الثنائيات الحضارية في فكر مالك بن نبي

المقدمة

شكل فكر ابن نبي منعطفًا جوهريًّا في الثقافة الإصلاحية الإسلامية بوجه خاص، تمثل في قدرته على تحليل مركبات النقص في بنية العقل والنفس الإنسانية، توصيفًا لها ولأعراضها وتدقيقًا لنتائجها في أفق تجاوزها.

ولأنه كان مهندسًا فقد صرف بالاعتماد على صيدلية أصوله القرآنية، ومن علومه المنبثقة، أدوية لرأب الصدع مع الاستفادة من التجارب الإنسانية للثقافة المتنوعة، وتفرد بتكامل منهجه، ففي وقت كانت ثنائية العقل والنقل، والأصالة والمعاصرة، والاجتهاد والتقليد، والعقيدة والشريعة، والرأي والأثر صورة عن التخلف في الأمة، برز بمنهج جعل منها آلية للتحليل، ومطية للنقد، ووظيفة معرفية تعد مفتاحًا للكشف عن التفاعلات النفسية والاجتماعية والتاريخية، وبث الخميرة لبناء الإنسان والعمران.

هذه الثنائيات منها ما ذكره باسمه، ومنها ما يفهم من كتاباته في مشكلات الحضارة، وسأتناول بالدرس والتحليل منها: ثنائية التكديس والبناء، وثنائية السهولة والاستحالة، والحق والواجب، والفكرة والعمل، والأفكار المطبوعة والموضوعة. ومن أهم أبعاد المنهجية المعرفية التكاملية عنده مايلي:

  •  فهم آليات تفكيك وتفسير العلاقات النفسية والاجتماعية للثنائيات، في ضوء المصادر المؤسسة للرؤية الإسلامية.
  • النقد المنهجي، والمساءلة العلمية المتجاوزة لاعتبار الثنائيات سلبيات، إلى تفعيل الأولى بالإتباع فيها.
  • الجمع والتركيب المستمران للثنائيات، في أفق تثوير البعد التقصيدي فيها، وحثها على الفعل والعمران.
  • تفعيل المنهج التكاملي لبلورة فهم جديد ينفي التضاد والإقصاء، يحقق الدمج والاستيعاب والتجاوز وفق أطر مرجعية أصيلة .

ثنائية التكديس والبناء

يرى مالك أن الاستعاضة عن مبدأ التكديس بقانون البناء يحقق قوة معرفية، فتكديس أشياء الغرب يؤدي إلى التبعية يقول:”علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الغرب لا تأتي بالحضارة، وطالما بقي المجتمع الإسلامي عاجزًا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية، التي تنسجم مع عقيدته، فهذا يعني أن المجتمع يعاني من التبعية والتخلف”، وفي معرض تفسير عوامل الارتباك الداخلي يقول:” العالم الإسلامي اليوم خليط من بقايا موروثة، وأجلاب ثقافية حديثة جاء بها تيار الإصلاح والحركة الحديثة، وهو خليط لم يصدر عن توجيه واع، إنما هو مجموعة من رواسب قديمة لم تصف من طابع القدم، ومستحدثات لم تتم تنقيتها. هذا التلفيق أنتج عالماً منطو على ألوان من التناقض والتنافر تجمعت وتراكمت في هيئة فوضى.”، وفي إطار نقد ردود الفعل النفسية لطلبة البعثات إزاء أشياء الآخر والانبهار بها يقول:”إن منطق التكديس لم يسلم منه طبقة المثقفين أنفسهم فهي حالة مرضية، حيث إنهم وبدل أن تسهم كتاباتهم في تشييد البناء نجدهم يلجأون إلى تكديس المعارف والانجذاب إلى الألفاظ الرنانة وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد قلعها من بيئتها الأصيلة”، ومن البين “أن العالم الإسلامي يعمل على جمع أكوام من منتجات الحضارة، أكثر من أن يهدف إلى بناء الحضارة.”

