الجمال المعنوي والفني من خلال “البلبل”

لقد كتب سعيد النُّورْسِيّ (رحمه الله تعالى) نَصّ “البلبل”(1) للتعبير عن معنى من أجمل المعاني في الوجود، واستطاع أن يقدِّم ذلك في حُلَّة فنية رائعة، وهذه القطعة الأدبية ترقى بصاحبها إلى مصافِّ الأدباء الإسلاميين الكبار، فهو في هذه القطعة يرتفع إلى القمة التي ارتفع إليها شاعر الصوفية الأكبر مولانا جلال الدين الرومي”.

ويمكن إدراج هذا النَّصّ الإبداعي ضمن المقالة الفنية التي استطاع بها صاحبها أن يطرح أمامنا جملة من المعاني ساقها في حديثه عن البلبل ومحاورته إياه، وقد تمّ ذلك في صورة تجلب القارئ إليها، وتستدعيه للمشاركة في ما احتوى عليه هذا النَّصّ من أفكار ومعانٍ سامية.

يقول في الكلمة السابعة عشرة من الكلمات عن قطعة من قطعه الفنية وفيها ذكر للبلبل وللأزهار: “هذه القطعة الواردة في المقام الثاني جاءت بما يشبه الشعر إلا أنها ليست شعرًا، ولم يقصد نظمها بل إن كمال انتظام الحقائق جعلها تتخذ شكلاً شبيها بالنظم”، وهذه القطعة كالتالي:

إنما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، وآثام في آثام وعناء.

إذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاءً في عطاء، وصفاءً في صفاء.

دَعِ الشكوى، واغنم الشكر، فالأزهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في هباء.

وكان هذا الرجل (رحمه الله) يسعى في كتاباته جميعها إلى الوقوف على المعاني التي من شأنها أن تقرِّبنا إلى الله، ويقول سمير رجب محمد في كلمة عن مكانة المعنى في الأسلوب الأدبي: “يرى بديع الزمان ضرورة ترجيح المعنى على اللفظ، وهنا نرى أن بديع الزمان يبيِّن أهمية المعنى في الكلام، لدرجة أنه يعتبر أن الكلام الخالي من المعنى كجسد بلا روح”.

وقد اختار النُّورْسِيّ في هذا النَّص “البلبل” دون سواه من الطير لما له من دلالات عميقة في محور المعنى الذي أراد أن يقدمه لنا، هي الشكر لله والثناء عليه والتسبيح له، وتبيان مكانة محمد رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- في هذا الوجود مسبِّحًا لله وشاكرًا لنعمه، باعتباره: “ذلك الصدَّاح بنغمات جميع الموجودات في الأرض والسماوات، باعث الأشواق إلى الله، وحادي القلوب والأرواح إلى بارئها، المغرد بالقرآن، والصدَّاح بآيات الله”.

والحديث عن النَّبيّ الكريم محمد -صلّى الله عليه وسلم- جاء في آخر النَّص، وكان تقديم الحديث عن البلبل وعن بلابل الكائنات قبل ذلك، لأجل أن يبيِّن لنا أن أحسنها وأجملها هو هذا النَّبيّ الكريم -صلّى الله عليه وسلم-.

وفي هذا الأمر إظهار لمكانة الرسول الكريم بين الأنبياء والرسل، أولاً لأنه خاتَمها والمقدَّم عليها عند الله تعالى، وإظهار لمكانة هذا الرسول -صلّى الله عليه وسلم- وسط هذه المخلوقات على أشكالها وأنواعها وأنه سيِّدها.

وبهذا اتَّخذ النَّصّ طريقة الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، وكان البلبل وغيره في النَّصّ خادمًا للفكرة الأخيرة التي آل إليها النَّصّ في خاتمته.

ويحدِّد لنا سعيد النُّورْسِيّ (رحمه الله) الغايات التي يستعمل الله – عزّ وجل – فيها هذا الطائر العجيب فيقول: “فمثلاً: البلبل المعروف بعاشق الورود والأزهار، يستخدم الفاطرُ الجليل ذلك الحيوان الصغير ويستعمله في خمس غايات:

أُولاَها: أنه مأمور ومكلَّف -باسم القبائل الحيوانية-بإعلان شِدَّة العلاقة تجاه طوائف النباتات.

ثانيتها: أنه موظَّف بإعلان الفرح والسرور، والترحيب بالهدايا المرسلة من قِبَل الرزاق الكريم، حيث إنه خطيب ربَّاني يسأل بتغريده أرزاق الحيوانات -ضيوف الرحمن- المحتاجين إلى الرزق.

