الجسم السليم في العقل السليم

ظلت الحكمة اليونانية التي تقول “العقل السليم في الجسم السليم” تتردد طيلة قرون كثيرة. واليوم وفي ظل التطورات المعرفية الرهيبة في الطب وفي علوم التنمية البشرية، انقلبت هذه المقولة رأسًا على عقب؛ حيث أثبتت الدراسات والوقائع والقرائن، أن للعقل تاثيرات رهيبة على الجسم، وأن ما يقوله العقل ويعتقده، يتمثله الجسم سلبًا أو إيجابًا، مرضاً أو صحة، ضعفًا أو قوة.. وهذا ما ستحاول تجليته هذه المقالة.

احذر من أفكارك على صحتك

حول أهمية التفكر من زاوية علم النفس، ألَّف عالم النفس السوداني الدكتور “مالك بدري” كتابه الصغير بحجمه والقيِّم بمكانته “التفكر من المشاهدة إلى الشهود.. دراسة نفسية إسلامية”، ذكر فيه أن كثرة الأبحاث في الغرب حول الأمراض النفسية، كالاكتئاب والقلق والإحساس بالوحدة القاتلة وفقدان الثقة بالذات، أدت جميعها إلى ظهور تخصص علمي جديد هو “علم المقاومة النفسية والعصبية” الذي يجمع بين الأخصائيين في ميدان العلوم الاجتماعية، وعلم النفس، وميدان دراسة كيمياء جهاز المقاومة في الإنسان. كما ظهرت مئات المؤلفات التي تدعو لتحسين صحة الإنسان الجسمية بتغيير أفكاره ومشاعره وانفعالاته، حتى وصف بعض العلماء هذه الظاهرة بـ”الثورة الثالثة” في الطب الغربي الحديث، التي كانت أولاها تطور الجراحة، وثانيها اكتشاف البنسلين والمضادات الحيوية. ذلك لأن الذي يشكل فكر الإنسان ونشاطه المعرفي، ليس هو الأحداث والمثيرات التي يتعرض لها في بيئته بشكل مباشر، بل الذي يؤثر بالفعل هو تقييمه وتصوراته لهذه الأحداث والمثيرات. فقد أُثر عن فيلسوف روماني في القرن الميلادي الأول أنه قال: “ليست الأشياء المحيطة بالإنسان هي التي تزعجه، بل أفكاره عن هذه الأشياء”.