هذا المنهج التكاملي العميق يجلي حقيقة كل مفهوم وآثاره وعلاقاته النفسية والاجتماعية، ويقدم صياغة جديدة لثلاث مشكلات أولية:مشكلة الإنسان، والتراب، ثم الوقت “فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل هذه المشكلات من أساسها ولا يعني أن توفر هذه العناصر الأولية في الحضارة الإنسان، التراب، الوقت يفضي بالضرورة إلى بناء الحضارة وإنما يشترط لقيامها وجود خميرة محفزة، ومركب موجه ومصحح، تمتزج وتتفاعل في أفقه، وما هذا المركب إلا الفكرة الدينية، إن هناك ما يطلق عليه مركب الحضارة:أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض،الفكرة الدينية التي رافقت تركيب الحضارة خلال التاريخ، فيسمح لنا ذلك بالقضاء على ما يطلق عليه ضمنا الاتجاه نحو التكديس”. ولبيان تأثير الفكرة الدينية يضرب مثالاً بعناصر الماء؛ الهيدروجين والأكسوجين في حاجتها للتفاعل مع مركب خارجي يمنحها البناء.

ثنائية السهولة والاستحالة

يبرز مالك الوظيفة التكاملية لثنائيتة من زاوية التحليل النفسي فمنذ الوهلة الأولى يصفها بـ”الذهان” وهو مصطلح يقارب معنى الوهم، والسهولة والاستحالة يمثلان “شكلان متقابلان لخيانة الفكر والعمل والحق والواجب ويبدو أنهما مرتبطان في وعي الأمة بالقضية الفلسطينية فهي أخطر حدث في تاريخ العالم الإسلامي الحديث لأنها حللت الفوضى في نهضته، فكشفت كل الأوهام الباطلة، التي كانت تزيف له توقعات مستقبله، ويرى أنها قضية حررت العقل والضمير من الذهانية فهي “هزيمة مباركة أو ذلك النصر السعيد للواقع على الوهم فأيقظتها”، ميزة هذه الثنائية أنها عرت تيارات إصلاحية “افتتحت عهدًا جديدًا في النهضة، فلم تعد الخرافات قائمة أمام واقع كان مستورًا بهالة من الفلسفات العاطفية، وتلقى ذهان السهولة ضربة قاتلة، فخلى الضمير المسلم إلى نفسه، يفكر في أسباب ضعفه، فقدمت بذلك مشهد ملحمة جديدة تحكي الصراع بين داود وجالوت.”

وينقل مالك كلمات كل من د.ناظم المقدسي أحد الوطنيين المراكشيين لأنها “تمثل كما الهزيمة أعراض فكر جديد ودليل منعطف جديد في التاريخ، فهي محاولة في تقصي الداء الدفين وامتحان الضمير، إنها ولا ريب فكرة الواجب الجديد.” هكذا وبمنهج تكاملي يمكن أن نقضي على الوهم والخرافة وأن نتحول إلى  “إرادة لا ترهب العقبات، بل تقضي على ذهان آخر هو الاستحالة.”، إنها ثنائية تتأسس على “الأساطير الثلاثة:أسطورة الجهل التي تتجلى في طلبة البعثات الذين يتعاملون من زاوية واحدية وحدية تتبنى تقديس الغرب وتدنيس التراث، ثم أمية الجهل بالقراءة والكتابة، وأسطورة الفقر التي يجسدها الطفل ذي الأسمال البالية، في حين تتجلى الثالثة في الاستعمار ذلك الشر والشيطان الكاشفة لحال القابلية له.” وبالقضاء على هذه الأساطير ينتهي ذهان السهولة والاستحالة مكمن الخرافة في المجتمع.

ثنائية الحقوق والواجبات

بمنهج تكاملي متميز يذهب مالك إلى أن العالم اليوم أضحى مهووسًا في المطالبة بالحقوق دون الواجبات ويرى “أننا لسنا بحاجة إلى نظرية تهتم بالحق أو بالواجب على حدة، فإن الواقع الاجتماعي لا يفصل بينهما، بل يقرنهما في صورة أساسية”، وتتمثل التكاملية في جدلية العلاقة فهي”علاقة تكوينية تفسر لنا نشأة الحق ذاته، تلك التي لا يمكن أن نتصورها منفصلة عن الواجب، وهي أول عمل قام به الإنسان في التاريخ”، والفصل بينهما يشكل أزمة خطيرة مثلتها الأحزاب السياسية في خرافة حديثها حول الحقوق فـ”السياسة التي لا تحدث الشعب عن واجباته وتكتفي بأن تضرب له على نغمة حقوقه، ليست سياسة، وإنما هي خرافة”، ويبرز مهمة الأحزاب فيقول:”ليس الشعب بحاجة إلى أن نتكلم له عن حقوقه وحريته، بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها، ولا يمكن إلا أن تكون تعبيرًا عن واجباته.”

