الجهاز المناعي يتكلم

عزيزي عبد الله.. أنا جهازك المناعي، وقد كلفني رب السماوات والأرضين بحماية خلايا جسدك من أعدائها، وجعلني بكافة قوّاتي الخاصة خادماً لك، أي لنقلْ، أنا الجيش المنوط بحراسة جسدك. وقد توزعت بداخلك على فرَق ووحدات عسكرية لكل منها تخصصها. فأنا أُشبه التشكيلات العسكرية تمام الشبه؛ فكل فرقة عسكرية بداخلي تعمل تحت مظلة النظام المناعي بعد أن تتدرّب تدريباً جزئياً أو تاماً، وتكون قادرة على أداء مهمتها الدفاعية. والمهام التي يقوم بها جنودي، مهام متعددة تختلف حسب تخصصات الجنود الدفاعية، فمن هؤلاء الجنود من تم تزويده بالأسلحة الثقيلة؛ فيقتل عدوه بالقنابل والطلقات النارية، ومنهم من ينتج مواد سامة خاصة، تتناسب مع نوع العدو يحقنها في جسد العدو فيرديه قتيلاً، ومنهم من يعمل بمثابة مصنع للقمامة والنفايات؛ يجمع جثث الأعداء ويمزقها حتى لا تفوح رائحتها فتلوث جسدك، كما أن منهم من يلتهم الأعداء التي تهاجم خلايا جسدك، ويبتلعها حية. وبعض هؤلاء الجنود ينتج المادة الخام اللازمة للتسلح، والبعض آخر يُحول هذه المادة الخام إلى أسلحة. كما توجد وحدات عسكرية أخرى تقوم بمهمة التحصينات، وأخرى بالإمدادات والدعم اللوجستي، وغيرها تقوم بالتخابر والمراسلة. وتضم تشكيلاتي العسكرية أيضاً، وحدات تشبه فِرَق الكوماندوز الخاصة، وكذلك وحدات عسكرية ذات ذاكرة قوية للغاية تقوم بالتعرف على عدوها مرة فلا تنساه بعدها أبداً. وهؤلاء الجنود هم بمثابة مركزٍ للمعلومات، فتفتش عن الأعداء الذين يتسللون إلى الخلايا ويشكلون خطراً عليها، فتتعرف عليهم، ثم تقوم مباشرة بإعداد إستراتيجية حربية تتفق وطبيعة هذا العدو، إستناداً إلى ما لديها من ملفات أرشيفية عنه، لأنه إذا ما عُرف العدو يكون التصدي له أيسر وأكثر سهولة.

آلية الدفاع المعقدة

والآن وبعد هذا التشبيه، دعني أحدثك باختصار عن أعدائك وعن تخصصات جنودي المتمركزة داخل جسدك للتصدي لها، ولكني أجدني مضطراً لأن ألفت انتباهك إلى أمر مهم مرة أخرى. فأنت تعلم يا عبد الله أن لكل جيش أو وحدة عسكرية قائداً يتفق وحجم الموقع الذي يتولاه داخل التراتبية العسكرية، ولكل قائد رئيس ومرؤوس. وبهذه الكيفية تسير الأمور دون خلل في ظل نظام الأوامر والانضباط العسكري. وإن الذي وضع داخل جسدك هذا الجيش العظيم هو الله سبحانه وتعالى الذي لا منتهى لعلمه وقدرته، الخالق البارئ المصور. ولما كان الله تعالى بعلمه الأزلي، يعلم الأعداء التي سيواجهها جسدك طيلة حياتك، فقد خلقني وجهزني لمحاربة هؤلاء الأعداء وحمايتك منهم.
