الجندي الصغير

يقود الليل أجنحته السوداء ليحتضن العالم بعباءة سوداء، مبرقعة بنقاط بيضاء لامعة بعد أن غربت الشمس الواهنة، التي كانت تسلط أشعتها الفاترة على إحدى القرى الملتهبة بنار الحرب.
في هذا الوقت توجه النقيب إلى معسكر حمزة الذي كان يخوض غمار المعركة مع قوات الوحدة في جبهة الضالع ضد الردة والانفصال. توجه إلى المعسكر بعد أن التقى بسكان تلك القرية، وحثّهم على الدفاع عن الوحدة الوطنية، وطلب منهم العون والمساعدة، ليتسنى لهم صد كيد الأعداء المتآمرين على وحدة الشعب. وبينما كانت السيارة العسكرية مسرعة باتجاه المعسكر، محملة بما أمكن تجميعه من عتاد حربي، وزاد للجنود الذين يخوضون غمار المعارك الضاربة في الجبهة، وجد النقيب امرأة شابة تشير إليه أن يتوقف.
اعتلت الدهشة وجهه المتجهِّم الذي اشتعل بموجة من الأسئلة… “من تكون هذه المرأة؟ وماذا تريد؟ ولماذا وقوفها في منتصف الطريق في هذا الوقت وقد حل الظلام؟ ودارت في رأسه بعض الظنون ووجد أن الأمر لا يعدو كونه مكيدة حِيكتْ ضده من قبل بعض العملاء الذين يساندون الأعداء، إلا أنه طارد هذه الظنون ووجد أنه لابد من التوقف لمعرفة بغية هذه المرأة وماذا تريد. قال في نفسه: “لو لم يكن هناك أمر مهم، لما وقفت في مثل هذا الوقت في هذا المكان”، وهدّأ من سرعة سيارته العسكرية ليتوقف حيث كانت تقف، وكان شديد الحذر والحرص. تقدمت المرأة نحوه، فأشعل عود الكبريت ليتسنى له معرفة شخص هذه المرأة على ضوء خافت، وقبل أن يسألها عن بغيتها ومن تكون، تحدثت قائلة بعد أن أقرأته السلام:
– وجدتك في القرية تدعو الناس وتحثهم على الدفاع عن الوحدة، وتطلب منهم العون والمساندة، وأنا امرأة لا قدرة لي على القتال ولا أملك ما أبذله في سبيل الوطن والواجب، وها أنا ذا قد أتيتك بمجموعة من الكعك الناشف صنعته بكل ما تبقى من دقيق القمح، ولو كان بوسعي أن أحضر المزيد لما تأخرت، خذه لعله يسد رمق جائع لا يجد ما يأكله في خندق القتال.
دفعت إليه ما كان في حوزتها وذهبت وهي تبكي. احتار النقيب في أمر هذه المرأة، فهي فقيرة ولم يمنعها فقرها من المشاركة في مساندة جنود الوحدة. تحركت السيارة باتجاه المعسكر مسرعة. كان النقيب يفكر بأمر هذه المرأة، مقدّرًا لها هذا الحس الوطني النبيل تجاه الوطن… الشيء الذي رفع من معنوياته مدركًا أن شعبًا عظيمًا يقف وراء قيادته مضحيًا بكل غالٍ ونفيس، وليست هذه المرأة إلا نموذجًا للمرأة المسلمة التي وقفت بشجاعة وفداء، تؤازر الجنود وتقدم لهم العون والمساندة. وعند وصوله إلى المعسكر، تلقى الأوامر أن يواصل السير حتى جبهات القتال ليأخذ للجنود ما كان يحمل من تبرعات تلك القرية. وعند وصوله خطوط المواجهة، أوقف سيارته وحمل بعض الكعك وتوجه إلى الجنود المرابطين في جبهات القتال، وأخذ يدفع لهذا بعضًا من الكعك وذلك بشيء مماثل… فإذا به يجد طفلاً صغيرًا يحمل بندقية قديمة، إذا أطلق بها عيارًا ناريًّا تركها لتبرد، وحتى