فمالك يصر على الجمع والتركيب التكاملي فيعتبر الحقوق نتيجة حتمية لأداء الواجبات “فينبغي أن يتفوق الواجب على الحق، فهو أمارة التقدم الخلقي والمادي في كل مجتمع يشق طريقه إلى المجد” وبالتالي فكل سياسة تقوم على الفصل، “ليست إلا ضربًا من الهرج والفوضى .فرسم سياسة معينة معناه إعداد الإنسان لصنع التاريخ.” فواجبنا “أن نبذل جهودًا وأن نقوم بكثير من الواجبات لكي نصل إلى حقوقنا.”، ويؤكد أن تغليب الواجب يهدم ذهان الوهم، ويمثل من واقعه بتلك الفئة من الشباب الجزائري الذين رسموا طريق الواجب لمن بعدهم، وكان بوسعهم أن يتحدثوا عن حق القرية في أن يكون لها طريق، ولكنهم آثروا أن ينشئوا الطريق بأنفسهم.”

ثنائية الفكرة والعمل

يقتصر منهج مالك على بيان تجليات هذه الثنائية في العالم الإسلامي مادام الغرب لا ينقصه منطق العمل، فالمجتمع المسلم لا يعيش طبقا لمبادئ القرآن، ولكنه يتكلم تبعا لمبادئ القرآن لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه، إن”نظرة إلى واقعنا ترينا أن الرجل الأوربي والرجل المسلم أيهما ذو نشاط وعزم وحركة دائبة؟ ليس هو الرجل المسلم بكل أسف”، ولذلك يطرح بمنهج عالم النفس العوامل الداخلية لفوضى العالم الإسلامي الحديث فيقول”المسألة التي نتناولها هنا، العجز عن التفكير وعن العمل، وهو في المجال النفسي يدل على انعدام الرابط المنطقي -الجدلي- بين الفكر ونتيجته المادية -العمل- فالفكرة والعمل كل لا يتجزأ، والواقع أننا عندما نحلل أي نشاط له علاقة بالحياة العامة للنهضة نجده مبتورًا من جانب أو آخر؛ “فإما فكرة لا تحقق، وإما عمل لا يتمثل بجهد فكري”، ويضرب مثالاً بمسألة الإصلاح في ارتباطها العام أو الخاص بالنشاط الاجتماعي أو الفردي فيقول:”الفكرة الإصلاحية مثلا تستهدف الفرد،ولكنا لا نشم مطلقًا رائحة مصلح تتطلب معه الأمور أن يوجد ناطقًا بفكرة الإصلاح، في المقاهي وفي الأسواق..وما يقوم به المصلحون، أن يكتفوا بتلقين الأطفال دروسًا لا تدعو لشيء من الإصلاح، أو بتوجيه بعض العظات إلى جمهور هو الذي يسعى ليحيط بالمنبر.”

يتبين إذن عمق الأزمة حين “تصبح كلمة إصلاح مجرد طابع ألصق على أوجه نشاط، منقطعة الصلة بالفكرة المتكاملة التي يجب أن تتفاعل بها”، ولذلك يؤرخ لحدوث هذا الانفصال مع بداية بعثات الطلاب في المجتمع الحديث حيث “لم يكن العلم الذي قبسته من جامعات الغرب وسيلة للإسعاد بل كان طريقًا إلى المظهرية، لم يكن ذلك العلم استبطانًا لحاجة مجتمع، بل لم يكن استظهارًا لبيئة نبحث عنها لنغيرها”، ومن أخطر ملامح الثنائية عنده “انعدام فاعلية العلم الإسلامي فهو قانع منطو على ذاته، حبيس في صوره وأشكاله المألوفة، بدليل أننا لم نر فينا حتى الآن وجهًا من تلك الوجوه الخالدة يبرز في تاريخ المعرفة في القرن الحالي”، مشيرًا إلى المسلمين الذين جسدوا منطق الاتصال وفق ما أسسته رؤية القرآن فاستفادت منهم البشرية. هكذا يظهر أن “الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والفعل، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلامًا مجردًا، بل يبغض الذين يفكرون تفكيرًا من شأنه أن يتحول إلى عمل.”.