وأوصلت الدكتورَ بدري دراساتُه وتجاربه إلى أنه ليس “العقل السليم في الجسم السليم” فحسب -كما يؤكد المثل المشهور- بل كذلك فإن “الجسم السليم في العقل السليم”. وعنه اقتبسنا عنوان هذه المقالة، غير أننا نشير إلى أن هذه المقولة حكمة يونانية وليست مثلاً.
ومن خلال تتبعه الحثيث لما ينشر في الغرب حول هذه الظاهرة، وجد أن هناك مئات الدراسات والأبحاث والكتب التي أجريت في الآونة الأخيرة لتأكيد قيمة التأمل الارتقائي والعامل الروحي والإيماني في علاج سائر الأمراض.
“إن الدراسات الحديثة في ميدان الطب السيكوسوماتي “النفسجسمي”، تؤكد بأن التفكير والنشاط المعرفي للإنسان، له دور فعّال بالنسبة لإصابة الإنسان بشتى الأمراض، كما أن تغيير هذا التفكير وهذا النشاط المعرفي الذي تسبب في إحداث هذه الأمراض والاضطرابات، يساعد كثيرًا في شفاء الفرد أو تحسين حالته الصحية بقدر كبير، وهذا مصداق للأثر المشهور “لا تتمارضوا فتمرضوا فتموتوا”. وأورد في كتابه هذا، الكثير من الحقائق والبحوث والنصوص التي تُبرز خطورة الفكر على الصحة وعلى الشعور بطعم السعادة.
ومن أشهر الكتب الغربية التي طُبعت عشرات الطبعات، وتُرجمت إلى عدد من لغات العالم الحية، كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” للكاتب الأمريكي “دايل كارنيجي”. أورد فيه مؤلفه حقائق مثيرة عن القلق وآثاره وتداعياته، وعن السبل المهمة في تحليل القلق وفي تحطيمه قبل أن يصل إلى الفرد، وعن القاعدة الذهبية لقهر القلق، وكذا سائر الطرائق لقهر التعب والقلق.
ومن خلال خبرته بالحياة وقراءاته المتعددة، ركز على أهمية الفكر في صنع القلق أو في التغلب عليه، ولذلك فقد خصص جزءًا من كتابه لهذا الموضوع، وهو الجزء الرابع الذي عَنْونَه بـ”سبع طرق لخلق اتجاه ذهني يجلب لك الطمأنينة والسعادة”.
وكان عنوان الفصل الثاني عشر من هذا الكتاب هو “حياتك من صنع أفكارك”. أورد فيه عددًا كبيرًا من أقوال الفلاسفة والعلماء، وعددًا من القصص والمواقف والخبرات التي تؤكد قوة تأثير الفكر على الجسم؛ فإن أفكار السعد تسعده، وأفكار الشقاء تشقيه، وأفكار الصحة تشفيه، وأفكار المرض تسقمه، وأفكار الضعف توهنه، وأفكار القوة تقويه، وهكذا.
وكان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، قد أعجب بهذا الكتاب أيما إعجاب، واعتبره من الكتب الرائعة التي تُبرز وحدة الفطرة البشرية، الفطرةِ التي تتفق مع الإسلام جملة وتفصيلاً. ولذلك ألَّف كتابًا كاملاً للتعليق على كتاب “كارنيجي” هذا، وعَنْونه بـ”جدِّدْ حياتك”؛ حيث أصَّل لكثير من الحقائق والقصص والأقوال التي أوردها “كارنيجي”، من خلال إيراد عدد كبير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وقصص الصحابة، وسلف الأمة إضافة إلى خبراته (رحمه الله)، ليؤكد -الشيخ الغزالي- بذلك أهمية وخطورة الأفكار على حياة الإنسان عمومًا ومن ذلك صحته أو سقمه، إذ إن الأفكار سلاح ذو حدين، فيمكن أن تكون أداة للعمار، ويمكن أن تكون وسيلة للدمار.
وفي كتاب آخر للشيخ الغزالي -رحمه الله- نجده يؤكد على هذه القضية فيقول: “بعض الأطعمة يورث من يتناوله صداعًا في الرأس واسترخاء في الأعضاء وانقباضًا عن الأعمال.. وبعض ألوان المعرفة يترك في النفوس من التطيُّر والخمول مثلما تتركه هذه الأغذية الرديئة في الأجسام. وحقيقٌ بنا أن نفحص مصادر المعرفة التي توجهنا، وأن نتدبر فعلها في مشاعرنا وأفكارنا”.
“فقيه” الصحة النفسية والتنمية البشرية
ظهر في العقدين الأخيرين عَلَمٌ برز في الصحة النفسية، وهو العالم المصري الدكتور “إبراهيم الفقي” رحمه الله، فقد ظل يترقى في هذا المضمار حتى صار خبيرًا عالميًّا يُستدعى لإقامة الدورات التدريبية، وألَّف عددًا كبيرًا من الكتب.
وما فتئ في كل كتبه يؤكد على خطورة الأفكار المعتلة على صحة الإنسان، حيث تؤدي إلى اعتلالها، موردًا من الأدلة والبراهين على ذلك ما لا يحصى من قصصه ومعالجاته كمعالج نفسي ومدرب عالمي في البرمجة العصبية والطاقة، إضافة إلى عشرات الدراسات والبحوث والأقوال التي نقلها عن أساطين الطب النفسي، وفلاسفة ومفكري العالم وخاصة في الغرب، حيث وصلت العلوم إلى الذروة، وحيث يعمل؛ إذ إنه كان يعمل في كندا.
لقد ارتقى الدكتور “إبراهيم الفقي” في هذا العلم مرتقى صعبًا حتى صار فقيهًا وخبيرًا فيه، ومن ثم صار (الفقي) اسمًا ومسمىً، فهو فقيه التنمية البشرية والصحة النفسية.
ويبدو أن أهم كتبه في هذا المضمار كتاب “قوة التفكير”.ولقد قرر في هذا الكتاب الثمين أن “العقل عنده القدرة -بإذن الله- على علاج الجسم ومساعدته على التخلص من الآلام”، وأورد فيه الكثير من الحقائق والقصص والمعلومات المؤيدة لذلك؛ ومن ذلك أن المستشفى الرئيسي في “سان فرانسيسكو” بالولايات المتحدة الأمريكية، يعالج مرضاه بالضحك وبالأخبار الإيجابية، حيث رفعت هذه الطريقة نسبة الشفاء فوق 35%. “فعندما يفكر المريض أفكارًا إيجابية ويبتسم ويتفاءل ويضحك، ترتفع نسبة الأندورفين في جسمه مما يساعده على الشفاء. وهنا أيضًا إثبات أن العقل والجسد يؤثر كل منهما على الآخر”.
ونقل عن دراسات علمية لجامعات عالمية أن 75% من الأمراض النفسية تحدث أولاً في العقل عن طريق الفكر، وأورد أن الدكتور “هربرت سبنسر” في كتابه “العلاج بالطاقة” أثبت أن 90% من الأمراض الجسمية سببها الفكر.
وذكر أن جامعة “ييل” الأمريكية أجرت بحثًا أثبتت فيه “أن أقل من 3% في العالم، هم فعلاً الذين يعيشون حياتهم باتزان وسعادة، أما النسبة الباقية فهم فقط يتمنون ذلك ولكن بالقول فقط وليس بالفعل؛ لأن أفكارهم السلبية تمنعهم من تحقيق أهدافهم”.
وعن الآثار الخطيرة للأفكار السلبية، أورد أن كلية الطب في “سان فرانسيسكو” أجرت بحثًا سنة 1985 أثبتت فيه أن التفكير السلبي يسبب أكثر من 75% من الأمراض العضوية، كالقلب وارتفاع ضغط الدم والصداع والسرطان.
وأورد أن نفس الكلية أجرت بحثًا سنة 1986 عن علاقة العقل بالجسد ودور الأفكار السلبية في الإصابة بالأمراض النفسية والعضوية، وكانت النتيجة أن 95% من الأمراض سببها العقل.
ولهذا صاغ علماء التنمية البشرية عددًا من القواعد في هذا المضمار، ومنها: كل ما تعتقدُه تجده. كل ما تَكرَّرَ تَقَرَّرَ.