إذا ما بردت أطلق عيارًا آخر وتركها لتبرد مرة أخرى… فأشفق عليه وخشي أن تصيبه نيران الأعداء، فأمره أن يعود إلى الخطوط الخلفية… فطلب منه الصغير أن يتركه يقاتل ويقتحم التحصينات التي كان يتمترس فيها الأعداء… نظر النقيب مذهولاً بشجاعة هذا الطفل، الذي كاد يلتهم الأعداء بعينيه الصغيرتين يريد أن يحطمهم ويقتحم تحصيناتهم. ونظرة أخرى برزت تتأمل في ابتسامة عريضة تلك البندقية التي كانت تواجه عتادًا عسكريًّا حديثًا… وبينما هما يتحدثان في صمت، كلٌّ يشعر بما يدور في ذهن الآخر، بدأت الطائرة “ميج 21” المساندة لقوات الأعداء، بقصف الجنود بالقنابل لتسقط قنبلة بالقرب من مكان النقيب والجندي الصغير، ليصاب الأخير بشظية في رأسه تلقيه على الأرض. النقيب أيضًا أصابته شظية في رجله اليسرى، لم يشعر بها لأنه كان مهتمًّا بما آل إليه مصير الصغير. وقبل أن يموت هذا الصغير أدركه النقيب ليسمع ما كان يهمس به:
– إن كُتبتْ لك الحياة وعدتَ إلى القرية التي أسكن بها، فستجد أختًا لي هناك تنتظر عودتي منتصرًا لتشيع حثماني…
وقبل أن يموت الصغير دفع إليه بندقيته وخاتمًا فضيًّا كان في يده، وأوصاه بإيصالهما إلى منزلهم، لعل مناضلاً هناك ينتظر دوره في الموت والاستشهاد في سبيل الله والوطن.
كانت هذه العبارةَ الأخيرة التي تلفظ بها البطل الصغير قبل أن يستشهد ويفارق الحياة. ذرفت عينا النقيب الدموع لفقدان هذا الصغير الذي يجسد معنى الكفاح والشجاعة والحب والولاء لله والوطن…
وبعد أن خرج النقيب من المستشفى، توجه إلى القرية حيث تسكن أخت الشهيد الصغير، حاملاً البندقية والخاتم.وبينما كان يسير على قدميه وقد بدا شديد التعب بسبب الإصابة، وقعت عيناه على امرأة عجوز تهش على أغنامها، فسألها ما إذا كانت تعرف البيت الذي تسكنه تلك المرأة الشابة، التي استشهد أخوها في المعركة منذ أمد غير بعيد… نظرت العجوز إليه طويلاً، متأملة البندقية وقالت وهي تبتسم:
– هل استشهد الصغير؟
– نعم
– متأكد؟
– نعم… وكنت إلى جواره، وأنا الذي أحمل وصيته.
– الحمد لله.
واقتربت منه ومدت يدها لتأخذ البندقية، فيما كان النقيب غارقًا في دهشته وذهوله شارد الحس، يفكر بأمر تلك العجوز التي تبتسم وهي تسأل عن موت الصغير قائلة:
– هل أوصاك بإحضار شيء آخر غير البندقية؟
نظر إليها النقيب وقد زادت دهشته وذهوله، فتلعثم في إجابته:
– شيء آخر! مثل ماذا؟
– خاتم فضي مثلاً.
– نعم أوصاني بأن أحضره والبندقية.
– أين هو إذن؟
نظر إلى البندقية ومد يده ليأخذها وهو يقول:
– بأي صفة تريدين مني أن أسلمك الخاتم؟
فردت عليه العجوز هادئة غير مبالية:
– إنه حفيدي.
نظر النقيب إليها، وتأمل وجهها المتجعد وهو غير مصدق أن ذلك الصغير حفيدها، قال:
– لا يبدو أنه حفيدك، لو كان حفيدك لما وقفتِ هكذا مبتسمة.
قالت العجوز:
– وماذا تريدني أن أعمل؟! لقد مات وسوف نموت كلنا… مات شهيدًا وسيدخل الجنة، وعليّ أن أفرح لأن حفيدي دخل الجنة وفاز بها رغم صغر سنه.
