التيفاشي.. قمة سامقة في الجيولوجيا

هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف بن أحمد بن أبي بكر بن حمدون (1184-1253م)، عُرف بـ”التيفاشي” نظرًا لمولده بقرية تدعى “تيفاش” تقع بالقرب من بلدة “قفصة” بغرب وسط تونس، كما عرف أيضًا بـ”القفصي”.

وهو موسوعة معارف كاملة؛ في الطب، وعلم الاجتماع، والجغرافية، والفلك، والكلام، والقانون، والأدب، وقد اشتهر -خاصة- كعالم معادن من الطراز الرفيع. كان يجري التجارب العلمية والمشاهدات الشخصية، لتأكيد معلوماته مزيلاً بذلك عنها ما علق بها من خرافاتِ وأساطير اليونان والإغريق والرومان.

ويعد أول من ألف من المسلمين في علم الأرصاد الجوية… كَتَب في تفسير القرآن الكريم، ونقل الكثير من الأحاديث الشريفة بإسناده. اشتهر بأنه أديب متمكن له شعرٌ حسن ونثرٌ جيد… ألمَّ بالكثير من علوم عصره، رحالة كبير جاب الكثير من أقطار العالم للحصول على المعلومات العلمية الدقيقة من مصادرها؛ تدل على ذلك، آثارُه التي تعتبر حجة بمقاييس عصره، وهي حبيسة المكتبات تنتظر من يزيح عنها غبار السنين لتعود إلى الواجهة.

في “قفصة” درس على والده، وتقيل كثيرًا من خطواته، ولعل شغفه بعلوم الأوائل، إنما كان تأثرًا به واعتمادًا على الكتب التي جمعها أبوه في تلك العلوم… ومنها انتقل إلى تونس فسمع فيها على أساتذة منهم “أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن جعفر المقدسي”، ثم غادرها إلى مصر وهو لم يبلغ الرابعة عشر من العمر كما حدّث ذلك بنفسه. وفي مصر أظهر رغبة كبيرة في طلب العلم فكان ينتقل بين مجالس العلماء ومقابلة الشيوخ، فقرأ وتفنن واستفاد كثيرًا… بعدها انتقل إلى دمشق وبغداد، وتتلمذ على علمائها وأدبائها. وبعد هذه الرحلة العلمية عاد إلى مدينة “قفصة” واستقر بها، حيث عُيّن في وظيفة القضاء التي لم يستمر فيها طويلاً، ليستأنف رحلاته العلمية، خاصة ما يتعلق بعلم المعادن والحجارة… حيث عرف عنه رحلاته وجولاته الميدانية للبحث عنها واستخراجها، وإجراء التجارب التطبيقية عليها، والبحث عن المتخصصين والمهتمين بهذا العلم.

ثم عاد إلى مصر مرة أخرى ليستقر بها حتى وفاته؛ وانتصب بها للتدريس، حيث تخرج على يده العديد من العلماء. قام في مصر بتدوين كتابه الشهير “أزهار الأفكار في جواهر الأحجار” الذي انتهى من تأليفه عام (1242م). توفي التيفاشي بـ”القاهرة” ودفن بها بمقبرة باب النصر.

عرف عنه كثرة المطالعة، واقتناء الكتب، ولهذا تجده يقول في بعض مؤلفاته: “إني امرؤ استنبطت العلوم، وحذقت النجوم، وطالعت جميع الكتب من العلوم بأسرها على اختلاف أجناسها وأصنافها”. ومع ذلك لم تكن المطالعة مصدره الأهم في المعرفة، بل ربما كان أهم منها؛ المعرفة التي حصلها عن طريق السماع والمشاهدة والاختبار العملي، وأعانه على ذلك؛ دقة في الملاحظة، ومسارعة إلى تقييد ما يلاحظه أو يسمعه أو يجري فيه اختبارًا تستوي في ذلك بسائط الأمور ومعقداتها.

