ما أعنيه بـ”التوازن” هو الابتناء على المعطيات الصحيحة -في نظري- لتكوين الأفكار. والاتزان لا يعني صواب الفكرة، بل صواب طريقة التفكير، فإن من مفارقات الفكر، أن سلوك طريق واحدة فيه لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة.

وقبل الاستغراق في هذا المعنى، يحسن أن أبدأ في ذكر مفهومين للفكر؛ فإننا حين نستعرض كشافات الاصطلاحات العلمية القديمة، نجد الناس بين عالِم ومتعلِّم وجاهل، وربما وُجد في بعض الأوساط مصطلح المتكلم والفيلسوف. وفي العصر الحديث وُجد مصطلحان ليس لهما وجود -حسب علمي- في تراثنا القديم، وهما الثقافة والفكر، ويأتي منهما المثقف والمفكر، ويحار الناس كثيرًا في تحديد معناهما، ومن ثم يحارون في مواضع إطلاقهما.

وحديثنا عن الفكر خاصة، فالذي يظهر لي، أن أكثر مَن يتعاطى هذا المصطلح في ثقافتنا العربية المعاصرة، يريدون به “التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما، من حيث كنهه، وعوامل تكوينه، ومآلاته، وطرق تحسينه، وعلاج آفاته”، وتقييد التصور بالإجمالي والتفصيلي ليشمل الإدراك بنوعَيه عند المَناطقة الذين يقسمون الإدراك إلى تصور وهو الإدراك المتجرد عن الحكم، وتصديق وهو الإدراك المتضمن للحكم.

والواقع، يشمل الواقع الديني، والسياسي، والاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي لمجتمع ما، فكلّ تصور لهذا الواقع في أي جزئية من جزئياته يعدّ فكرًا، ولهذا يمكن القول إن الفكر بهذا المفهوم مشاع بين الناس. فكل إنسان لديه تصور لما يحيط به مما ذكرنا، لكن الناس يختلفون في مكانة تصوراتهم باختلاف درجاتهم، من حيث حصولهم على المعلومة، ونوعية تعلّمهم، وبصيرتهم إلى غير ذلك من الفروق الفردية بينهم.

وهذا الفهم لمعنى الفكر يتوافق إلى حد كبير ومفهومَ علماء النفس الاجتماعي للرأي العام. وعليه يمكن القول إن الفكر يساوي في كثير من مظاهره، ما يسميه علماء النفس الاجتماعي وخبراء الإعلام بـ”الرأي العام”. وإن كان ثمة فرق بين الأمرين، فهو أن الرأي العام قد يتضمن قضية تفرض على المجتمع إعلاميًّا أو سياسيًّا، وليست في الحقيقة من صميم اهتماماته، وربما لا تكون ضمن الأمور المؤثرة في حياته العادية. لكن وسائل الإعلام قد يكون لها مصلحة في فرضها على المجتمع، وهذا ما يحاول قادة الفكر دائمًا النأي بالمجتمع عنه، وذلك كي لا تكون بانفعالات الأمة خادمة لأصحاب المصالح الخاصة.

وثمة فرق آخر بين الرأي العام والفكر، وهو أن الأخير يُراد به تصورات نخبة معينة من المثقفين، أما الرأي العام، فالكل يشارك في تكوينه، وهذا الفرق قد لا يكون دقيقًا، بل قد يكون غير مسلَّم به، لأنه يحتاج إلى ضبط المراد بهؤلاء النخبة التي تستحق أن تستأثر بتسمية إنتاجها الذهني فكرًا، مع أن البشر -بشكلٍ عام- لديهم نزعة فطرية نحو الحق؛ بمعنى أن الجميع يريد الحق فيما يعرض له من قضايا، ولا فرق في ذلك بين النخبة وغيرهم، بل قد تكون النخبة أقل ميلاً إلى الحق من عامة الناس، باعتبار أنهم أكثر تعرّضًا للهوى الفكري والانتماء المدرسي من غيرهم. أما من سواهم، فإن لديهم تسليمًا لا شعوريًّا، بأنهم لا يمتلكون أدوات معرفة الحق في القضايا المتعلقة بالتصورات التفصيلية للواقع، ومن ثم الحكم من خلالها، وذلك لأن مصدر المعرفة المتفق عليه، هو الحس أو ما يقوم مقامه. فلما كان الحس متعذّرًا في الغالبية الساحقة من قضايا الحياة العامة إلا على أناس محدودين جدًّا، فإن الغالبية الساحقة يعطون ثقتهم لمن يتصورون أنه قد وصل إلى المعلومة بطريق الحس أو بأقرب الطرق إلى الحس، وأن هذا الموثوق صادق معه إما لملازمته لصفة الصدق، أو لأنه صاحب مصلحة في الصدق، ولعل قول الله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(يوسف:21) يصدِّق هذه الفكرة، فالناس بشكل عام ليس لديهم أدوات العلم -بمعنى القطع والتحقق- مما يسعون إلى التحقق منه.