ثالثتها: إظهار حسن الاستقبال على رؤوس النباتات جميعًا، تعبيرًا عن إرسال النباتات إمدادًا لبني جنسه من الطير والحيوان.

رابعتها: بيان شِدَّة حاجة الحيوانات إلى النباتات التي تبلغ حدّ العشق تجاه الوجوه المليحة للنباتات وإعلانها على رؤوس الأشهاد.

خامستها: تقديم ألطف تسبيح إلى ديوان رحمة مالك الملك ذي الجلال والإكرام في ألطف شوق ووجد، وفي ألطف وجه وهو الورد.

وقد سبقت الإشارة إلى أن التسبيح من أهمّ المعاني الواردة في هذا النَّصّ، وكان صاحب النَّصّ يؤكد قيمة التسبيح في مناسبات أخرى، فهو يقول مثلاً في إشارات الإعجاز: “حتى إن السمعَ ليسمعُ من ترنُّمات هبوب الريح، ومن نعرات رعد الغيم، ومن نغمات أمواج البحر، ومن صرخات دقدقة الحجر، ومن هزجات نزول المطر، ومن سجعات غناء الطير كلامًا ربانيًّا، ويفهم تسبيحًا علويًّا”.

ويقف سعيد النُّورْسِيّ عند مسألة التسبيح وقفات له دلالاتها الكبيرة في إعطاء التسبيح قيمته في حياتنا الخاصة والعامة، وقد جاء في المثنوي العربي النوري:

هذه نَورةُ من شجرة آية: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(الإسراء:44) رأيتها وقت انكشاف الأزهار من الأشجار في زمن الربيع، فهيّجت جذبتي فتفكرتُ في تسبيحاتها، فتكلمت “أنا” لي لا لغيري بهذه التسبيحات الفكرية، فظهرت هكذا في بعضها رقص الجذبة بنوع وزن يشبه الشعر وليس بشعر، بل قافية ذِكْر في جذبة فِكْر.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي يسبِّح له كلُّ شيء بكلماته المخصوصة المبصرة كالمسموعة، مثلاً:

الأنوارُ والأنهارُ والإعصار كلماتُ الضياء والماء والهواء فقِسْ.

سبحان مَن يحمده:

الضياءُ بالأنوار، والماء والهواء بالأنهار والإعصار،

والترب والنبات بالأحجار والأزهار…

والجوّ والأشجار بالأطيار والأثمار…

والسحب والسماء بالأمطار والأقمار…

تلألؤُ الضياءِ من تنويره، تشهيره…

تموُّج الهواءِ من تصريفه، توظيفه…

تَفَجُّرُ المياهِ من تسخيره، تدخيره مدحٌ بليغٌ بيِّنٌ للقادر.

تَزَيُّن الأحجارِ من تدبيره، تصويره…

تَبَسُّم الأزهارِ من تزيينه، تحسينه…

تَبَرُّج الأثمار من إنعامه، إكرامه حمدٌ جميلٌ ظاهرٌ للفاطر.

تَسَجُّعِ الأطيارِ من إنطاقه، إرفاقه…

تَهَزُّجِ الأمطارِ من تنزيله، تفضيله…

تَحَرُّك الأقمارِ من تقديره، تدويره تسبيحةٌ فصيحةٌ للقادر، بل آيةٌ نيّرة للقاهر.

ولـ”سبحان الله العظيم” شفاء من الألم والحسرة التي يعيشها الإنسان، كيف لا تكون شفاء وهذا الإنسان الضعيف يتوجَّه بها إلى الغني خالق الكون ويسبحه؟ يقول النُّورْسِيّ: “اعلم! أن مَن في قلبه حياة إذا تَوَجَّه إلى الكائنات يرى من عظائم الأمور ما لا يحيط به ويعجز عن إدراكه ويتحيَّر فيه، فللتشفِّي من ألم الحيرة يشتاق إلى “سبحان الله” كتعطُّش العليل الغليل إلى الماء الزلال”.

ومسألة التسبيح عامة لكل المخلوقات. قال النُّورْسِيّ: “سبحانك يا مَن تسبح بحمدك الهوامُّ في الهواء عند دورانها بزمزمة هَزَجاتها بشكرك، والطيورُ في أوكارها مع أفراخها بسجعاتها ونغماتها شكرًا لك، بلسان نظامهما وميزانهما وصنعتهما ونقوشهما وزينتهما، كمـا تناديان إحسانك، وتصيحان على نعمتك بإظهار شكرك في وقت تلذُّذاتهما بثمرات نعمتك، وتنعُّماتهما بآثار رحمتك، كما تسبِّح بحمدك الحشرات في قرارها بدمدمتها، والوحوش في قفارها بغمغمتها بألسنة نظاماتهما وموازينهما وصورهما وأشكالهما وتنعُّماتهما الكريمة وتقلُّباتهما الحكيمة”.