ثنائية الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة 

يتوسل ابن نبي بالمجال الموسيقي لتفسير تفاعلات الأفكار المطبوعة والموضوعة في تكامل منهجه المعرفي فالأفكار “أسطوانة ذات طابع خاص يحملها الفرد في نفسه عند ولادته وتختلف الأسطوانة من مجتمع إلى آخر، فعالم الأفكار أسطوانة لها أنغامها الأساسية ونماذجها المثالية وهي الأفكار المطبوعة، ولها أيضًا توافقاتها الخاصة بالأفراد والأجيال وهي الأفكار الموضوعة.”، ويعطي مثالين من تجربة الغرب والعالم الإسلامي فيقول:”تقولبت اليونانية في أفكارها المطبوعة الأساسية لهوميروس وإكليدوس وفيثاغورس وسقراط وأمبدوكلوس، وفي أفكارها الموضوعة في التوافقات الموسيقية لأفلاطون وأرسطو، وقد زادت غنى في أثينا كل ذلك نعثر على أثر منه في الحضارة المعاصرة “وأما لتجربة الإسلامية فقد تلقى المجتمع رسالته المطبوعة على هيئة وحي، فانطبعت في ذاتية الجيل المعاصر لغار حراء الذي أسمع السيمفونية البطولية لدين الرجال كما يدعو نيتشه الإسلام”

ويهم مالك تلك التكاملية والتداخل التي تحدد طبيعة العلاقة بين الأفكار المطبوعة والموضوعة ففي “العالم الإسلامي قلبت رأسا على عقب وسطًا بدائيًّا فوضعت طاقته الحيوية في حدود حضارة، وجعلتها تستجيب لقواعدها وأصولها، لقد كانت لحظة الجزيرة العربية عندما تلقت الرسالة لحظة لا مثيل لها في العظمة”

وفي عرضه لآثار ذلك في الإطارين المادي والفكري يقول:”ففي الإطار المادي:رسمت الرسالة آثارا اجتماعية جديدة، إنما بالوسائل الحاضرة، لأن عالم الأشياء لم تغيير وسائله، وبدت تلك اللحظة فيما فعل المهاجرون والأنصار إذ وضعوا مواردهم على سواء بينهم ليواجهوا المرحلة الجديدة. وفي الإطار الفكري: أوجدت عديدًا من المقاييس، جديدًا في أسلوب التفكير وتوجيه لنشاطات مجتمع وليد. وأخيرًا في الإطار الأخلاقي أنشأت للطاقة الحيوية مراكز استقطاب جديدة، ورأينا حول هذه المراكز لحظات من العظمة لا تضاهى.كما حصل عندما قام المسلمون بناء على نصيحة سلمان بحفر الخندق”.

يتضح إذن التكامل بين الأفكار المطبوعة رسالة الوحي التي انطبعت في ذاتية جيل التأسيس، الذي يعطي الحركية والفاعلية المتمثلة في حفر الخندق. وعند غياب التكامل في سلم نغمات الأفكار المطبوعة والموضوعة، “يخرج منها في البداية نشاز النغم وحشرجة ثم الصمت أخيرًا ويستمر الانحطاط إلى اللحظة التي يقف فيها لحن الأفكار، وتزول ردات الفعل الحماسية للألحان السامية وردات الفعل الرافضة للأصوات النشاز”. ومن الآثار أيضا غياب النموذج “عندما تنمحي النماذج المثالية،لا تسمع أبدًا لهجة الروح، والأفكار الموضوعة لا يعود لها جذور في الغلاف الثقافي تصمت بدورها، والمجتمع الذي يصل إلى هذه الدرجة يتفتت”.

وبعبارة أدق”المجتمع الإسلامي يدفع اليوم جزية خيانته لنماذجه الأساسية، إنها اللحظة المؤلمة حيث المسلم منشطر إلى شخصين: المسلم الذي يتم واجباته الدينية ويصلي في المسجد، ثم المسلم العملي الذي يخرج من المسجد ليغرق في عالم آخر، إن هذه النتيجة الحتمية للنشاز الحاصل بين الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة ليس خاصة بمجتمع دون مجتمع، فالحضارة الغربية أيضا عندما تنكبت عن أفكارها المطبوعة ولم يعد لأفكارها الموضوعة غلاف ثقافي سوى الهوس المادي المحكوم بفلسفة الربح والاستهلاك والاستعمار “.