ولهذا نجد أن إقبال الناس على القيادات الفكرية إقبالاً طبعيًّا، لا يحتاجون إلى مَن يدلهم عليه، بل ربما صح القول بأنه فطرة. فالناس إذا لم يجدوا أمامهم مؤهلاً لقيادتهم فكريًّا، صنعوا لهم قائدًا على مواصفاتهم الخاصة، ولعل هذا هو معنى قول الرسول – صلى الله عليه وسلّم -: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكنْ يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْق عالمًا اتخذ الناسُ رؤوسًا جهّالاً، فسئلوا فأَفتَوا بغير علمٍ فضلّوا وأضلّوا” (رواه البخاري).

ولك أن تتأمل في قوله – صلى الله عليه وسلّم -: “اتخذ الناس”؛ فالناس إذا لم يكن المؤهل لقيادتهم فكريًّا أمامهم، اتخذوا من تلقاء أنفسهم قائدًا فكريًّا ولو لم يكن مؤهلاً. والناس يعرفون الموهوب والذكي، ومَن يملك القدرات الثقافية والخطابية التي تمكّنه من التأثير وجذب الأتباع، لكن ليس كل مَن يستطيع تكوين قاعدة جماهيرية بهذه الصفات هو الأمثل حتمًا لقيادة الأمة فكريًّا.

آليات التوازن الفكري

وأعود هنا للحديث عن قولي السابق: ومن مفارقات الفكر أن سلوك طريق واحدة فيه -ولو كانت صحيحة- لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة، وهي مشكلة فلسفية قديمة أدت بكثير من الفلاسفة إلى القول بتعدد الحق، نظرًا لعجزهم عن تفسير اختلاف الآراء في القضية الواحدة مع اتحاد منهج البحث فيها.

وهم يعنون بالحق المتعدد؛ تلك النتائج المختلفة التي يصل إليها المفكرون عند استخدامهم الآلة الصحيحة لبلوغ الحق، وهي التي يسميها علماء أصول الفقه “أدوات الاجتهاد”، والتي بَنوا عليها قضيتهم الشهيرة: هل كل مجتهد مصيب؟ أم المصيب واحد وغيره معذور؟ حيث لا يعنون بالمصيب والمعذور مَن يتسوَّرون على المسائل ويعطون فيها أحكامًا دون أن يكون طريقهم لذلك الآلة الصحيحة للاجتهاد.

ورأي الأصوليين وإن كان سياقهم له في قضيايا الفروع الفقهية التي يسوّغ فيها الاجتهاد، إلا أن القاعدة صحيحة يمكن أن تنقل إلى جميع فروع الفكر الذي قدّمتُ تعريفه بأنه التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما، من حيث كنهُه، وعوامل تكوينه، ومآلاته، وطرق تحسينه، وعلاج آفاته.

وعندما قسّم العلماء الإدراك إلى تصور وتصديق، فإنهم أردوا بذلك أن مَن لا يملك التصورات الصحيحة لا يمكن أن يصل إلى التصديقات الصائبة، وامتلاك التصورات الصحيحة هي في الحقيقة أدوات الاجتهاد في مسألة من مسائل الفكر.

