التوازن العجيب في جسم الإنسان

نُدْرك من البَيان المُعْجِز للقرآن الكريم الذي يُعلن أنه خلق كل الأحياء من الماء، مدى أهمية الماء للحياة ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبياء: 30). وكذلك فإن 60% من أجسامنا تقريباً ماء. عندما نعلم أن كل الأحداث الحيوية والكيميائية والفسيولوجية التي في جسمنا تجري في وسط مائي، وعندما نرى تعطل وفساد ردود الأفعال في الخلايا ما لم يكن هناك ماء… إذا ما أدركنا ذلك، فهمنا حكمة البيان الإلهيّ؛ لو فرضنا أن الشخص البالغ يزن 70 كيلو جراماً، فإن مجموع الماء الموجود في جسمه يبلغ 42 لتراً تقريباً؛ منها 28 لتراً داخل الخلايا، وأما الـ 14 لتراً فموجودة خارج الخلايا. إن جسم الإنسان البالغ يحتوي على 100 تريليون خلية تقريباً. وجميع هذه الخلايا محاطة من جميع جوانبها بوسط سائل، وأطراف كل هذه الخلايا التي تبدو وكأنها ملتصقة ببعضها البعض في الأنسجة مُحَاطة بسائل رقيق جدّاً. وإن محتويات هذه السوائل الداخلية هي نفسها في كل أطراف البدن. بمعنى أن كثافة المواد الموجودة داخل هذه السوائل من فتيامين وأوكسجين أو جليكوز أو غيرها من المواد هي الكثافة نفسها سواء أكانت هذه السوائل تحيط بخلايا الكبد أو خلايا المخ. وربما يخطر على البال في الوهلة الأولى أن سائل الدم والمخ والنخاع الشوكي، والسوائل الموجودة في فراغات الأمعاء والمعدة وإفرازات كيس الصفراء وغيرها تقوم بتغيير الوضع الداخلي لهذه السوائل؛ ولكن كل هذه السوائل الموجودة خارج الخلايا قد خُلِقت من أجل أداء وظائف ومهام معينة في الأعضاء التي ترتبط بها. لذا فإن تركيب الوسط الموجود داخل الخلايا متجانس ويمتلك الخاصية نفسها. وينطبق هذا على كل الخلايا. ومن أجل استمرار حياة الخلايا في هذا الوسط، توجد كميات معينة من الأوكسجين والمواد الغذائية والأيونات والفيتامينات والهرمونات.. الخ.

إن كثافة المواد الأخرى التي بداخل الماء الذي يُشكل المادة الأساسية للوسط الداخلي للسوائل (مثل الأملاح والجلوكوز) وثبات تلك الكثافة من ناحية الظروف الفيزيائية الموجودة في هذا الوسط أو استمرار وضع السكون، يُطلق عليه عملية الاتزان البدني، أي الاتزان بين عناصر الكائن الحي المختلفة. ولكن لا يمكن أن نقيس حال ذلك السكون بالأوضاع الثابتة والتي لا تتغير قط للموجودات الجامدة أي الجمادات. إن حالة السكون أو الاستقرار الموجودة في الأحياء هو سكون أو استقرار ديناميكي ووضع يتغير داخل حدود معيَّنة في كل آن. إن أي نقص أو زيادة في المقادير الصغيرة التي تدور حول المعدَّل الذي يمكن أن نُسميه عاديّا أو في المتوسط لا بد من استمراره في حالة مثالية بالمراقبة المستمرة في كل آن للمعدَّلات الواجب مراعاتها واتخاذها كأساس. ومن هذا المنطلق فإن هذا الاتزان البَدَني مهم جدّاً، لأن بقاءنا أحياءً مرتبط باستمرار هذا التوازن حول المعدَّلات الثابتة المحدَّدَة. وعند اختلال التوازن الديناميكي الحساس هذا في الوسط الداخلي لأسباب شتى، وإذا ما زادت كثافة المادة الموجودة في المحيط الداخلي أيضاً، فإن ذلك يُسَبِّب المرض. فمثلاً؛ عند زيادة كثافة الأوكسجين الذي يُعد غاز الحياة، عن الحد المعتاد، فإن الخلايا تموت بالتسمم الأوكسجيني. أما على العكس من ذلك، لو انخفض عن المقدار اللازم توافره، فلا يمكن إنتاج طاقة من الأغذية، وتموت الخلايا أيضاً. ومن ثم فإن اختلال التوازن البدني، يمكن أن يكون سبباً في ظهور أمراض تنتهي بالموت.