إن أعداء جسدك عبارة عن ميكروبات تتسلل إليه من خارجه أو تغزوه بطرق مختلفة؛ إما عن طريق الجهاز الهضمي أو التنفسي أو من خلال عملية الإخراج أو عن طريق الجلد. وعندما تذكر كلمة “ميكروب” ينبغي أن يتبادر إلى ذهنك أنواع كثيرة ومختلفة من الكائنات الحية كـ”البكتريا” و”الفطريات” و”الفيروسات”. ولكل ميكروب الطرق الخاصة لمكافحته، وجنودي مهرة متخصصون في ذلك. وأنا بطبيعة مهمتي عليَّ أن أكون متيقظاً وحذراً دائماً إزاء الميكروبات التي ترد إلى الجسد من خارجه. وهذا أمر طبيعي، فالميكروبات المهاجمة من الخارج كلها أعداء بطبيعة الحال، ولكن بعض خلايا جسدك تتحول فجأة إلى عدو إرهابي فتبدأ في الإخلال بالنظام والإضرار به، وهي ما تسمونه “الخلايا السرطانية”. كما أنني أجد صعوبةً بالغة في التغلب على هذه الخلايا السرطانية، لأنها خلايا من داخل جسدك، تعرف خططنا وطرق مكافحتنا، ولكننا نتغلب عليها أيضاً بإذن الله سبحانه وتعالى. غير أن الضغط العصبي والحزن المفرط وغيرها من الحالات النفسية تؤثر عليَّ وتضعفني. وفي حال استمرار هذا التوتر طويلاً فإن بعض الخلايا السرطانية قد تخرج عن سيطرتي فتنمو وتبدأ في التحول إلى أورام. والخلايا السرطانية في الأصل تتكاثر بشكل كبير أكثر مما نتوقع، ولكن جنودي يقومون وبشكل مستمر بفحص كل خلية جديدة تتكون؛ يحددون طبيعتها وما إذا كانت عادية أم سرطانية. وبمجرد اكتشافهم خلية إرهابية مسرطنة، يأخذون في التعامل معها والتصدي لها مباشرة. ولكن هناك من الخلايا السرطانية من تسبح في الجسد كالذئاب، لابسة مسوح الخراف حتى لا تُعرف. ولذلك فإن بعض دورياتي العسكرية قد تنخدع فيها، لأن مهمتها تقتصر فقط على فحص الخلايا ظاهريًّا من خلال معاينة غشائها الظاهري. فهناك بروتينات ذات شفرة خاصة يُعرف بها الميكروب أو الخلية السرطانية من خلال غشائها. ونحن نطلق هذه الجزيئات المشفرة تجاه الخلايا دون أن نلمسها، لنحافظ عليها لكونها جزء من جسدك. ولكن الأعداء الآخرون الذين يهاجمون الجسد من خارجه يتم ضبطهم وقتلهم فوراً لجهلهم بكلمة السر، أما في أمراض كالسرطان، فإن الخلايا السرطانية قد يمكنها الانفلات والهروب من دورياتنا العسكرية لعلمها بكلمة السر. وقد يحدث العكس في بعض الأحيان فيصاب جنودنا بعطب أو تلف، حيث تعجز عن التعرف على خلايا الجسد الأخرى الصديقة رغم أن الشفرة الموجودة عليها صحيحة فيهجمون عليها، ويعاملونها معاملة العدو.
وقد يعد ذلك الوضع المعروف بأمراض “المناعة الذاتية” وضعاً بالغ التعقيد والاضطراب، حتى إنني شخصياً يصعب عليّ فهم أسبابه فهماً جيداً. فعلى سبيل المثال، هناك العديد من الأمراض مثل “روماتيزم المفاصل”، حيث يكون علاجه صعباً، بل وأحياناً يستعصي علاجه. وفي مثل هذه الأمراض المزمنة يقوم جنودي بمحاولة الفتك بهذه الأمراض من خلال الهجوم على الأنسجة التي تعيش فيها كالغضاريف، وعضلة القلب، وعدسة العين، والكلية.
وعندما خلقني الله تعالى أنا الجهاز المناعي وجعلني جزءاً من نظام جسدك المتكامل، إذ كنتَ حينها جنيناً في بطن أمك، أبرم بعض جنودي ميثاقاً أعلنوا فيه أن خلايا الجسد الأخرى في أمان وعهد وصداقة مع جنود الجهاز المناعي، وأن هؤلاء الجنود لن يقاتلوا إلا أعداء الجسد. ولكن ولسبب من الأسباب اختل هذا الميثاق ولم أعد أقدر على إنفاذ كلمتي على جنودي، الأمر الذي أدى إلى أن يعاني الناس من الأمراض المناعية.