وأخلُص من هذا إلى أن أول مقوِّم من مقومات التوازن الفكري، هو امتلاك التصورات الصحيحة عن كل قضية يُراد الحكم عليها سلبًا أو إيجابًا. والتصور إما أن يكون تصورًا أوليًّا ساذجًا كتصور الصور من جبال وأنهار وصحارى، أو تصورًا معقدًا وهو تصور المعاني كالحق والصدق والصواب والخطأ، وتصور المغيَّبات كالجن والملائكة، وكل صنفٍ من هذه التصورات يحتاج إلى جهد لامتلاكِه يختلف عن الجهد المراد للصنف الآخر. فحين أتصور الناقة لا أحتاج إلى مجهود ذهني كبير، لأنه بمجرد طروء الاسم على الخاطر، تنتج صورة مطابقة لوجود مثيلاتها في الذاكرة. أما حين أتصور حيوان الباندا، فأحتاج إلى مجهود ذهني أكبر لعدم وجود رصيد مطابق في الذاكرة، وربما لا أصِل إلى الصورة الصحيحة، وأحتاج في الوصول إليها إلى البحث عن صور مطابقة، ومع ذلك فإن المجهود الذي يبذله الذهن في تصور الباندا، أقل بكثير من المجهود الذي يبذله لتصور الروح والملائكة والحق والخطأ والصواب.

تأتي مشكلة التوازن الفكري حين يتعامل الذهن مع التصورات المعقدة بالطريقة نفسها التي يتعامل بها مع التصورات الساذجة، فيبذل في كليهما مجهودًا ذهنيًّا متساويًا، عند ذلك ستكون تصوراته في الأمور المركبة تصورات ساذجة.

إذن فالحصول على تصورات صحيحة هي أولى معطيات التوازن الفكري، لأن التصورات هي مفردات التفكير كما أن الحروف هي مفردات اللغة. وربما أن التعبير لا يمكن أن يكون صحيحًا بغير حروفه الموضوعة له، فالفكر لا يمكن أن يكون مستقيمًا دون تصورات صحيحة. والحصول على التصور الصحيح هو مسؤولية المفكر نفسه، وأيضًا مسؤولية المستهلك نفسه، والقيام بها -المسؤولية المنوطة- يحتاج إلى جهد يتوانى الكثير ممن يمارسون الكتابة في القضايا الفكرية عن تحصيله. وكذلك المستهلكون للفكر، فلم يعدْ لديهم الجَلَد حتى على تحليل الأفكار إلى تصوراتها الأولية لفحصها. فجمع التصورات عند كثير من الكتاب أو فحصها عند نسبة أكبر من المستهلكين، يتم بطريقة متقاربة في كل القضايا التي يتطرقون إليها.

بعد جمع التصورات، تأتي مرحلة إحداث النسبة بينها لتكوين ما يسميه المناطقة بـ”التصديق” وهو -كما قدمت- الإدراك المتضمن للحكم. فالتصديق هو نسبة التصورات إلى بعضها؛ فبعد أن أتصور القطب الشمالي، وأتصور معنى التجمد، وأتصور معنى تمركز الشمس وانحرافها، أحكم على القطب الشمالي بأنه متجمد. فقولنا: القطب متجمد، تصديق مبنيّ على عدد من التصورات أدت النسبة الصحيحة لبعض إلى البعض الآخر إلى هذه النتيجة.

والأفكار الكلية أو الجزئية هي مجموعة من التصديقات، يجري العقل النسبة بينها لتكون الفكرة. وبذلك يمكن مناقشة كل فكرة من خلال نقد التصورات الأولية التي بنيت عليها، أو نقد أي من التصديقات المؤسسة لها، أو نقد النسبة بين التصديقات المكوّنة لها.

وكلما كانت التصورات ناشئة من مصادر صحيحة للتصور، كانت أكثر مناعة عند النقد. وكذلك النسبة بينها أو النسبة بين التصديقات تعتمد مناعتها على مدى صحة نسبة بعضها إلى بعض، أو ترتب بعضها على بعض.

مصادر التصورات

1-الحس: مصدر مقر من مصادر التصور، والتصورات الناشئة عن الحس هي أقوى التصورات على الإطلاق، ولذلك كان استخدام القرآن الكريم للتصورات الحسية كثيرًا -كمقدمات صغرى وكبرى- للوصول إلى نتائج عقلية كما في قوله تعالى: (أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(الغاشية:17-20)؛ فالإبل وخلقها، والسماء ورفعها، والجبال ونصبها، والأرض وتسطيحها، كلها تصورات مصدرها الحس، ولم يمنع ذلك أن تكون النسبة العقلية بينها طريقًا للوصول إلى نتيجة غيبية.