عقلُك يؤثِّر على جسمك

حتى لا يَظنّ بعض القراء أن هذا الأمر من شذوذ بعض العلماء والمفكرين، فقد قمت بجمع عدد هائل من الأقوال في هذا السياق لعلماء وحكماء ومصلحين وأطباء وخبراء، من مختلف الأعراق والديانات والمدارس والتخصصات، لكن سأكتفي بذكر بعضها.
ونبدأ من مطلع الشمس في أقصى شرق الكرة الأرضية، حيث تقول الحكمة اليابانية: “احذر ما تفكر فيه، لأنه من المحتمل أن تحصل عليه”، وهذه الحكمة تتفق تمامًا مع الأثر الذي يقول: “تفاءلوا بالخير تجدوه” ومع نهي الإسلام عن التطيُّر والتشاؤم.
ومن اليابان إلى جاره العملاق، حيث خاطبك الحكيم الصيني “زينو” قائلاً: “تذكَّر أن أفكارك من صنعك أنت، لن يستطيع أي إنسان على وجه الأرض أن يُغيِّرها لك، ولكنك أنت الوحيد الذي تستطيع أن تُغيِّرها وتجعلها تخدمك وتساعدك على الاتزان والسعادة”.
ومن الشرق إلى الغرب نقفز وعلى سندباد الحكمة نطير، فهذا الفيلسوف “سقراط”، يقول قديمًا: “بالفكرة يستطيع الإنسان أن يجعل عالمه من الورود أو من الشوك”. ولهذا أطلق صيحته التي كُتبت على باب معبد أثينة: “أيها الإنسان اعرفْ نفسك”. وهذا “جيمس آلن” يؤلف كتابًا بعنوانه السافر “ما يفكر فيه الإنسان يصبحه”.
وانطلاقًا من هذه الفلسفة، وُجد في فرنسا فندق كبير اشتهر بأن معظم نزلائه من رجال الأعمال، قامت إدارته بتعليق لافتة في كل غُرَفه تقول: “إذا لم تتمكنوا من النوم فلا تبدؤوا بإلقاء اللوم على السرير، بل حاسبوا ضمائركم أولاً”.
أما الطبيب النفسي “أريك ريكسون”، فقد قال من خلال خبرته العريضة: “إن وظيفة الطبيب النفسي هي إعادة بناء حالة الثقة والإيمان في نفس المريض”.
تصور الإنسان ومعتقده هو المقدمة، ونتائجه هي المشاعر والأعمال. والنتائج دائمًا من جنس المقدمات؛ فمن يبذر اليأس والتشاؤم والحقد والقلق والحزن، لا يمكن أن يحصد النجاح والصحة والسعادة.

