التوحيد جوهرُ الدين، وقطبُ رحى الإسلام، والمَقْصِد الأسنى لرسالة القرآن؛ ولا يخلو موطن أو موضع في القرآن من تقريره وتوكيده والتنويه به.
والسؤال: لماذا تبوَّأ التوحيدُ هذه المنزلةَ العظيمة الخطيرة في الإسلام؟ لماذا لا يغفر الله أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء؟ وما علاقة التوحيد بحركة الإنسان في الأرض ومعاشه ونشاطه التاريخي، وسائر أحواله وعلاقاته ومؤسساته؟
الجواب عن هذا السؤال ذو شجون، ربما لا يتسع المقامُ لبسطه وتفصيله، ولكن لنقل بإجمال؛ إن التوحيد هو ناموسُ النظام الكوني، ومناطُ الاجتماع الإنساني. ومن جهة أخرى التوحيد هو صمَّام الأمان والإطار الأمثل لتحقيق مفهوم الإنسان الكامل بأبعاده الفردية والاجتماعية والحضارية.
إن المقصد من رسالة التوحيد في الإسلام، حفظُ الإنسان وصونُ حقوقه وممتلكاته، وحرمته وكرامته المعنوية من جميع أشكال الخرق والهَتْكِ والعَسْفِ التي تحصل في الواقع نتيجة لباعثين اثنين هما: الطغيان والاستضعاف.

1- الطغيان: وهو مرَضٌ نفسي يصيب النخبة اغترارًا بسلطة القوة أو سلطة الثروة؛ فتطغى وتعدو قدرها، وتتجاوز طورها الإنساني إلى درجة التألُّه، أي ادعاء ملكية “الأشياء”، وتقرير مصير “الأشخاص”. وقد يكون الطغيان ضربًا من الغرور العقدي، وادعاء القداسة واستغلالها بحيث يتوهم المرء أنه يستطيع أن يُصَنِّف الناس إلى سعداء وأشقياء، ومقبولين ومردودين، ويحكم على مصيرهم، ويَصُكَّ لهم الصّكوك.
وفي صحيح مسلم مرفوعًا أن رجلاً قال واللهِ لا يغفر اللهُ لفلان، وإن اللهَ تعالى قال: “مَنْ هذا الذي يَتَأَلَّى عليَّ ألاَّ أغفرَ لفلان، فإني قد غفرتُ لفلانٍ وأحبطتُ عملَك”. وفي موطأ مالك أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي أن هلمّ إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يقدس الإنسانَ عملُه، وفي التنزيل: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ)(آل عمران:79).
ولقد كان للمعنى التوحيدي الإسلامي أثرٌ عظيمٌ في وقاية هذه الأمة من غائلة الاستبداد الديني، والتظاهر بالقداسة واستغلالها وتسخيرها، ومنع نظام الإكليروس، والإغراءِ بمناقشة مشروعيته ووجوده في الأديان الأخرى.
22- الاستضعاف: وهو كذلك مرضٌ نفسي يصيب السوادَ الأعظم من البشر، فيفقدُها إنسانيتها، ويحيلها إلى قطعانٍ بشرية مدجَّنة لا تستطيع أن تُعبّر عن رأي، ولا تَقدِر على شيء، ولا تشاركُ في تقرير مصيرها ومستقبلها، وإنما حالها كما أخبر سبحانه عن الإنسان غير المُوَحِّد: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(النحل:76).