إن كل الخلايا والأَنْسجة والأعضاء والأنظمة، تعمل من أجل استمرارية التوازن والاتزان بين العناصر المختلفة للكائن الحي. وليس هناك أي عضو قط، يدور في فلك العمل الطبيعي، يمكن أن يثور على الأسس والقواعد التابع لها منذ خلقه، ويسعى إلى إفساد التوازن والاتزان البدني. ولو أوكل إلينا ضبط عيار الوسط الداخلي لخلايانا لتحولت الحياة إلى شيء لا يطاق، حيث يتوجب علينا احتساب كل ما نأكله أو نشربه من مواد حتى أصغر وأدقّ مقاديرها، وإرسال كل ذرة منها إلى مكانها المناسب، ولو حدث أي خطأ -مهما كان صغيراً في التوزيع أو أخطاء مليجرامية في المقادير- لسوف يكون ذلك سبباً لإنهاء حياتنا. ولكن دون أن ندري تحفظ هذه التوازنات وتُسَيَّر بدون أي تعويق في كل الخلايا والأنسجة.

إن الأغذية الطبيعية تساعد على استمرار التوازن البدني، بينما التي فقدت خواصها الطبيعية بالتصفية أو بتعريضها لعمليات مختلفة أو الكحوليات أو السجائر أو الإفراط في الأكل، هذه كلها يفسد التوازن بين عناصر الكائن الحي. وينبغي تشغيل ثلاث آليات بشكل جيد للحفاظ على هذا التوازن.

  • التجانس الداخلي

إن تأمين التجانس في الوسط الداخلي أمر واجب. فمثلاً عندما نطبخ طبقاً من الشوربة فما لم يتم التقليب فلن يكون هناك تجانس؛ فيحترق أسفلها ويتجمع الماء أعلاها، والدهن في ناحية، والدقيق في ناحية مكوناً تكوُّرات من العجين. مثل هذا تماماً، فمن أجل تأمين التجانس داخل الوسط الداخلي للخلية يلزم استمرارية التقليب. ومن أجل تشغيل هذا التقليب واستمراره فقد تم تكليف نظام القلب والشرايين بذلك. وإن هناك أخذًا وعطاء مستمراً فيما بين السائل النسيجي الموجود فيما بين الخلايا والشعيرات الشريانية التي هي وسيلة لحمل كل أنواع الأغذية والمياه والأملاح المعدنية والأوكسجين والسائل الدموي. إن هذا الأخذ والعطاء التبادلي في الشعيرات الشريانية يتم بسرعة مذهلة، حتى إن ذرّات المياه خلال فترة مرورها من الشعيرات الشريانية تدخل وتخرج ثمانين مرة إلى الخلايا الموجودة في أي نسيج.

2- تخزين المواد الغذائية الزائدة

إن الأوكسجين والمواد الغذائية الموجودة في الوسط الخارجي للخلية، تُستخدم بصفة مستمرة من قِبل الخلايا. وفي النهاية لكي لا يحدث نقص أو تقليل في مقدار هذه المواد، فيجب تأمين الأوكسجين والغذاء بصفة مستمرة للوسط السائل خارج الخلية. ولمّا كانت كل الخلايا تحت السيطرة المستمرة لدوام هذا التشغيل، ففي حالة حدوث أي خلل أو نقص، فيتم أولاً إعلام النظام وإخباره. وفيما بعد تصدر الأوامر إلى الأعضاء المختصة مثل المعدة والأمعاء والرئة للتحرك الفوري، ويتم تأمين القيام بعملية دفع الغذاء والأوكسجين اللازم. ولعدم الإخلال أو إفساد الاتزان بين العناصر المختلفة في الكائن الحي يتم إعطاء الأوكسجين اللازم للوسط الخارجي للخلية بالتشغيل المستمر للرئتين، وتُكلَّف الأمعاء أيضاً بتقديم المادة الغذائية للوسط الداخلي. ومن هذا المنطلق فقد تم تحميل الكبد بمهام ومسؤوليات مهمة جداً. ففي خلال فترات الشبَع يتم تخزين المواد الغذائية الزائدة الكمية في الكبد، وهكذا لا يُسمح بإخلال الاتزان البدني، وتُرفع المواد الغذائية في الدم إلى حالتها القصوى. بالإضافة إلى ذلك فإن المواد الغذائية التي تم تخزينها في الكبد عند الشبَع تُقَدَّم إلى الدم كنوع من السيطَرة في حالات الجوع، ولا يُسمح قط بانخفاضه إلى ما دون المقدار المحدد.

3- طرح الفضلات

إن من أهم وظائف الخلايا ومسؤولياتها، -بعد أن يتم استنـزاف المواد الغذائية- هو إرسال ثاني أكسيد الكربون والمواد الغذائية الزائدة الأخرى إلى الوسط السائل خارج الخلية. فكما أننا لا نستطيع استخدام المدفئة التي نُشْعِلها بالخشب أو الفحم في منازلنا إذا لم نتخلص من أتربتها، فإننا كذلك، إذا لم نتخلص من المواد الزائدة الموجودة في خلايانا، فإنها ستتراكم، وتكون سبباً رئيساً في الإخلال بالاتزان بين العناصر المختلفة في أبداننا. فمثلاً لو تراكم البول الذي هو إخراج نيتروجيني، لظهر الخلل الذي يُسمّى “مرض تَبَولُن الدم”. والرئتان في الكائنات الحيَّة تقومان بوظائف إخراج نفس الغاز النيتروجيني بصفة مستمرة، ذلك الغاز الذي يخرجه جسمنا بشكل يُشبه إخراج ثاني أكسيد الكربون من مَدْخنة مدفئتنا، وهكذا.. فبينما يتم إخراج قسم كبير من المواد الزائدة من الجسم بواسطة الكلَى، فإن القسم الأقل يتم إخراجه إلى خارج الجسم عن طريق المصارين بعد أن تمر ببعض العمليات التي تقوم بها الكبد.