 

إنجازات التيفاشي العلمية

نبغ التيفاشي أساسًا في علم “الجيولوجيا” (Geology)، وبصفة خاصة في الدراسات والبحوث المتصلة بـ”علم المعادن”، و”الأحجار” (Mineralogy)، لكنه أحاط أيضًا إحاطة واسعة بعلوم الجغرافيا والأرصاد الجوية والطب وألف فيها. ومن أبرز إنجازاته في علم المعادن ما يلي:

• وضع أول تصنيف علمي صحيح للمعادن، وهذا التصنيف يعد أساس التصنيف العلمي الحديث المعمول به في عصرنا الحالي.

• اهتم بالبحث في أصول المعادن التي يتناولها بالدراسة، ودأب في مؤلفاته عن المعادن والأحجار، على محاولة تفسير أسباب وجودها في الطبيعة. ومما يحسب له أنه وضع نظرية خاصة بأصول بعض المعادن الثانوية تتفق في جوهرها مع النظريات الحديثة في هذا المجال.

• كان أولَ من أشار إلى بعض الظواهر المهمة في علم المعادن، مثل “التشقق” (Cleavage) و”التوأمة” (Twinning)، حيث تكون البلورة من توأمين أو أكثر لمن تناولها بمصطلحاته الخاصة المختلفة عن هذه المصطلحات المرتبطة بعصرنا.

• حقق السبق والريادة في استخدام “اختبار اللهب” (Flame Test) في التحقق من جوهر المعدن أو الحجر الكريم. وفي ذلك يقول فيما كتب عن اللازورد: “وإذا وضعت قطعة منه في جمر ليس له دخان، وخرج لسان النار من الجمر منصبغًا بصبغ اللازورد، يثبت لون اللازورد على ما هو عليه. وهو بهذه المحنة يختبر خالصة من مغشوشة”.

• توصل إلى إدراك تباين سلوك الضوء بعد مروره خلال المعادن، وفي ذلك يقول عن الماس: “من الألماس نوع له شعاع عظيم، إذا ظهر ألقى شعاعه على ما ظهر بالقرب منه من ثوب أو حائط أو وجه إنسان وغير ذلك، بنور مختلف اللون أشبه شيء بنور قوس قزح”. وهو يشير بهذه العبارات إلى ألوان الطيف التي تصدر عند تحلل الضوء إذا ما سقط على الماس المصقول.

 

مؤلفاته في الجيولوجيا وعلم المعادن

كتاب “أزهار الأفكار في جواهر الأحجار”: انتهى من تأليفه عام (1242م)؛ يقع في 25 فصلاً يختص كل فصل بدراسة معدن من المعادن عالج فيه: تكوّن الحجر في معدنه؛ معدنه الذي يتكون فيه، جيده ورديئه، خواصه في ذاته، قيمته وثمنه.

طبع أول مرة سنة (1818م) مع ترجمة إلى اللغة الإيطالية، بمطبعة مدينة فلورنسا من طرف الكونت الإيطالي “رينري بيشيا” (Raineri Biscia)، وهي طبعة ناقصة عن النسخ الخطية الموجودة من هذا الكتاب في خزائن العالم.

وعدد بروكلمان ما يربو على عشرين مخطوطة في المكتبات المختلفة، عدا ما لم يره مثل مخطوطتين بمكتبة الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب، ومخطوطة مكتبة الكونغرس الأمريكي وغير ذلك. وترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية عدة مرات، كما ترجم إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية.

ويؤكد المنصفون من مؤرخي العلم الأوربيين، أن هذا الكتاب كان له الأثر العظيم على نشأة علم المعادن الحديث في أوروبا على يد الفيزيائي الألماني “جورجيوس أجريكولا” (Georgius Agrcola) (1555م). وهم يؤكدون أيضًا أن بعض العلماء الأوربيين اقتبسوا الكثير من أبحاث التيفاشي ونظرياته التي حفل بها هذا الكتاب، ونسبوها لأنفسهم من دون الإشارة إلى صاحبها الأصلي.

