة معينة لكل ذكر، بل يعزف معظم الذكور ثلاثة نغمات مختلفة فقط، يدل كل منها على حالة معينة.. إلى جانب الأغنية العادية التي يجذب الذكر بها الأنثى، ثمة أغنيتان أخريات؛ الأولى عندما يتقابل ذكران معًا، حيث يغنيان معًا أغنية التنافس على الأنثى التي لا تميل للانجذاب لمثل هذه الأغنية. ونظام الغناء هذا يتغير باختلاف المسافة ما بين العاشقين.. وهناك وسائل أخرى مختصة بالأصوات الخفيفة، كوجود شعيرتين تغطيها الأهداب، وظيفتهما التقاط اهتزازات التربة، ولو تساءلنا: كيف يغني صرصار الليل هذا ويطرب إناثه؟ فإننا سنلاحظ أن غناءه ناتج عن احتكاك أغماد أجنحته، فعلى السطح الداخلة لغمده اليمني يوجد عصب مسنن بأسنان دقيقة، هذه الأسنان تحتك بالمؤخرة العلوية لغمده الأيسر، ويتغير هذا الغناء من صرصار لآخر عن طريق تغيير نظام الإيقاع وترددات الأصوات.. وإذا حدث أن تنافس ذكران على جذب أنثى واحدة، فإن هذا التنافس يمتد إلى قتال حقيقي ضار، وقديمًا استغل الصينيون هذه الظاهرة لتنظيم حفلات المصارعة.. وحين تسمع الأنثى أغنية الذكر، فإنها تطير إلى حيث يتم التزاوج ولا تهوي إلى أي نوع سواه، أي أن الأنثى فهمت الغرض في موضع التنافس بين ذكرين. وقد لا تستجيب الأنثى لأغنية الذكر في جميع الأحيان، حتى لو ظل يشنّف آذانها بالعزف المتواصل لساعات طويلة.

لغة متعددة المعاني

ولا تهتم الأنثى بأغنية الذكر إلا في أوقات معينة، وذلك عندما ينضج الذي تحمله في مبيضها ويصبح مهيأ للتلقيح بالذكر. فالهدف هنا هو إنجاب الذرية لحفظ النوع؛ ففي كثير من أنواع حشرة “النطّاط” حين تشعر الأنثى بالرغبة في تلقيح بيضها، نجدها ترد على أغنية الذكر بعزف أغنية من النوع نفسه، ولكن بصوت ضعيف عن صوت أغنية الذكر.. ولكن هذه الأغنية تفعل في الذكر عند سماعه فعل السحر؛ حيث تجعله يشعر بنشاط فجائي عجيب، فيغني أغنيته بقوة وعاطفة جياشة، ويسرع بالطيران في اتجاه مصدر صوت أغنية الأنثى، وفي هذه الأثناء يتبادلان الغناء حتى يلتقيا، بل تطير هي أيضًا في اتجاهه اختصارًا للوقت.
وهكذا نرى أن هذه الأغنية عند تلك الحشرات أصبحت لغة متعددة المعاني، من الممكن فهمها وإدراكها والاستجابة لها، ليس بين أفراد جنس النوع الواحد، بل بين أفراد الأجناس المختلفة، وربما تكون حشرة صراصير الحقل أكثر الحشرات نغمة. ميز العلماء منها أكثر من ألفي نوع، وهذه الأنواع ليست مغنيات، وإنما عازفات على آلة الكمان؛ فعلي أحد أجنحتها غشاء تغطيه نتوءات، وعلى الجناح الآخر أسنان حادة كالمبرد، ويستطيع بحبك جناح على الآخر أن يحدث نغمات مختلفة تمامًا كما يفعل عازف الكمان عندما يحك قوسه على الأوتار.. ويحدث صرصار الحقل نغمة عالية، وثانية منخفضة، وثالثة مكتومة.. ويمكن سماعه في ليلة ساكنة على بُعد ميل (1.6 كيلومتر) تقريبًا، وتصغي الأنثى لنغماته بآذان على أرجلها.
وهناك أخيرًا حشرة موسيقية أخرى تسمى “كاتي ديد”، تنتمي إلى أسرة النطاط ولكنها لا تشبهه، وفي الليالي الحارة يضيف مقطعًا إلى أغنيته القصيرة.. وكلما انخفضت درجة الحرارة وجدناه يعزف مقطعًا من الأغنية واحدًا بعد الآخر، ويسكت عن نغمته الأخيرة عندما تنخفض درجة الحرارة إلى درجة معينة.

(*) كاتب وباحث مصري.