ويؤكد “جمس آلان” على خطورة الأفكار، وكأنه يشبهها بالحصان، والإنسان بالعربة، إذ يقول: “أنت اليوم حيثْك أفكارُك، وستكون غدًا حيث تأخذك أفكارك”. ويقول أيضًا: “دع إنسانًا يُغيِّر اتجاه أفكاره، وسوف تتملكه الدهشة لسرعة التحول الذي يحدثه هذا التغيُّر في جوانب حياته المتعددة. إن القدرة الإلهية التي تكيف مصايرنا مودعة في أنفسنا، بل هي أنفسنا ذاتها. وكل ما يصنعه المرء، هو نتيجة مباشرة لما يدور في فكره، فكما أن المرء ينهض على قدميه وينشط، وينتج بدافع من أفكاره، كذلك يمرض ويشقى بدافع من أفكاره أيضًا”.
ونعود إلى نقطة الوسط بين الشرق والغرب، حيث المرتع الخصيب للوسطية في العالم العربي، لنجد المفكر الجزائري “مالك بن نبي” يعيد سائر المشاكل وشتى الحلول إلى الفكر، سواء بالنسبة للفرد أو للأمة، ولهذا فإنه يحذر من خطورة الأفكار، وبالذات ما يسميها بـ”الأفكار الميتة” وهي الموروثة عن السلف، و”الأفكار المميتة” أو القاتلة وهي المستوردة من الغرب، وقد استفاض في شرحها وحذر من “انتقام الأفكار المخذولة” في كتابه الرائع “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، واستفاد في هذا الإطار من الدراسات الاجتماعية والنفسية والتاريخية.
وقد تزعَّم مدرسة عريضة في الفكر الإسلامي المعاصر، ترى أن أزمة الأمة أزمة فكرية، وأن المخرج منها ليس غير تغيير الأفكار.. ومن أفراد هذه المدرسة المفكر السوري “جودت سعيد” الذي ألَّف كتابه الرائع “حتى يغيروا ما بأنفسهم”، وقدَّم له “مالك بن نبي”.. واليوم يسير في ذات الدرب المعهدُ العالمي للفكر الإسلامي، وآخرون كثيرون من أعلام الفكر الإسلامي.
وقد خاطب العالِم والأديب السوري “علي الطنطاوي” المسلمين قبل ستة عقود فقال رحمه الله: “إنكم سعداء ولكن لا تدرون؛ سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها.. سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها.. سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم”. وأضاف: “ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا ويخاف ويتصور الموت فيكون مع المرض على نفسه فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيّل الصحة فتسرع إليه ويسرع إليها”.
وكان الشاعر العربي قد فطن لهذه الحقيقة فقال:
دواؤك فيك وما تبصر
وداؤك منك وما تشعر
ونختم هذه الجولة الخاطفة في آفاق حكماء العالم بمسكٍ تركي، من صنع المفكر الداعية “فتح الله كولن” الذي أكثر من إيراد مفردات هذه القضية في عدد من كتبه.
فقد كتب عن القلق وكيف أنه يسبب الأمراض، كالقلق على المصير والعاقبة، حيث قال عن الذين لا يحبون الله بأنهم: “سيبقون على الدوام في قلق على مصيرهم وعلى عاقبتهم المجهولة وعلى خوف”.
وأوضح كيف تدمر المشاعر السلبية أصحابها، كالحقد والحسد والكراهية: “إن صرف الإنسان عمره في غمار المشاعر السلبية والسيئة، عذاب لا يطاق من جهة، ودناءة من جهة أخرى”.
وما فتئ يؤكد على أن السعادة أو الشقاء، نابعان من داخل الإنسان لا من خارجه، ولهذا عظَّم القلب، حيث قال عنه في كتابه “التلال الزمردية”: “فالقلب يحمل الفيوضات التي أخذها بوساطة عالم الأرواح إلى البدن والجسم، فيثير فيه نسائم السكينة والاطمئنان”، وأضاف: “القلب كالقلعة الحصينة لصحة الفكر واستقامته، وصحة التصور ووضوحه، وصحة الروح ونقائها، بل حتى لصحة البدن وسلامته”.
ولهذا فإن الإسلام عنده هو الدواء، والفهم الصحيح له هو المخرج: “الذين يعيشون الإسلام كما أنزل، يحيون بقلوبهم في هذه الدنيا وكأنهم يَعُبُّون من كؤوس اللذة في جنة الفردوس”.
العطاء طريق السعادة والصحة