وفي اختيار صاحب النَّصّ الطيرَ دلالةٌ على أنه يتحدث عن عوالم قائمة الذات بما حباها به الله من قوة وجمال وتدبير. ولعل المراد بالحديث عن هذه العوالم يُحِيلُنا إلى مسألة مهمة، هي أن هذه المخلوقات أمم كما قال – عزّ وجل -: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)(الأنعام:38).

وممَّا لا شكَّ فيه أن معرفة الإنسان بهذه الأمم محصورة قليلة، مهما بلغ هذا الإنسان من العلم والمعرفة، خصوصًا في معنًى من المعاني المراد تبليغها في نص النُّورْسِيّ وهو التسبيح لله – عزّ وجل -، إذ يقول الله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(الإسراء:44)، وقد وقف سعيد النُّورْسِيّ مع هذه الآية كذلك، والذي يهمُّنا من هذه الآية بخاصة هو أن كل شيء يسبح بحمد الله تعالى بما في ذلك الجماد. يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)(ص:18).

كما يقول جلّ شأنه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)(النور:41).

إن مسألة التسبيح من أعظم المعاني التي يغفل عنها كثير من الناس، والنظر إليها بنوع من التدبُّر يؤدِّي -دُونَ شكّ- إلى التفكُّر في خلق السماوات والأرض كما دعانا إلى ذلك سبحانه وتعالى، وهذا ما كان ينبه إليه النُّورْسِيّ من خلال الآيات التي تدور في هذا المحور.

أسلوب الحوار مع البلبل

وقد لجأ المؤلِّف إلى أسلوب الحوار مع البلبل في هذه القطعة الأدبية، ومن جملة الأفكار التي يبينها هذا الحوار:

1- أن هذا البلبل ربما يقول أشياء لا نرقى إلى فهمها: “وربما أنت تقول أشياء أخرى لا نرقى إلى فهمها، وتُودِع أُذُن الكون رسائل لا ندرك كنهها، ولا نعلم سرَّها”.

2- ربما لا يفهم البلبل مقاصد ما يؤدِّيه: “وربما أنت نفسك لا تفهم مقاصد ما تؤدِّيه، ولا تدرك مغازي ما تفعله، ولكنك رغم ذلك سعيد بعملك”.

3- يوجَد مَن هو أقدر على فهم هذه الرسائل التي تنقل إلى العزيز القدير عالَم الأسرار: “أما الملائكة والرُّوحانِيُّون المبثوثون في أرجاء هذا الكون، فإنهم أقدر منَّا ومنك على فهم ما تقول، وعلى إدراك ما تعني، وهم بدورهم يرفعون رسائلك وينقلون أحاديثك إلى الله سبحان وتعالى”.

4- تقرير أن لكل مخلوقات الله – عزّ وجل – “بلابلها”: “ولا يذهَبَن بك الوهم أيها الإنسان فتحسب أن “البلابل” هي لعالم الطيور وحدها، وأن أنواعًا أخرى من مخلوقات الله لا تعرف من يسبح باسمها ويرفع آيات الشكر والحمد لبارئها، فلكل صنف ونوع بلبله الخاص به، وحتى العناكب والنمل والنحل… لها بلابلها التي تلحِّن تسابيحها”.

وقد قَرَنَ النُّورْسِيُّ هذه العوالم وما يدور فيها من تسبيح، كلٌّ بلغته، إلى فعل المرشدين والأقطاب، فقال: “وقسم من هذه البلابل ليلية التغريد، فهي تنشد قصائدها في دواوين الليل الساجي، فتحرِّك بهذا النشيد في هدوات الليالي مكنونات القلوب، ومشاعرَ الأرواح، تمامًا كما يفعل الأقطاب والمرشدون في تحريك الذاكرين”. وهذه البلابل تدبِّج قصائد -ولا يخفى عنَّا ما تحمله القصائد من أبعاد جمالية ودلالات عميقة- تمَسُّ النفس والروح والوجدان، وتحرِّك العقل وتطهِّر القلب، بخاصة أنها نابعة من فطرة سليمة.