كاد النقيب أن يقع على الأرض وهو يسمع منطق هذه العجوز التي تفرح لموت حفيدها، إذ لم تحزن ولم تذرف دمعة واحدة، ولم تسأل حتى عن الجثة، بل إنها مشغولة بالخاتم الفضي، إنها ليست كما ادعت. كل ذلك كان يجوب في ذهن النقيب الذي أخذ البندقية وترك العجوز متوجهًا نحو القرية، دعته العجوز أن يتوقف فتجاهل دعوتها، فقالت له:
– عند وصولك إلى القرية ستجد بيتًا أبيض بجانب شجرة عنب مثمرة، تلك الشجرة لنا، وذلك المنزل منزلنا، اطرق الباب فستفتح لك امرأة شابة هي حفيدتي وأخت الشهيد، وأثناء طريقك إلى البيت ستجد دكانًا صغيرًا عند مدخل هذه القرية يجلس فيه رجل عجوز يقوم بخياطة الملابس، أرجوك أن تعرج إليه وتقول له، إن الصغير قد مات ولا داعي لأن يخيط ملابسه لهذا العيد، فنحن فقراء ولا نريد أن ندفع ثمن ملابس لا نجد من يرتديها بعد موت الصغير.
اشتعل النقيب غضبًا وقال في نفسه: “يا لك من امرأة حمقاء! حفيدك فارق الحياة وأنت غير مبالية، وكل ما تفكرين فيه هو الملابس وثمن الملابس ومن سيرتديها.
وسار في طريقه غير عابئٍ بما كانت تقوله العجوز… وعند وصوله القرية، نظر إلى دكان الخياط فلم يعرج إليه، وسار متجهًا إلى البيت الأبيض المتميز بتلك الشجرة المثمرة. وقبل أن يطرق الباب فكر لحظة بأمر الأخت… كيف سينقل إليها خبر موت أخيها… طرق الباب وهو ما يزال يفكر. فُتح الباب وخرجت منه امرأةٌ شابة… إنها تلك المرأة التي أوقفت سيارته في منتصف الطريق، ودفعت إليه تلك المجموعة من الكعك. ارتعد النقيب خوفًا ودهشة وذهولاً وتقديرًا واحترامًا لشخص هذه المرأة الفقيرة، التي دفعت إليه ما كان في حوزتها وذهبت وهي تبكي. كاد النقيب أن يفقد وعيه وهو يقف أمام امرأة بهذا الحس الوطني، فقبل أن تدفع الكعك دفعت أخاها وهو ما يزال صغيرًا، للدفاع عن الوحدة والوطن.
نظرت المرأة نحوه وأدركت سبب قدومه، أدركت أن أخاها قد استشهد… فارتفع صوتها مزغردًا… وقف النقيب يتأمل فرحة هذه المرأة حائرًا، يكاد لا يصدق ما تسمعه أذناه وما تشاهده عيناه، إن أمر هذه الأسرة غريب؛ ابتسمت العجوز وهي تسأل عن مصير الصغير وما إذا كان قد مات أو أنه على قيد الحياة، وهذه المرأة الشابة عبرت عن فرحتها بموت أخيها وهي تطلق الزغاريد لتجلجل في السماء. تذكر النقيب الكلمات الأخيرة التي همس بها الصغير وهو يودع الحياة: “إن كُتبت لك الحياة وعدت إلى القرية التي أسكن فيها، ستجد أختًا لي هناك تنتظر عودتي منتصرًا لتشيع جثماني”. أدرك النقيب أنه يقف أمام أسرة نموذجية.
فمن منا سوف يعيش إلى الأبد؟ وإذا كنا سنموت فلماذا لا نموت شهداء؟ فليس هناك أعظم من أن نموت ونحن ندافع عن قضية وطنية وإنسانية… لأن الوحدة بالنسبة لأبناء المسلمين هي التضحية الكبرى التي ناضل من أجلها البسطاء طويلاً، واعتبروها قضية وطنية وإنسانية وفكرية…
أدرك النقيب أن ضميرًا لا إراديًّا يحرك النزعة الوطنية عند البسطاء الذين يهبون الحياة رخيصة في سبيل قضاياهم ولا ينتظرون ثمنًا لما بذلوه.
مد النقيب يده إلى كتفيه وانتزع الرتبة العسكرية التي منحت له ثمنًا لدور عظيم قام به دفاعًا عن قضية عظيمة. فالنقيب أراد أن يكون بسيطًا كهؤلاء الساكنين في هذا البيت الأبيض.