فالإنسان حين يطغى أو يُذِلّ نَفْسَه أو يُعَرِّضها للصغار والمهانة، فإنه يَلْبِس إيمانَه بظلم، ويناقضُ رُوحَ توحيده ولُبَابَ عَقْده وإيمانه. ولذلك، كان برنامج الإسلام العقدي والثقافي والاجتماعي والسياسي، الالتزامَ بالخط الوسط بين الطغيان والاستضعاف الموسوم بـ”الاستقامة”، وهو عبارة عن خطِّ العدل الذي يُحتِّم على الفريقين معًا -يعني الطغاة والمستضعفين- العَوْدَ إلى طاعة الله والاعتراف له بالخضوع والمِلكية الحقيقية والتصرف.
ومن ثَمّ، عَرَّفوا التوحيد بأنه “لا يستحقُّ الخضوعَ شيءٌ سوى الله”؛ وهو يتجسّد في وعي المكلفين وعقيدتهم، ويتجلّى في أوضاع الأمة الفردية والمجتمعية وتربية ناشئتها وأجيالها، وصياغة نظم حياتها وثقافتها ورموزها وفنونها على عدم الإذعان والانقياد لغير الله تعالى. فكُل مخلوق -عدا النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم- يؤخذ من كلامه ويُرد، وتُناقش أوامره، وتُعْرف وتُنكَر، وتُنتقدُ أفعاله وتصرفاته… بمعنى أن التوحيد هو القطبُ المناقض بالضرورة لثقافة التقديس وثقافة التبعية، والطاعة العمياء التي تُفرزها الإيديولوجيات المختلفة المكرسة لترويض أتباعها على الصّمت والخضوع المطلق.
إنها ثقافة التشريك أو الصّنمية التي تتبدّل أشكالُها ولَبُوساتُها في التجربة الإنسانية التاريخية، ولكن جوهرها واحد يتكرر في المظاهر الثلاثة الآتية:
• سيطرة القوي على الضعيف، وسلبه حريته في الرأي، وحريته في التعبير، وحريته في الحركة والتصرّف.
• سلبه ممتلكاته، والاستئثار بفرص العيش دونه وكذا بموارد الثروة العامة.
• تشكيل وعي الضعفاء وإرادتهم وثقافتهم وإعلامهم وتعليمهم، ليصبح القهرُ والسلبُ والجبر والاستضعافُ جزءًا من عقيدتهم ولغتهم اليومية، وقيمهم الفكرية والاجتماعية.
وبالمقابل، يحقّق التوحيد للإنسان ثلاثة أمور أساسية:
11- نعمة الحرية؛ حرية الإنسان الحقيقية والكاملة في توحيد الله تعالى، حيث لا وسيط بينه وبين الله تعالى، ولا يستطيع أحدٌ أن يحكم عليه أو يقرر مصيره نيابة عن الله، ولا يسوغ لأحد أن يَدَّعي حقَّ السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربّه، أو ينازِعَه في طريق نظره واجتهاده… كما لا يسوغ لأحد أن يسترق إنسانًا أو يستعبده، لأن الشارعَ متشوّف إلى الحرية، وقد عبر عمر رضي الله عنه عن هذا المبدأ الأصيل بقوله: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”.

2- نعمة التسامي؛ وهي وعي الإنسان بإنسانيته الفطرية كما جُبل عليها، مما لا يسمح بأي شكل من أشكال تدجينه أوتسخيره أوتَشييئِه، بمعنى تحويله إلى متاع يُمْلَك… لأن الإنسان في ظل التوحيد يَملِك ولا يُملَك؛ إنه ليس شخصية تسويقية قابلة للتبادل والمقايضة، كما أنه ليس “رقمًا استدلاليًّا” على نحو ما تصطلح عليه المؤسسات المالية، كما أنه ليس “صوتًا انتخابيًّا” يُباع ويُشترى، ولا مسمارًا في آلةٍ… وإنما هو الإنسان المُكرَّم وحسب.
33- نعمة المساواة مع الغير؛ فإن الحرية إنما ينالها المرءُ بعد شعوره بوجوب مساواته مع غيره فيها، وإلا كانت الاستعبادَ الذي نُفِّرَ منه.
فالتوحيد يحقق للمرء المساواة مع غيره في ضرورة تصريف شؤونه ومصالحه، وتقرير مصيره ومستقبله… وهو الذي يُشعره بذاته المستقلة التي تأبى الفناء في الآخرين والانمياع فيهم، ويمنحه القدرة على مراجعتهم ومساءلتهم ومفاوضتهم، وقول “لا” حيث يجب أن تقال.
والخلاصة، إن التوحيد هو القطب الإيجابي المؤتمن على حفظ إنسانية الإنسان من الوقوع أو التورط في مَصَارِع الطغيان أو طبائع الاستضعاف. والإسلام إنما أدار جميعَ أصوله وفروعه على هذا المحور القطْب، وشدَّد على نبذ كل المفاهيم والقيم والأوضاع التشريكية، وعدها ظلمًا عظيمًا وإثمًا مبينًا… لأن خرق سياج التوحيد يفضي إلى مفاسد رهيبة في حياة الإنسان ووجوده وتوازنه، وثقافته ونظرته إلى نفسه وعلاقته بالآخرين.
إن مغزى التكليف التوحيدي، أن تتحقق إنسانية الإنسان على الفطرة التي فطره الله عليها، وأن تنتفي عواملُ الفتنة وعوارض التبديل والتحريف التي تَروم سلبَها أو تشويهها أو إعاقة نموها الطبيعي.
قال الله تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)(الحج:311)، وقال جل شأنه: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)(النساء:48).