وقد طبع هذا الكتاب سنة (1977م) بالهيئة العامة المصرية للكتاب بالقاهرة، وهي طبعة منقحة ومحققة مذيلة بتعليقات هامة للدكتور “محمد يوسف” والدكتور “محمد بسيونى خفاجي”.

كتاب “الأحجار التي توجد في خزائن الملوك وذخائر الرؤساء”: توجد منه نسخة بدار الكتب المصرية، وعدد أوراقها (44) ورقة أولها: “بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ثقتي…”. وقد رتبه على 25 حجرًا؛ تكلم عن كل حجر في خمسة أبواب، منها أوجه تكونها وتكون معدنه وجيده ورديئة وقيمته. طبع قسم منه في الحجارة الكريمة والجواهر في مدينة “أوترخت” على نهر الراين في هولندا سنة (1884م).

كتاب “خواص الأحجار ومنافعها”: توجد منه نسخ مخطوطة بباريس وكلها مبتورة وناقصة. وحسب ما يبدو من عنوانه، فهو يذكر خواص الأحجار سواء الكريمة منها وغيرها وفائدة كل نوع ومنافعه.

 

مؤلفاته في الطب

كتاب “الشفاء في الطب عن المصطفى ”: وقد نهج فيه منهج المحدث الحافظ “أبو نعيم الأصبهاني” في كتابه “الطب النبوي”؛ جمع فيه عددًا كبيرًا من الأحاديث، مما خرجه الإمام “أبو نعيم الأصبهاني” ضمن تصنيف واسع حول التطبيقات الطبية لرسول الله  والصحابة الكرام ، مجردًا من الأسانيد إلا القليل منها.

توجد منه نسخة مخطوطة مصورة في دار الكتب المصرية، منسوخة بقلم “شيخي حسن” من رجال القرن التاسع الهجري، جاء في مقدمته: “بسم الله الرحمن الرحيم، قال العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن يوسف التيفاشي: اللهم يا من لطف حتى دق عن الأوهام والظنون، وجل حتى ظهر في كل حركة وسكون، وتفرد بالوحدانية التي لا تدركه العيون، والتأثر عن خليقته بعلمه المكنون، المشتمل على علم ما كان وما هو كائن وما سيكون، أهدانا لعمل يقرب في دار القرار، واحشرنا في زمرة أوليائك المصطفين الأخيار، ويحول بيننا وبين أهل النار، وصلى الله على نبيك وخليلك محمد المختار ”. ثم يشرع في شرح منهجه في الكتاب، وكيف رتب مواضيعه جريًا على ما كان شائعًا في المؤلفات في عصره وقبله. ويوضح أنه أورد في الكتاب الأحاديث الموجودة في كتَاب الطب من صحيح البخاري، كما أورد أحاديث غريبة بأسانيدها حاول تخريجها وشرحها والكلام عنها من جانب الصناعة الحديثية، ثم يذكر عنوان هذا الكتاب فيقول: “وسميت هذا التخريج بالشفاء في الطب المسند عن المصطفى ”. وقد طبع هذا الكتاب سنة (1988م) بتحقيق “عبد المعطي قلعجي” وصدر عن دار المعرفة ببيروت لبنان في حلة قشيبة.

كتاب “المنقذ من التهلكة في دفع مضار السمائم المهلكة”: من الكتب المفقودة، وقد ذكره التيفاشي ضمن مؤلفاته في خاتمة كتابه “أزهار الأفكار”، حيث جاء في آخر النسخة المحفوظة بمكتبة قصر طوب قابي في إستطنبول/تركيا، يتلوه كتاب “المنقذ من التهلكة”.

 

مؤلفاته في علم الجغرافية

كتاب “سجع الهديل في أخبار النيل”: موسوعة في تاريخ وجغرافية نهر النيل. ويبدو ومما نقله منه السيوطي في كتابه “حسن المحاضرة” والمقريزي في “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، أنه أهم مرجع معروف في ذلك الوقت عن نهر النيل؛ فهو موسوعة اشتملت على وصف حوض النيل وذكر أحواله وفيضانه ومزروعاته وما قيل فيه من أشعار، ومما أورده التيفاشي فيه: “أن الله  لم يسم من أنهار العالم إلا نهر النيل، واستشهد بأقوال المفسرين في تفسير “اليم” بأنه نهر النيل في الآية الكريمة: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾(طه:39)، كما ذكر أن نهر النيل من أنهار الجنة وأورد الحديث الشريف الذي رواه مسلم: “سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ والفراتُ والنيلُ كلٌّ من أنهار الجنة””.