وحسبي هذا القدر من الحديث عن الأمراض. والآن سأترك جنودي يحدثونك عن تشكيلاتهم ومهامهم العسكرية.

كرات الدم البيضاء

يُطلق علينا -نحن جنود الجهاز المناعي- بشكل عام “كرات الدم البيضاء”. ونحن موجودون داخل الدم بمتوسط 6000-7000 ملم3. ولأن كرات الدم الأخرى يطلق عليها “كرات الدم الحمراء”، فقد أطلقوا علينا كرات الدم البيضاء. ونتميز بإمكانية الوصول إلى كافة أنحاء الجسد من خلال الشعيرات الدموية، ولذلك يمكننا التجول داخل الجسد كله والبحث لأنفسنا عن عمل فيه. وبديهي أنه لا يمكن لأي شخص أن يفعل كل شيء، ولذلك ننقسم -بداية- إلى فرقتين عسكريتين؛ يُطلق على خلايا الدم البيضاء الموجودة بالفرقة الأولى “الخلايا المحببة” لكونها ذات شكل حبيبي، ويطلق على الخلايا الموجودة بالفرقة الثانية “الخلايا غير الحبيبية”.
وتنقسم هاتان الفرقتان بدورهما إلى عدد من الوحدات العسكرية؛ فالفرقة الأولى تضم ثلاث وحدات هي: النيتروفيل، والإيزونوفيل، والبازوفيل، بينما الفرقة الثانية تنقسم إلى وحدتين: المونوسايت، والليمفوسايت.
النيتروفيل: يعد أضخم جيوشي داخل خلايا الدم البيضاء (يمثل 65% – 70%) منها، وهو عبارة عن كرات تتحرك حركة أميبية فتقترب من موضع الميكروب، وهي قادرة على التهامه وابتلاعه، كما أن الأنزيمات الهاضمة التي تحملها الحبيبات الموجودة بداخلها، قادرة أيضاً على تمزيق هذا الميكروب وهضمه. وعندما يصاب الجسد بأية إصابة، يزداد عدد هؤلاء الجنود الذين يقومون باستكشاف الميكروبات المهاجمة وتطويقها ثم ابتلاعها وهضمها، وهي آية من آيات الله تعالى. بيد أن علماء الفسيولوجيا لديكم يطلقون على هذه العملية “إفرازات كيميائية”، ويجنبون أنفسهم مشقة التفكر في الأمر، ظناً منهم أنهم بإطلاق مسمىً ما على إحدى الظواهر، يكونون قد حلوا الألغاز وتوصلوا إلى حقائق الأمور. في حين أن هذه الإفرازات الكيميائية ما هي إلا السبب الظاهري في العملية فحسب.
الإيزونوفيل: وتشكل هذه الخلايا 12% من جيوش الحراسة، ولكنكم لا تعلمون تمام العلم طبيعة المهام التي تقوم بها هذه الجنود. إن هؤلاء الجنود يتكاثر عددهم في حالة حدوث حساسية تجاه الأجسام الغريبة “الأنتيجين” التي تغزو الجسم عند حدوث إصابة بأمراض طفيلية. فتتمم هذه الجنود تأثير الأجسام المضادة التي يتم إنتاجها لمكافحة الأجسام الغريبة، وتقلل كذلك من تأثير بعض المواد الكيماوية مثل “الهستامين” التي يُفرز كردّ فعل طبيعي ضد الأجسام الغريبة. كما أنها مواد يظهر تأثيرها في أعراض مثل الاحمرار والحكة والانتفاخ.