ويريد صاحب النَّصّ أن يبين لنا كذلك أن لهذه المخلوقات رئيسًا ومسيِّرًا لها في ألحانها وتسبيحها: “فلكل نوع من أنواع الموجودات وحتى الأفلاك والنجوم، لها رئيسها الذي يقود حلقة الذكر فيها وبلبلها الذي يلحِّن في عتمة الفضاء الواسع أنوارها ويغرد أضواءها”.

والعبرة من هذا التناسق والتدبير الدقيق، أن كل شيء يسبِّح لله تعالى في نظام و تناسُق تامَّيْن، مِمَّا يُفضِي إلى جمال خاصّ بهذا الكون من عناصره الدقيقة الصغيرة إلى العناصر الكبيرة الضخمة، فسبحان الله العظيم!

وقد أشار النُّورْسِيّ إلى أن الرسول الكريم محمدًا -صلّى الله عليه وسلم- هو أفضل المسبِّحين وهو “المغرِّد بالقرآن”، والتغريد بالقرآن تستجيب له كل المخلوقات لما يحمله من جمال وجلال، أليس القرآن كلام الله – عزّ وجل -؟

يقول سبحانه وتعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله)(الحشر:21)، وبالقرآن تطمئنّ القلوب: (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28).

ونستخلص من هذا النَّصّ الأدبي، أن التسبيح للمولى جلَّت قدرته تتبعه هدايا، فهذه البلابل -والبلابل هنا لمخلوقات أخرى إلى جانب الطيور كما سبقت الإشارة- التي تسبِّح وتغرِّد “لها هداياها التي تحصل عليها من خلال عملها، من المُتَع الذوقية والجمالية التي تدفعها إلى الجدّ في أداء واجبها في خدمة الصنعة الربانية”.

ومن التقنيات الأسلوبية التي يلجأ إليها سعيد النُّورْسِيّ، أنه يقارن بين هذه المخلوقات والمرشدين والأقطاب كما مرّ بنا، كما أنه يمثِّل عمل هذه المخلوقات في أداء واجبها وحصولها على هدايا ربانية بقوله: “مَثَلها في ذلك مَثَل القبطان الذي يقود سفينة سلطانية في عُرْض البِحَار، فإنه زيادة على المرتب الذي يتقاضاه من خزانة الدولة، فهو يستمتع ويلتذّ بما يشاهد من مناظر جمالية تعرض له في أثناء إبحاره وتطوافه بين الضفاف والشواطئ”.

كما يجعل البلبل مثل “الساعة تشير إلى الزمن، وتعلمنا الوقت ولكنها لا تعلم هي ما تفعل”.

ومن التقنيات المستعمَلة في هذا النَّصّ كذلك نجد الحوار المبنيّ على المسألة بين صاحب النَّصّ والبلبل أو البلابل كقوله: “هذا بعض ما نستشفُّه من ألحانك أيها البلبل العزيز، وربما أنت نفسك لا تفهم مقاصد ما تؤدِّيه، فجهلك يا بلبلي العزيز بهذه الغايات لا يعني عدم وجودها”.

كما يستعمل تقنية الوصف الجميل الذي يجعلك تُحِسُّ بجمال ما يحكيه صاحب النَّصّ، وكل النَّصّ وصفٌ بارع في مواقف مختلفة، ولكن سنعرض بعض ذلك من خلال بداية النَّصّ ونهايته من أجل تبيان أهمية الوصف الفاعل والوظيفي في هذا النَّصّ. يقول في بداية عمله: “أيها البلبل الغِرِّيد، يا ملك اللحن والغناء، يا صناجة الطير وقيثارة الغاب”، كما أنه يقول عن الرسول الكريم -صلّى الله عليه وسلم-: “إنه أفضل بلابل الكون وأشرفها، وأعذبها صوتًا وأعلاها نداءً وأرقهُّا مشاعرَ، وألطفها حِسًّا، وهو ألمَعُ بلابل البشرية من الأنبياء والمرسلين نورًا، وأتمُّهم ذِكْرًا، وأعظمهم شكرًا وأكملهم مَاهِيَّة وأجملهم وأبهاهم صورة”.

ويلجأ النُّورْسِيّ أيضًا إلى إعطاء أسلوبه حرارة خاصة بفعل الأمر الذي يستعمله في حواره في هذا النَّصّ فيقول: “تَغَنَّ يا عاشق الأزهار، اسكبْ حنان قلبك، فاعتصر لذاذات عملك من جمال الأزاهير، وتناول أذواق قلبك، وابْثُثْ ما شئت من أحزان”.