 

مؤلفاته في علم الأرصاد الجوية

“طل الأسحار على الجلنار في الهواء والنار وجميع ما يحدث بين السماء والأرض من الآثار”: وهو جزء من موسوعته “فصل الخطاب في مدارك الحواس”، تناول فيه التيفاشي وصفًا لأحوال الفصول الأربعة وعلاقتها بزيادة مقدار الليل والنهار، ودلائل المطر والاستسقاء ودلائل الصحو ومعرفة الشتاء الذي يطول وهل يتقدم أو يتأخر.

والبرق والرعد والغيم والرباب، وهالة القمر وقوس قزح والاعتدالين والحر والبرد والغيوم والبروق، والرياح والضباب، والأعاصير والزلازل والكسوف والخسوف، وفي النار ذات اللهب وما تعلق بها ونار النفط والصاعقة ونار الفحم والكوانين.

وهذا الكتاب يعتبر أقدم موسوعة وافية في علم الأرصاد الجوية. وقد اختصر الكتاب ونقل منه الكثير من العلماء كابن منظور والقلقشندي والجبرتي والغزولي وغيرهم، وهو في حكم المفقود.

وإن له مؤلفات في التاريخ منها كتابه “في تاريخ الأمم”.

 

مؤلفاته في الشعر

“الديباج الحسرواني في شعر ابن هانئ”: وهو عبارة عن كتاب شرح فيه ديوان الحسن محمد بن هانئ الأزدي الأندلسي (326/363هـ). وركز على شغف ابن هانئ بالغريب والألفاظ الصعبة التي قام التيفاشي بنشرها والتعليق عليها، وأعلن أنه من المعجبين بشعره واعتبره ذا طابع خاص مميز عند أهل المغرب، لا يضاهيه فيه إلا المتنبي عند أهل المشرق.

“درة الآل في عيون الأخبار مستحسن الأشعار”: هذا الكتاب يعتبر من مجاميع الاختيارات الشعرية، حيث ضمنه مجموعة من القصائد والمقطوعات الشعرية. وقد التزم بشرطه في الكتاب، فكان لا يعرض إلا النصوص المختارة السبك والرصف والمعنى.

 

مؤلفاته في الأدب والفنون

كتاب “مشكاة أنوار الخلفاء وعيون أخبار الظرفاء”، وكتاب “متعة الإسماع في علم السماع” في الموسيقى، كتاب “في البديع”؛ حيث جمع فيه سبعين نوعًا من أنواع البديع، وقد ذكر جملة كبيرة من أنواع البديع والألوان البلاغية الواردة في القرآن الكريم وفي خطب العرب وأشعارهم.

في الموسوعات

كتاب “فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب”: موسوعة كبيرة في مختلف العلوم والتاريخ والآداب والقانون واللغة تقع في (40) مجلدًا.

في التفسير

كتاب في تفسير القرآن الكريم: ذكر القلقشندي في “صبح الأعشى” أن للتيفاشي تفسيرًا تغلب عليه القصص. وفي “تاج العروس” للعلامة المحدث اللغوي “مرتضى الزبيدي” استشهاد بقول للتيفاشي أثناء عرضه لمختلف التفاسير والشروح لكلمة: ﴿غَاسِقٍ﴾ من قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾(الفلق:3).

في فنون شتى

“الدرة الفائقة في محاسن الأفارقة”: أهدى المؤلف منه نسخة إلى ابن العديم حين لقيه بالقاهرة، وهو كتاب يتحدث عن فضائل أهل تونس، ودورهم العلمي والثقافي، ويذكر ما اتصفوا به من الفروسية والأخلاق الحسنة.