البازوفيل: يعد الأقل من حيث عدد الجنود بين هذه الخلايا، وتبلغ نسبته 0,5%. توجد هذه الجنود في مناطق الجروح خلال فترة الشفاء، وفي مناطق الالتهابات المزمنة، كما تحتوي حبيباته على مادتين مهمتين هما: الهبارين والهستامين. يساعد “الهستامين” في الإسراع بتوسيع الشعيرات الدموية، وخروج المواد النشطة الموجودة داخل جهازي المناعي من جدران الأوعية الدموية، ووصولها إلى منطقة الجرح، بينما “الهبارين” يوفر للدم السيولة اللازمة ويمنع تجلطه.
المونوسايت: أما الفرقة الثانية فيعد “المونوسايت” من أهم جنودها، ويشكل نسبة (3% – 9%) منها، وبينما الجنود السابقون يولدون وينشأون داخل النخاع العظمي. فإن جنودي هؤلاء يعيشون داخل الأعضاء الليمفاوية مثل الكبد والطحال والغدة الثيموسية، والتي يطلق عليها “النظام الشبكي المبطن”. كما تقوم هذه الخلايا الفتاكة بالتهام الأجسام الغريبة، وكذلك التهام خلايا الدم الحمراء التي كبر سنها، ولم تعد قادرة على القيام بمهامها على النحو المطلوب، ومن ثم فهي تقوم بتنظيف وتطهير الأماكن الموجودة فيها. وخلايا المونوسايت هي خلايا متحركة تتصدى للميكروبات، ويمكنها الخروج من الأوعية الدموية والنفاذُ بين الأنسجة. وتسمى هذه الخلايا الشرهة خارج الأوعية الدموية بـ”الماكروفاج”. وفضلاً عن أن هذه الخلايا قادرة على التهام وابتلاع أنواع متعددة من الأجسام الغريبة وليس جسماً واحداً بعينه، فهي أيضاً تزيد من حساسية الليمفوسايت تجاه الأجسام الغريبة.
الليمفوسايت: فتعد من أفضل جنودي التي تلقت تدريبات خاصة، وأصبحت متخصصة في عديد من المجالات. وهي تشكل نسبة (20% – 25%) من جنودي. وهي تقوم من خلال المستكشِفات الكائنة على ظهرها بتحديد الميكروبات والأجسام الغريبة، ثم تقوم بتقييدها وطردها خارج الجسم. ولكل جندي من هؤلاء الجنود مستكشف يتعرف على جسم غريب بعينه. ولذلك فإن دمك يا عزيزي عبد الله، يمتلك الملايين من جنود الليمفوسايت التي يختلف كل منها عن الآخر. فأياً كان نوع الميكروب الذي يهاجم جسمك فحتماً ستجد أحد جنود الليمفوسايت قادراً على التعرف عليه والإمساك به. وهؤلاء الجنود يمكن تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات حسب مظهرها الخارجي: ليمفوسايت صغيرة، ومتوسطة، وكبيرة الحجم. غير أن لكل واحدة منها مجالاتِ تخصصٍ خاصة بها، كما أننا يمكننا تقسيمها إلى مجموعتين من حيث المهام: الخلايا البائية، والخلايا التائية، وذلك حسب عمليات النضج والتدريب التي تلقتها قبل أن تخرج على الجبهة. ورغم أن كلتيهما قد نشأتا من خلايا جذرية في النخاع العظمي، إلا أن الخلايا التائية قد نضجت في البداية داخل الغدة الثيموثية قبل أن تذهب عبر الدم إلى الأنسجة الليمفاوية مثل الطحال والكبد واللوزتين، وتوجد الغدة الثيموثية داخل الثدي.