نظام التغذية المرتجعة السالبة

من أجل الحفاظ على الاتزان بين عناصر الكائن الحي المختلفة، فإن هناك آلية مهمة جدّاً قد استقرت في جسمنا، ألا وهي نظام التغذية المرتجعة السالبة. هذه الآلية يمكن تَشْبيهها بعمل الترموستات في أجهزة التكييف؛ فعند انخفاض حرارة غُرفتنا عن المستوى المطلوب، فإن النظام الآلي يُعيد تشغيل المكيف ويبدأ في تدفئة غرفتنا من جديد. وعلى نفس المنوال لو حدث أي خلل في عيار مقدار أي مادة موجودة في الوسط الداخلي لخلايانا، فإنه يتم تصحيح الخلل بنظام خارق للعادة. فإذا تم تجاوز الحد الأعلى لأي مادة في الوسط الداخلي لجسمنا، فعَلى الفور يتم تنبيه نظام آخر يعمل في محتوى عكسي، ويتم البدء في التشغيل آلياً بهدف إزالة هذا المقدار الزائد. فلو زاد السكّر في البيئة الخارجية للخلية، فإن هذه الزيادة في السكر، تكون هي الوسيلة لتحفيز غدة البنكرياس لإفراز هرمون الإنسولين اللازم، وذلك للحيلولة دون ارتفاع السكر بزيادة دخول السكر للخلايا. في هذا الوضع يظهر الامتلاء عند الشبع، والامتلاء يزيد إفراز الإنسولين. لهذا السبب يُطلق على الإنسولين “هرمون الشبَع”. وإذا لم يعمل هذا النظام، عند ارتفاع السكر، ولم يُفْرَز الإنسولين، يرتفع السكر، ويظهر مرض السكري. أما في حالة الجوع فإن سكر الدم ينخفض، ويكون ذلك سبباً في إفراز هرمون “الجلوكاجون”. وبهذا الهرمون تتم الحيلولة دون انخفاض السكر. وذلك بتأمين تقديم السكر إلى الوسط الخارجي للخلية من مخازن السكر، وفي مقدمتها الكبد. وفي الوسط السائل خارج الخلية، فإن السكر الزائد كما أنه يفتح الطريق أمام الوفاة كنتيجة مباشرة لإغماءة السكر فإن انخفاض السكر، يفتح الطريق أمام إغماءة السكر المنخفض، ويمكن أن يكون سبباً لموت المريض. كما هو واضح، فإن آلية التغذية المرتجعة السالبة تلعب دوراً مهما في تأمين الاتزان البدني بين عناصر الكائن الحي.

من أجل حماية الاتزان البدني، أي الموازنة الداخلية الحساسة في البدن الإنساني فهناك حاجة ماسة لحماية تنظيم وتثبيت الغازات الموجودة في الجو لتتناسب معنا. فمثلاً، لكي نحتفظ بنسبة الأوكسجين الموجود في الوسط الداخلي بشكل ثابت، يجب أيضاً الحفاظ على نسبة الأوكسجين الموجود في المناخ ثابتة أيضاً. هذا النظام الحساس يُشير إلى سلطة واسعة جدّاً. سلطة حاكمة ومسيطرة بحيث تستطيع أن تتحكم في كل الذرات والجزيئات الموجودة في جسم الإنسان لتأمين الاتـزان البدني بين كل عناصر الكائن الحي من ناحية، ومن ناحية أخرى تُؤمن السيطرة على التفاعلات الذرية الجارية في الشمس والتي توفر توهجها واشتعالها ملايين الأعوام. إذن فإن الخالق جل جلاله الذي خلق كل هذه الموجودات، لا بد وأنه حاكم ومسيطر على الشمس وعلى الكائنات الحيَّة بل وعلى الخلايا الموجودة في تلك الكائنات من ناحية، ومن ناحية أخرى حاكم ومسيطر على الجزيئات والذرات الكائنة داخل تلك الخلايا أيضاً. ولا يمكن القبول أبدًا أن تكون هذه العمليات الخارقة والحساسة والمتوازنة تحدث مصادفة أو بشكل تلقائي.

إن المصادفات يمكن أن تتولد عنها بالكاد مصادمات ومفاسد واختلالات. ومن أجل تأمين هذه الموازنة الحساسة فيشترط أن تكون كل الجزيئات والذرات التي تدور في المحيط الداخلي تحت أمر من يقول للشيء ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82).

______________

الترجمة عن التركية: أ.د. الصفصافي أحمد القطوري.