ثنائية الكم والكيف

ينطلق مالك في سبر ثنائية الكم والكيف،متسلحا بمنهج تكاملي جمع بين الفيلسوف المؤرخ ، والاقتصادي،فيرى المادية” كمذهب فلسفي جعل الذات الأوربية تفتتن بما حررت من قوى عبقريتها التي أبدعت آلات لم تستطع السيطرة عليها،ثم استنامت لتلك الآلات تقودها بعقل من حديد،فصارت الحياة أرقاما،والسعادة مقيسة بعدد ما لديها من وحدات حرارية وهرمونات وصار العصر عصر كم يخضع  فيه للنزعة الكمية،إنه قانون لاسال الفولاذي المتحكم في مصير الإنسان والخالق للحمه وأعصابه،قتلت المفاهيم الأخلاقية التي تحولت ضربا من التجارة ترصد الأرباح والأجور وساعات العمل”.ليؤكد أن ما غاب عنها هي قيمة الإنسان نفسه،وبالرغم من هذا يرفض أن يضع المسلم ستارا بينه وبين الغرب،”ليس من الواجب أن يضع العالم الإسلامي ستارا حديديا بينه وبين الحضارة الحديثة،فهذا يقود إلى عملية مستحيلة كما وكيفا”.فمن حيث الكيف”لا يمكن لأي حضارة أن تبيعنا كيفيتها ومعانيها التي لا تلمسها الأنامل،فعندما نشتري منتجاتها فإنها تمنحنا هيكلها وجسدها لا روحها”.ومن ناحية الكم فلن تكون أقل”فكوم ضخم من المنتجات يمكن أن ينشئ حالة حضارة،ولكنا نرى فرقا شاسعا بين هذه الحالة الحضارية وبين تجربة مخططة،هذه التجربة تبرهن أن الواقع الاجتماعي خاضع لنهج فني معين،تطبق عليه وفيه قوانين الديناميكية الخاصة سواء في تكونه أم في تطوره ” ، فالغرب”يجنح حول مفهوم الكم،وهو عندما ينحرف نحو المغالاة يصل حتما إلى المادية،وحينما يكون الفكر الإسلامي في أفوله فإن المغالاة تدفعه إلى التصوف والمبهم والتقليد والافتتان بأشياء الغرب”. وفي حديثه عن الكم والكيف في علاقتهما التكاملية يبين أنها”خاضعة لشبكة العلاقات والتفاعلات الوظيفية الدقيقة التي تبرز المنحى المعرفي لحضارة أمة من الأمم في حالة تخلف الضمير عن العلم أو في حالة مواكبة الضمير للعلم والمعرفة”.

ثنائية الاستعمار والقابلية له:

رصد مالك مستويات للغرب الحديث،فهو ليس على نمط واحد،كما أن مواقفه منه ليست واحدة،فالغرب المستعمر من”أخبث الشرور التي عرفها الإنسان،ويعد في نظر كل مسلم الشيطان”.وما ذلك إلا “لأن الاستعمار يسعى أن يجعل من غيره ساكنا،فيخرجه من عوالم الإنسانية إلى عالم الأشياء”،وللاستعمار بواعثه النفسية والاجتماعية والتاريخية فهو”نكسة في تاريخ الإنسانية لم تقع في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر فحسب وإنما وقعت،مع تلك الحركة التي يسميها التاريخ النهضة والتي عبرت بأنها رجوع إلى العهد الروماني والإغريقي”.فهي تستهدف تزييف إدراك الإنسان،وتلوث طبيعته،بل الاستعمار”يريد تحطيم كل إرادة تدفع الإنسان المستعمر إلى التقدم من خلال الحط من قيمة الفرد ومن كفاءته ومن جهده في المسابقة الاجتماعية”،والذي غذى الاستعمارية في الذهنية الغربية هو”تلك الفلسفة المتمركزة حول الذات،الأنا العظمى التي دانت لها كل الذوات وبالتالي أدى ذلك إلى تشوه فلسفة الإنسان عندها”،وبالرغم من انتقاده للاستعمار فهو يعتبره صفعة استفاق المجتمع المسلم بها من سباته العميق.وبهذا الاستثناء يفسر خطورة القابلية للاستعمار التي يعتبرها أفدح منه” فالاستعمار هو نتيجة حتمية لانحطاطنا وعليه فإنه لكي لا نكون مستعمرين يجب أولا أن نتخلص من القابلية للاستعمار”،لأن”الاستعمار يمارس عمله حقيقة عندما يكف النشاط في روح المستعمر كفا فعليا،وهو قناع للقابلية للاستعمار”.فالقابلية هي التي تدعوه ولابد عنده من التفريق بين بلد محتل وبين بلد مستعمر” ففي الحالة الأولى يوجد تركيب للإنسان والتراب والوقت،وهو يستتبع فردا غير قابل للاستعمار،أما في الحالة الأخرى فإن جميع الظروف تدل على قابليته للاستعمار”.ولفهم تكاملية الثنائية لابد من التقصي “فلكي نصدر حكما صادقا في هذا المجال ينبغي أن نتقصى الحركة الاستعمارية في أصولها،لا أن نقف أمام حاضرها.أي علينا أن ننظر إليها بوصفنا علماء اجتماع،لا بوصفنا رجال سياسة، وسندرك أن هذه القابلية التي يقوم على أساسها الاستعمار تنقلب إلى رفض لذاتها في ضمير المستعمر، فيحاول جهده التخلص منها.وليس تاريخ العالم الإسلامي سوى النمو التاريخي لهذا التناقض”. ولتجاوز هذا التناقض يقدم بديلا فيقول:”إن نجاح أي منهج مرتبط بتناول المشكلة من جانبيها معا،فإذا نظرنا إلى جانب دون الآخر فقد غامرنا برؤية مشكلة مزيفة،إن هناك نتيجة منطقية وعلمية تفرض نفسها هي أنه لكي نتحرر من أثر هو الاستعمار،يجب أن نتحرر أولا من سببه وهو القابلية للاستعمار”.

ثنائية الأفكار والأشياء

يحاول مالك بمنهجية عالم الاجتماع،تجاوز علاقة الصراع بين الفكرة والشيء،في المجتمعين الإسلامي والغربي فهذه”العلاقة لا تجد تعبيرها في المجتمع الإسلامي الذي يواجه الشيئية وسائر نتائجها، بل يمكن اعتبارها بالنسبة للمجتمع المتحضر وسيلة تحليل لوضعه”،فالمشكلة بينهما ” ذات وجه مزدوج ففي بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته،فتنشأ فيه عقد الكبت.أما في البلد المتقدم فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج الإشباع،فيولد ميلا نحو الهروب،يدفع الإنسان المتحضر إلى تغيير إطار الحياة والموضة”.يتبين إذن أن طغيان الشيء على الفكرة يجعل الإنسان جسدا من غير وجود روحي” فالمجتمع المعدم والمجتمع المليء كلاهما يواجهان الداء ذاته،فطغيان الشيء يختلف الشعور به،ولكن النتائج النفسية المنطقية واحدة،فالشيء يطرد الفكرة من موطنها حين يطردها من وعي الشبعان والجائع معا”.

ويرى أن تبني الواحدية المادية في الغرب دليل غياب الرؤية التكاملية،سواء في الميدان العلمي أو العملي أو السياسي،أو في سياق الحوار مع الثقافات المغايرة،ففيما يتعلق بالإجابة على الفراغ الكوني يمثل بقصة روبنسون كروزو” فمنذ الوهلة الأولى لتحطم سفينته كان مهووسًا بوقائع محسوسة،أكل،نوم،عمل، وهي وقائع تضع ثواني الزمن في خدمة اقتصاد نفعي بحث”،فعالم أفكاره يتركز حول شيء،إنها الطاولة التي يريد صنعها، والتي تحدد نمط التفكير الأوربي،ومحاولته في الإجابة عن إشكالاته،إذ يعتزل وحيدا ينتابه شعور بالفراغ الكوني:فإما أن ينظر المرء حول قدميه،أي نحو الأرض.وإما أن يرفع بصره نحو السماء،فالأولى تملأ وحدته بالأشياء حيث يجمح بصره المتسلط لامتلاكها.والثانية تملأ وحدته بالأفكار ويبحث عن الحقيقة بنظره المتسائل.هكذا ينشأ نموذجان من الثقافة:ثقافة سيطرة تقنية، وثقافة ذات جذور أخلاقية وغيبية، وبالإجمال فإن أوربا ركبت في مضمون ثقافتها مزيجا من الأشياء والأشكال من التقنية والجمالية.