أما الخلايا البائية فتنضج داخل النخاع العظمي، وتتجه مباشرة إلى اللوزتين، والزائدة الدودية، والطحال، والأنسجة الليمفاوية الأخرى. وإذ تنضج الخلايا التائية داخل الغدة الثيموثية، فإنها تكتسب صفات مختلفة، وتقوم بمهام متعددة، حيث منها الخلية التائية المساعدة، والخلية التائية القاتلة، وكذلك الخلية التائية المُعيقة. فالخلية التائية المساعدة التي تستثار عندما تجد جسماً غريباً، تفرز مادة “الليمفوكاين” التي تقوم بإنتاج أجسام مضادة للخلايا البائية. ومن هذه الإفرازات (الإنترلوكسين-2) الذي يحفز الخلايا التائية القاتلة، فتلتصق بالخلايا المصابة بالميكروب أو الفيروس خاصة ولا تتركها حتى ترديها قتيلة. والخلايا التائية القاتلة لا ترتبط مباشرة بالأجسام الغريبة، بل تفرز مادة تؤدي إلى قتل الخلية المصابة، وذلك بعد أن تتحد مع الأجسام المضادة المرتبطة بالخلايا المصابة بالميكروب. ويبلغ متوسط عمر الخلايا التائية من عامين إلى أربعة أعوام، غير أن بعضاً منها قد يزيد عمرها على عشر سنوات.

الخلايا التائية والخلايا البائية

وفي أيامنا هذه، أضحى للخلايا التائية جانب سلبي غير مرغوب فيه بسبب هجومها على الأجسام الغريبة. فقد يحدث أن يحتاج الجسد زرعا لأحد الأعضاء البديلة مثل الكلية أو القلب، فتقوم الخلايا التائية مباشرة بمهاجمة هذا الجسم الغريب، وذلك لأن جنود الخلايا التائية تكون عاجزة عن إدراك حاجة الجسد لهذه الكلية أو القلب الغريب عنه؛ فيحدث ما نعرفه بـ”رفض الجسم للعضو” أو “عدم توافق الأنسجة”. فهذه الخلايا مثلما تقوم بمهاجمة الخلايا السرطانية من أجل القضاء عليها، تهاجم أيضاً ذلك العضو الغريب وتحول دون استفادة الجسد منه. ولذلك يبذل علماء المناعة قصارى جهدهم، من أجل التوصل إلى عقاقير جديدة يكون بمقدورها تعطيل هؤلاء الجنود عن ممارسة مهامهم عند الضرورة.
أما الخلايا البائية فعندما تواجه جسماً غريباً يمثل بالنسبة لها حساسية بالغة، فإنها سرعان ما تتكاثر رافعة شعار “في الاتحاد قوة”، وتشكل مجموعة عسكرية من الخلايا التي تشترك معها في السمات نفسها. وتقوم كل خلية داخل هذه المجموعة العسكرية والمعروفة باسم “محصن مناعي-أمينوجلوبيولين” بتكوين جسم مضاد يشل حركة الجسم الغريب. ويستغرق إنتاج الجسم المضاد عدة أيام وذلك إلى أن يتم القضاء على الميكروبات تماماً. وتشتمل الخلايا البائية على خلايا تسمى بخلايا الذاكرة، تعمل على التحفيز من أجل الإكثار من توليد الأجسام المضادة وليس إفرازها. وبذلك تقوم هذه الخلايا تلقائياً عند ظهور أي جسم غريب مرة أخرى، إفراز الجسم المضاد اللازم مرة أخرى.
وهذا ما يفسر إصابتك بالأمراض كثيراً في صغرك، وقلّتها كلما كبرت؛ حيث تقوم هذه الخلايا بالتعرف على الميكروب بمجرد اقتحامه لجسدك، وتبدأ في التعامل معه فوراً. وتحتفظ الذاكرة بسجل الميكروبات فترات محددة. فعلى سبيل المثال، عندما تتعرف خلايا الذاكرة على ميكروب الحصبة مرة واحدة فإنها لا تنساه أبداً بعد ذلك. وعندما يشارف هؤلاء الجنود على الموت، يقومون بتسليم شفرات الميكروبات المختزنة لديهم إلى الجنود الجدد.
