الحب

في البدء كانت الكلمة التي صارت خلقًا ومن النفخة صارت الأرواح، فثارت تدور في عشق الإله، فأرادت الإرادة الإلهية أن تأخذ الميثاق، فشهدت الأرواح جميعها بمعرفة الإله، ومن المعرفة زاد الشوق فحامت وهامت في الملكوت تسبح مع كل مسبح لخالق الوجود، ترى أثاره في عوالم الجبروت والرحموت والملك والملكوت.

وعندما أراد المريد أن يمتحن ذاك الحب المزعوم أرسلها إلى عالم الملك مقيدة بالسلاسل والأغلال، فمنها من نسى الميثاق فتاهت تبحث عنه في المخلوقات تظنه في الشمس فتعبده، تظنه في النار فتعبده تظنه في كل شيء حتى اشركت فضلّت، ثم من حبهم خالقهم بعث إليهم أرواحًا منهم ولكنها ما تاهت ولا ضلت، وما فتئت تردد ذاك الصدى الذي سمعته في الوجود ومن كل موجود تقول “بلى بلى بلى”.

هذه هي الأرواح العاشقة التي أحبها الإله قبل وجودها فسرى ذاك الحب في الكائنات كلها، فلما سجنت في قعر بئر المدينة الظالم أهلها، ما نسيت الديار وظلت تنتحب الليل والنهار وما يردد وجدانها إلا “الوصال الوصال”، ولا يزيد انتحابها إلا عبرات أعينها، ومن ذاك الانتحاب صار الانتخاب، فجعلوا مرشدين للأرواح في بلاد الغربة والاغتراب يذكرونهم بمنشئهم، من عالم الأرواح يبلغونهم رسائل المحب بالمحبة يبشرونهم باللقاء إذا فهموا وبالإعراض إذا ما أنكروا وأصروا علي الإنكار، أما من ألقوا السمع فإذا هم مبصرون يرون لمحات من عالم الملكوت، تذكّروا فتدبّروا فعرفوا فعشقوا فاشتاقوا فذابوا من الاشتياق. عشقوا الله في قهره وجلاله قبل لطفه وجماله، بل تحيروا واندهشوا لأنهم أبصروا الجمال في الجلال وعاينوا الجلال في الجمال، فما زالوا يسبحون بجمال محبوبهم بالغدو والآصال أينما حلو لا يعرفون إلا الذكر لمحبوبهم، ولكن الغافلون لا يفهمون نحيبهم ولا يعون لوعة أرواحهم، فسبوهم وسجنوهم وصلبوهم وقتلوهم فاستحقوا أن يلقبوا بشهداء المحبة العظام، وما كان حالهم إلا كما قال السهروردي المقتول يحدث عن حكايتهم يقول:

وَا رحمةً للعاشقين تكلفوا *** ستر المحبة والهوى فضاح

بالسر إن باحوا تُباح دماؤهم *** وكذا دماء العاشقين تُباح

بذاك السر شقوا؛ لا بل به شوَّقوا فعاشوا، إذا أنصت قليلاً سمعت صرخات المحبة يتردد صداها في الوجود تسمعها الكائنات تحييها فتموت، نعم!، تموت فتحيا بذكر مالك الملكوت صرخة إذا لم تسمعها فقد عبّر عنها الحلاج قائلاً:

أقتلوني يا ثقاتي***فإن في قتلي حياتي

وفي حياتي موتي***وفي موتي حياتي

ملاحظة: التقيّد بالسلاسل والأغلال لا ينافي الاختيار، ولكن يقصد به الغرائز الحيوانية التي يتخلص منها المريد في أثناء سيره إلى الله.