أورد الدكتور “إبراهيم الفقي” في أحد كتبه، أن هناك عيادات نفسية في أمريكا تعالج مرضاها بالإنفاق. وهذا يعني أن الأطباء يغيّرون أفكار الأخذ إلى أفكار العطاء، مما يؤدي بأصحابها إلى الشعور بالسعادة.
وقبل أشهر قليلة كان أغنى رجل في أمريكا وفي العالم الملياردير “بيل جيتس”، قد تبنى هذه الدعوة، ونجح في إقناع خمسين مليارديرًا بإنفاق ثرواتهم على العمل الخيري حتى يتذوقوا طعم السعادة وبهجة الحياة.
ومن خلال نقاشي مع عدد من أثرياء تيار الخدمة في تركيا، أدركت أنهم يعيشون في بحبوحة السعادة المتولدة عن البذل والعطاء، أكثر من تمتعهم بالمباهج التي تمكنهم أموالهم من الحصول عليها. ولفت نظري أن أحدهم ذَكَر أنه في أول مرة أنفق فيها عشرة آلاف دولار تحت الضغط العاطفي الشديد لخطاب أستاذه “فتح الله كولن”، وأنه شعر أثناء ذلك كأن قطعة لحم قد قُدّت من ساعده، لكنه بعد ذلك تذوَّق طعم السعادة حتى صار يستمتع بالإنفاق، ولو أن أستاذه “كولن” دعاه لإنفاق ماله كله لما تردد طرفة عين.

الإسلام يؤيد تأثير التصور على الصورة

من يقرأ نصوص القرآن بتدبر ويعي مقاصده، سيجد تأييدًا كبيرًا لأثر تصور الإنسان على صورته، ومن ثم على سائر مواقفه وتصرفاته وأفعاله.. ولذلك كانت بداية أوامر الإسلام برسم هذه الصورة الكلية من خلال الأمر “اقرأ” في سورة العلق، كأن هذا التصور هو أول مرحلة من مراحل بناء الحضارة، وهي مرحلة “العلق” الحضاري.
واهتم القرآن بتوضيح أثر الإرادة على تحقيق النجاح والسعادة والصحة. وهذه الثلاثية هي الأجر الدنيوي بجانب الأجر الأخروي، قال تعالى: “وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا”(آل عمران:145). والصحة هي من ثواب الدنيا، فهي مشروطة بالإرادة، والإرادة اعتقادٌ مقترنٌ بتصميم، ومتسلحٌ بالأسباب التي لا تعمى عن رؤية مالك الأسباب.
وقال تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً”(النحل:97). والإيمان هنا هو الاعتقاد الراسخ بالله الذي يملك القدرة على إعطاء الإنسان السعادة والصحة والنجاح، وهو مسخر الأسباب الموصلة إليها، والحياة الطيبة لا تكون بدون سعادة وصحة ونجاح.
وفي مثال عملي، أورد القرآن في قصة يعقوب “ إشارة إلى تأثير الحزن على الجسم، الذي قد يصل إلى حد تعطيل وظيفة من وظائف الجسم، كإصابة العين بالعمى، قال تعالى: “وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ”(يوسف:84).
ولخطورة الحزن والقلق على صحة الإنسان، وضح القرآن أن الغاية من الإيمان بالقدَر هي تجنيب الإنسان السقوط في هذه الهاوية، قال تعالى: “مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ # لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ”(الحديد:22-23)؛ وكأن الإيمان بالقدر هو حجر الزاوية في بناء الإرادة الحديدية. والإرادة تقوي جهاز المناعة الذي يقاوم سائر الأمراض.
ولو انتقلنا إلى السنة النبوية لوجدنا إشارات عديدة تؤيد هذا الأمر، من مثل قوله  صلى الله عليه وسلم: “تفاءلوا بالخير تجدوه”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “داووا مرضاكم بالصدقة” (رواه البيهقي)؛ ذلك أن الصدقة تكسب الإنسان الشعور بالسعادة، والسعادة تقضي على الهموم والأكدار والأحزان، وتُكسب الإنسان الشعور بالرضا، مما يؤدي إلى تقوية جهاز المناعة ومن ثم التمنع على الأمراض. فكأن الصدقة عسلٌ معنوي فيها شفاءٌ للناس.
ونختم بالحديث القدسي الذي ورد فيه: “إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه” (رواه مسلم)؛ وكلمة الخير الواردة في النص، جاءت نكرة لتعم كل خير تثمرها سائر الشعب الإيمانية، سواء كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة. ولا شك أن الصحة والنجاح والسعادة من الخير العميم الذي جاء به هذا الدين العظيم.
وهكذا، يتبين لنا أن تصور الإنسان ومعتقده هو المقدمة، ونتائجه هي المشاعر والأعمال.. والنتائج دائمًا من جنس المقدمات؛ فمن يبذر اليأس والتشاؤم والحقد والقلق والحزن، لا يمكن أن يحصد النجاح والصحة والسعادة.
ويمكنني تشبيه أجسام البشر بأنها “أغنام”، وتُمثل الأفكار الطيبة دور الراعي، أما الأفكار الخبيثة فهي الذئاب، فلنحذر على أجسامنا من ذئاب أفكارنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز / اليمن.