إنه يلجأ أيضًا إلى التصوير الحيّ الذي يقدِّم لك صورة دينامية عن العنصر المصوَّر، فهو يقول مثلاً عن البلبل: “تنتقل من فنن إلى فنن وتطير من زهرة إلى أخرى جَذْلاَنَ منتشيًا، فيستخفُّك الفرح ويهزُّك الكَرَم الإلهي العميم فتصفِّق بجناحيك الصغيرَين”.

ومما سعى إليه هذا النَّصّ أنه بيَّن عجز المخلوقات -ومنها الإنسان الذي كرَّمه الله تعالى بالعقل- عن إدراك أسرار هذا الكون، لهذا يقول بعد حديثه عن ألحان البلبل: “هذا ما نستشفُّه من ألحانك أيها البلبل العزيز وبعض ما نَحْدِسُه من تغاريدك، وربما أنت تقول أشياء أخرى لا نرقى إلى فهمها، أما الملائكة والرُّوحانيون المبثوثون في أرجاء الكون، فإنهم أقدر على فهم ما تقول، وعلى إدراك ما تعني، وهم بدورهم يرفعون رسائلك،وينقلون أحاديثك إلى الله تعالى”.

فقد قال بعض ما نستشِفُّه، وهناك إذن كثير مِمَّا لا نعرفه من دلالات التغريد والغناء، ولكن في هذا النَّصّ إشارة إلى مسألة أخرى هي التدرُّج في فهم أسرار هذا الكون، من البلبل إلى الإنسان إلى الملائكة التي ترفع بدورها هذه الألحان إلى الله – عزّ وجل -، وهو العليم الخبير بالأسرار كلها، ولا يشاركه في ذلك مخلوق، ويريد هذا النَّصُّ أن يبيِّن لنا أن الحياة من حولنا في حركة دائبة، ولكننا لا نُعِيرُها ما تستحقُّ من عناية وفهم وتَبَصُّر، فالبلبل يسبِّح وله علاقة من الوردة والزهرة، إذ يغمرها بفيض حبه ومُذاب عشقه، وهذا البلبل يسبِّح عن كل زهرة ويذكر “بلسان كل وردة على عتبة مقسِّم الأرزاق، ومالك الملك”.

ومما لا شك فيه أن الصوت الحنون الشجي لهذا الطائر يمَسّ كل الكائنات المحيطة به، وهذا أمر كل المخلوقات الأخرى التي لها بلابلها كما يوضح النَّصّ، فكأن الكون مجموعة موسيقية تؤدِّي ألحانًا مستمرَّة، وكل واحد يؤدِّي دوره المنوط به في بناء هذه الألحان. يقول سعيد النُّورْسِيّ: “وعندئذ يبدأ الجميع -كلٌّ بلغته الخاصة وعلى قدر حاله- بذكر الله تعالى والتوجُّه إليه بالشكر والمحبة والتعظيم والخشوع”.

وقد اختار صاحب النَّصّ أقدر المخلوقات للتعبير عن الأفكار التي يريد أن يوصلها للقارئ، فهناك البلبل وهو عنده مَلِك اللحن وصنَّاجة الطير، وهناك الزهرة وهي: “ملكة النبات وأميرة الحقول والبساتين والغابات”.

وقد قال إن لكل الكائنات بلبلها، بمعنى أنه يركِّز على الجانب الجميل فيها والقويّ، وكان هذا يخدم تنامي النَّصّ وتدرُّجه، لأنه في آخر المطاف سيتحدث عن أجمل خلق الله تعالى وأفضلهم منزلةً عنده سبحانه، وهو الرسول الكريم -صلّى الله عليه وسلم-.

ومما يُلمَس في هذا النَّصّ، أنه يدفع القارئ المسلم بخاصة إلى التفكُّر في ملكوت الله تعالى، وفي قدرته سبحانه على التحكُّم في الكون وتدبيره بكل انسجام، كما يبيِّن لنا أن جمال الخالق وجلاله أمامنا في كثير مِمَّا حولنا.

ويلاحَظ أن أسلوب هذا الرجل يسعى إلى الإقناع وبسط القول في أي موضوع يُراد معالجته، واللجوء إلى الحوار والتمثيل والوصف والإشارة الخاطفة يرتبط بأسلوبه العامّ في كتاباته، لأنه صاحب رسالة ويريد أن يبيِّن للخصوم ولغيرهم صدق ما يقوله.

(*) جامعة محمد الأول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجــــدة / المغرب.

الهوامش

(1) الكلمات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، ط1، 1412هـ/1992م، دار سوزلر، إستانبول.