إلا أن الحس يبقى عاجزًا عن رصد كثير من التصورات التي يحتاج الإنسان إلى الحكم عليها لحياته العامة الاجتماعية، أو لتسيير حركته العلمية، أو البرهنة على قناعاته الدينية. وهذا العجز حاول القدماء التخلص منه بطرق منها؛ اعتبار التواتر المعنوي قائمًا مقام الحس كتصور المدن النائية، أو الشخوص التاريخية القديمة، وهو حل لم ينكره القرآن بل أقره، وذلك في مثل قوله تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)(العنكبوت:38).

فالأمم السابقة -كعاد وثمود- كانت معروفة عند العرب بطريق التواتر المعنوي، وأقر الله هذه المعرفة وبنى سبحانه وتعالى خطابه عليها: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ)(السجدة:26).

2-الفطرة: وهي وإن كانت التصورات المنبعثة عنها أقل بكثير مما ينتج عن المصادر الأخرى، إلا أنها تدل على أعظم مدلول وهو الله، كما تدل على نسبة الخلق إليه – جلّ جلاله – ونفي الشريك عنه، فهي تدل على الله تعالى تصورًا وتصديقًا، وهذا مدلول قوله – سبحانه وتعالى -: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)(الأعراف:172). أما ما سوى ذلك من مدلولات، فمن الفلاسفة المثبتين للفطرة مَن يثتبها، ومنهم مَن ينكرها.

3-الوحي: وهو مصدر يكاد يكون وحيدًا لتصورات مفردات عالم الغيب، كالملائكة، والجن والشياطين، والجنة، والنار، والحوض، والصراط، ونعيم القبر وعذابه، وبذلك يكون مصدرًا وحيدًا أيضًا لما يتعلق بها من تصديقات. وهو أيضًا مصدر وحيد لتصور مفردات الدين، كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وهو أيضًا مصدر وحيد للتصديقات الناشئة عن نسبتها إلى بعضها.

4-خبر الموثوق: وهو مصدر صحيح للتصورات، شريطة أن يكون الموثوق منطلقًا في نقله عن أحد مصادر التصور الصحيحة المتقدمة.

ومن الطبيعي أن نسأل عن القعل؛ أليس هو أيضًا مصدرًا من مصادر التصورات؟ والجواب؛ قد يتبادر إلى الذهن أن التصور هو عملية عقلية صرفة، وهذا حق، لكن التصورات موجودة في الخارج، والتعرف عليها يتم بالطرق الأربع المتقدمة، وليس للعقل قدرة على استحداث تصورات من تلقاء نفسه، وإنما هو ذاكرة لتلك التصورات التي يتعرف عليها العقل بطريق الحس، أو الوحي، أو الخبر المتواتر، أو خبر الموثوق.

نعم، إن بمقدوره تكوين الصورة بطريق التذكر، أو بطريق التركيب، أو بطريق الانتزاع والتخيل. بل إن العقل هو الوسيلة الأولى للربط بين المتصورات لإحداث النسبة التي ينتج عنها التصديق، كما أنه الفاعل الأقوى أيضًا في الربط بين التصديقات للحصول على الفكرة أو مجموعة الأفكار.

كل ذلك صحيح، لكنه لا يعني أنه مصدر من مصادر التصور، بل هو الآلة الوحيدة لحفظها والتحكم فيها.

ومن أسباب الاضطراب الفكري اعتبار العقل مصدرًا للتصورات، فإننا نجد أن هناك فئة تقيم تصديقاتها على تصوراتٍ مصدرها العقل، والحقيقة أن كل تصور مصدره العقل، ليس له وجود خارجي حقيقي، فهو إما متخيل وإما موهوم. وبما أن التصديقات -ومن ثم الأفكار- تعد التصورات هي لبناتها، فإن كل تصديق مبني على تصور موهوم أو متخيل لا يمكن أن ينتج عنها أفكار متزنة.

(*) أستاذ في أصول الفقه، جامعة أم القرى / المملكة العربية السعودية.