بينما الشرق الإسلامي ركب في ثقافته مزيجا من فكرتين:الحقيقة والخير”،وفي سياق التعامل مع باقي الثقافات كانت مفاهيم الهيمنة والمركزية من خصوصيات أسلوبها وخيارها،” فهو في حالة انفصال عنها،كأنه ليس منها بل يتربص بها الدوائر كي يجعل منها حاجة يملكها وشيئا يغتصبه عندما تدق ساعة الفتوحات الاستعمارية “.فالهيمنة في حقيقة الأمر فكرة مسيحية أو بتعبيره”أن المسيحية أودعت خميرة التوسع الأخلاقي في الضمير الأوربي”،بحيث” إذا ما كان في أوربا فكر بمنطق علمي،وأما إذا ما انساح في العالم فإنه يفكر بعقلية ميكيافليي”،بينما دفع القرآن ذي الرؤية الغيبية المسلم لتوثيق الروابط الاجتماعية حول فكرة الخير،تلك التي بها ” اجتاز المجتمع الإسلامي الخطوة المشعرة باقتراب الانفصام،يوم أن قال عقيل أخو علي بن أبي طالب:إن صلاتي مع علي أقوم وطعامي عند معاوية أدهم،والتي كانت من أعراض بداية الصراع بين الفكرة والشيء”،وتبعا لذلك ف”غنى المجتمع لا يقاس بكمية ما يملك من أشياء،بل بمقدار ما فيه من أفكار ولا يمكن أن نتصور عملا متجانسا من الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية.وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق،كان العمل فعلاً مؤثرًا”.

ثنائية الأفكار الميتة والأفكار المميتة 

يميز مالك بصفة عامة بين الأفكار الميتة والمميتة بكونها:” أفكار تكونت في عالم ثقافي تجاورت في داخله أفكار منسلخة عن جذورها،وهي بالتالي ميتة،مع أفكار أخرى استوردت بصورة سيئة من آخر تركت جذورها فيه فأضحت لذلك مميتة”،وبكلمات أكثر شفافية بالنسبة لعالمنا الإسلامي”الأفكار الميتة نتاج إرثنا الاجتماعي تولد قابلية الاستعمار.الأفكار المميتة مستعارة من الغرب تولد الاستعمار”.

يبحث مالك لبيان العلل المعرفية لثنائيته فيقول:”الذي يهمنا من ذلك الواقع المرضي هو التمييز بينهما.فإن الأفكار الميتة التي خلفها لنا مجتمع ما بعد الموحدين تبدو أشد فتكا “، يضرب مثالا بقصيدة ألقاها أمير الشعراء أحمد شوقي عقب رجوعه من زيارته لباريس حيث ألهمته عاصمة الأنوار ببهائها “ولم يكن يظن أنه حيث يترك للأجيال واحدة من أروع قصائده،فإنما يعطي ذريعة سيستغلها ضده بعد وفاته بعض هواة الأصولية المتنطعين،فقد استمعت مرة إلى زيتوني يقول ينبغي أن نسد منافذ هذا العالم لنحمي أنفسنا من العدوى”فمن خلال هذه العبارة يرى أن خطورة الأفكار الميتة أشد من نظيرتها المميتة لأن الأولى” ولدت في ظل مآذن القيروان والزيتونة والأزهر خلال قرون ما بعد الموحدين،وإذا هي لم يقض عليها بجهد منظم فإن جرثومتها الوراثية تلغم البنية الإسلامية من الداخل فتخدع حوافزها الدفاعية”،ويؤكد أنه بمجرد أن نبدأ “في معالجة الأفكار الميتة التي لم يعد لها جذور في بوثقة الثقافة الأصيلة في العالم الإسلامي،حتى نصطدم بالأفكار المميتة التي خلفت في عالمها الثقافي الأصلي جذورها ووفدت إلى عالمنا “.