عزيزي عبد الله.. انظر كيف أودع الله تعالى بمقتضى رحمته اللامتناهية داخل دمك خلايا الذاكرة؛ وتأمل كيف تقوم هذه الخلايا بتذكر الميكروب الذي رأته قبل أعوام طويلة، ثم تشرع في إنتاج الأسلحة المضادة له. فمن أين لهذه الخلايا التي لا عقل لها ولا مشاعر أن تقوم بهذا؟

العقد الليمفاوية

فيمكنك يا عبد الله أن تشبه العقد الليمفاوية -وهي مراكز إنتاج الليمفوسايت في مناطق معينة- بالمواقع العسكرية ذات الأحجام المختلفة. وقد يتم إنتاج الليمفوسايت في تجمعات الأنسجة الليمفاوية الصغيرة الموجودة تحت الخلايا الطلائية التي تبطن القنوات الهضمية -وهي من أكثر الأماكن عرضة للميكروبات- وكذلك التي تبطن القنوات التنفسية والمثانة.
ويمكن للعقد الليمفاوية الملتهبة بسبب إصابة بكتيرية ما، أن تنمو (1-2 سم). وفي ظل البنية الليمفاوية التي تحيط بالجسم كله كالشبكة، فإن الليمفوسايت يمكنه أن يصل إلى أي مكان في الجسم أصيب بالميكروب. وبخلاف العقد الليمفاوية المنتشرة على امتداد الأوعية الليمفاوية، فإنه توجد مجموعة عقد ليمفاوية في أماكن محددة مثل القفا، وأعلى الفخذ، وأسفل الإبط. فإنك إذا أصبت بميكروب عبر القنوات التنفسية العليا، فإن الغدد الليمفاوية الموجودة في اللوزتين والعنق، هي التي ستنتفخ أولاً، أما إذا أصبت عبر المجاري البولية، فإن الغدد الموجودة في منطقة أعلى الفخذ هي التي تنتفخ هذه المرة، أما الميكروبات التي تصيب القنوات الهضمية فتجد الليمفوسايت الموجود داخل الزائدة الدودية هو الذي يتصدى لها. ويزعم بعض علماء الطبيعة الذين يجهلون أن الله سبحانه وتعالى قد خلق كل شيء لحكمة، أن ذلك العضو الذي هو امتداد للأمعاء الغليظة هو “مصران أعور”، وأنه سيتلاشى تماماً في المستقبل!.. أفلا يعلم هؤلاء المساكين أن الله تعالى لم يخلق شيئاً عبثاً أو سدى؟! إن الزائدة الدودية واللوزتين من الأعضاء المفيدة التي تنتج الليمفوسايت في الظروف الطبيعية، وليست أعضاءاً زائدة أو عديمة الفائدة. ولهذا فليس من الصحيح استئصالها عندما لا توجد ضرورة لذلك.
وبخلاف جنود النظام المناعي، فإن للجسد طرق حمايةٍ خاصة لدى أعضاء الجسد المختلفة، ولكنها لا تمتلك جنوداً، بل هي تشبه تشكيلات الدفاع المدني. فعلى سبيل المثال، هناك الجلد والأغشية المخاطية التي تبطن الفم والأنف ضد الميكروبات، وكذلك “الأنترفيرون” وهي مادة تنتجها الخلايا ضد الفيروسات، و”الليزوسيزم” وهي مادة مضادة للبكتريا، توجد داخل الدموع والعرق. ولذلك فإن التعرق والبكاء والتمخط ليست أشياء مخجلة، بل هي أنظمة وقائية فطرية وهبها الله سبحانه وتعالى إليك يا عبد الله لتحفظك من الميكروبات.
فخلاصة الكلام يا عبد الله! إن كل الأمراض التي يصاب بها الإنسان، مردّها إلى الجهل بي وعدم المعرفة اللازمة بمهامي. إن عمليات الكيمياء الحيوية التي يقوم بها الكثير من جنودي لا تزال مجهولة. وعند معرفة هذه العمليات سيكون من الممكن أن يحقق الأطباء شفاءاً نسبياً في مداواة مرضاهم، ولكن لا يغرنك الأمل كثيراً، فلكل أجل كتاب. فأدعوك يا عبد الله إلى ألا تنس أداء حق أعضاء جسدك التي وهبها الله إياها، وأن تحييها في الحلال وتشكر بها الإله، وتسبح بها الخالق الوهاب.
ـــــــ
(*) الترجمة عن التركية: د. طارق عبد الجليل.