فهذه الثنائية تطرح سؤال الترابط إذ ليس”المقصود في الواقع أن نتساءل لماذا توجد عناصر مميتة في الثقافة الغربية،ولكن المقصود لماذا تذهب النخبة المسلمة بالضبط للبحث هناك عن هذه العناصر”وهو ينتقل إلى مسألة أكثر خطورة،هي مسألة الإرادة والاختيار مبرزا أن”عالم ما بعد الموحدين حدد خيارا لهذه النخبة بإرادة منها أو بغير إرادة “وهو عندما يتحدث عن الأفكار الوافدة المميتة فإنه لا يقصد أن كل ما يفد عن تلك الحضارة مميت وإنما يقصد نفاياتها”وليس المميت الذي نصادفه في ذلك الوسط إلا نوعا من النفايات،الجزء المميت من تلك الحضارة.وإذا كان وعي عصر ما بعد الموحدين يذهب ليلتقط من العواصم الغربية تلك النفايات بالذات فينبغي ألا يلوم أحدا غيره”.

يتضح بالمنهج التكاملي الذي نحاه مالك خطورة الأفكار الميتة والمميتة فمن” الواضح أنه إذا كانت الأفكار التي تستورد من الخارج هي أيضا مميتة في وسطها الأصلي،فإنها ستلعب في مجتمعنا الدور نفسه وتعطي النتائج نفسها”، وبمقارنته بين طلبة البعثات في العالم الإسلامي واليابان في علاقتهما بالغرب يجلي أكثر خطورتها فيقول:” المقارنة بين فئتين متميزتين من تلاميذ الثقافة الغربية.فقدكانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي معاصرة لانطلاقة أخرى في اليابان،فالمجتمعان قد تتلمذا سوية في مدرسة الحضارة الغربية،واليوم هاهي اليابان القوة الاقتصادية،فالأفكار المميتة في الغرب لم تصرفها عن طريقها،الذي جسدته روح الساموراي تلك الطبقة من المحاربين الشرفاء،في حين بقي المجتمع الإسلامي وبالرغم من الجهود الحميدة التي خصه بها التاريخ،ليس سوى مجتمع ذي نموذج متخلف”.بهذا المنهج النقدي تحتاج الأفكار في عمومها قلبا واعيا وعملا معرفيا منضبطا بقواعد منهجية أصيلة تمكنه من تصفيتها وتنقيتها مما علق بها من شوائب الممارسات التاريخية للمسلمين .

خاتمة

فهذه رحلة في فكر واحد من فلاسفة الحضارة،شكلت فيها الثنائيات مشروعا علميا، وإمكانا منهجيا وتجليا لتكامل رسالة الختم،من أجل النهضة بالإنسانية عامة،فمن خلا ل تكاملية فكره،تمكن من النبش في الذاكرة ورصد الخلل في عناصر الحضارة في العالمين الغربي والإسلامي،وكمالم يدخر جهدا في تفكيك و تفسير شروط السقوط أو الإقلاع،فإنه لم يجعل الثنائيات حدودا فاصلة وتقابلات متضادة،وإنما تناولها في قالب متكامل المنهج فبين عناصرها،وقوم تجلياتها وعلاقاتها في مختلف الميادين الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية،مستعينا،بكل المعارف المتاحة أمامه،سواء التي تحيل عليها مصادره الأصيلة أو تلك التي استفادها من الخبرات الإنسانية.

المصادر

*-   مالك بن نبي وجهة العالم الإسلامي ، دار الفكر المعاصر بيروت ، لبنان ، الطبعة 1 ، السنة 2002 م.

*-  مالك بن نبي شروط النهضة ، دار الفكر، دمشق سورية ، الطبعة 4 السنة 1407 ه – 1987 م( عبد الصبور شاهين ، عمر كامل مسقاوي ) .

*-  مالك بن نبي مشكلة الأفكار ، دار الفكر دمشق ، سورية ، الطبعة 1 ، السنة 1988 م ( ترجمة د بسام بركة ، أحمد شعبو ) .

*- مالك بن نبي ، تأملات ، دار الفكر ، دمشق سوريا ، د ط السنة 1986 م ( ترجمة بسام بركة وأحمد شعبو ) .

*- مالك بن نبي في مهب المعركة ، إرهاصات الثورة ، دار الفكر دمشق سورية ، د ط السنة 1981 م.

*- مالك بن نبي ميلاد مجتمع ، الجزء الأول شبكة العلاقات الاجتماعية ، دار الفكر ، دمشق سورية ، الطبعة 3 ، السنة 1986م ( ترجمة عبد الصبور شاهين )