جاء الإسلام ليؤكد أهميةَ الحفاظ على النفس البشرية، دون النظر إلى اختلاف الدين والثقافة والعُرْف واللون والنوع؛ لكونها تنحدر من أصل واحد وهو آدم عليه السلام أبو البشرية، قال صلى الله عليه وسلم: “كلكم لآدم وآدم من تراب” (رواه أبو داود). إن التنوع البشري والاختلاف الديني هو سنة من السنن الإلهية على هذه الأرض، لذا فالدعوة إلى الحفاظ على النفس الإنسانية، يعني الدعوة إلى السنن الإلهية والقواعد الربانية التي تجري على الخلق برمته.
ولقد حث الإسلام على تنظيم هذا التنوع، وسن التشريعات والقوانين التي تحافظ على هذا الاختلاف وتعززه، ليس فقط على مستوى الاختلاف العام (اختلاف الدين)، بل على المستوى الخاص داخل الشريعة الإسلامية؛ فأحكام المرأة التي تملأ كتب الفقه -مثلاً- راعت طبيعتها ونوعها وفطرتها التي خلقها الله عليها. ومن ثم فالإيمان بالتعددية الدينية والاختلافات البشرية داخل الشريعة الإسلامية، هو إيمان بشمولية الدين الإسلامي ومدى فاعليته وقدرته على استعياب الآخر أيًّا كان جنسه ولونه وعرقه.
ولو نظرنا إلى التشريع الإسلامي، سواء في عهده التشريعي الأول، أو في عهد الفقهاء ومدوّني المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية، فسنجد أن العلماء قد انتبهوا لمثل هذه الأمور وحرصوا على استنباط الأحكام والفتاوى الفقهيه التي تحافظ على هذا التنوع وتعزز هذا الاختلاف، خاصة ما يتعلق بحقوق غير المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
البر بغير المسلمين
الإسلام دين عالمي يشمل برسالته البشرية كلها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم وترسي دعائم السلام وترسخها في الأرض، وتدعو إلى التعايش المشترك في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس بغض النظر عن أجناسهم ومعتقداتهم، وبالتالي تدعو المسلمين إلى برّ غير المسلمين انطلاقًا من الوصية الإلهية: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الممتحنة:8)؛ فالبر -وهو كثرة الإحسان- أعلى مرتبة من القسط -وهو العدل- فالله عز وجل جاء باسمٍ من أسمائه لا يُستخدم إلا في أعظم صور التعامل وأرقاها، فهو يُستخدم في وصف صورة التعامل بين الأبناء وآبائهم وأمهاتهم، وكأن الله تعالى يقول: “لا تتعاملوا مع غير المسلمين فقط بالعدل والقسط، بل تعاملوا بما هو أعظم من ذلك وهو البر، الذي يتضمن الإحسان وحسن الخلُق الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن البر فقال: “هو حسن الخلُق” (رواه مسلم). ومن حسن الخلُق الذي أكد عليه الفقهاء في كتبهم، السلام على أهل الكتاب، فقد جاء في الاختيار في الفقه الحنفي على سبيل المثال: “لا بأس برد السلام على أهل الذمة، لأن الامتناع عنه يؤذيهم والرد إحسان، وإيذاؤهم مكروه والإحسان بهم مندوب”(1). بل إن من تمام الإحسان الذي أكد عليه الفقهاء، هو زيارتهم عند المرض، ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، وتبادل الهدايا والابتسامات.. وأن يكون الشعار المرفوع دائمًا هو الألفة والإحسان بين جميع الناس، لينشأ مجتمع يسوده الهدوء والأمان والسكينة. لذا فقد أجاز العلماء أن يوكِّل المسلمُ أو المسلمة غير المسلم في عقد النكاح؛ لأن الشرط لصحة الوكالة أن يكون الموكّل ممن يملك فعل مثل ما وكِّل به، وأن يكون الوكيل مالكًا لمحل الوكالة، وهذا متوفر في غير المسلمين فجاز لهم هذا الأمر.

الإيمان بالتعددية الدينية والاختلافات البشرية داخل الشريعة الإسلامية، هو إيمان بشمولية الدين الإسلامي ومدى فاعليته وقدرته على استعياب الآخر أيًّا كان جنسه ولونه وعرقه.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسى أسس ومعالم العيش المشترك من خلال دستور المدينة، وهذا الدستور كان مثالاً حيًّا لقوله تعالى: (أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)، وهو أول دستور للدولة المدنية في العالم، حافظ فيه النبي  على التنوع، ورسم فيه حدود العلاقات البينية بين أفراد المجتمع بغض النظر عن دينهم وأعراقهم.. كما أزال هذا الدستور كل أشكال التمييز ورفْض الآخر ونبذه وإقصائه.. فكان بمثاية جسر للتواصل بين الناس جميعًا من خلال احترام عقائدهم، وعدم كرههم ومعاملتهم من منطلقات عقائدهم أو ما يؤمنون به، بل من خلال الفطرة الإنسانية والتوصية الربانية.
المحافظة على الأموال والأعراض
إن الشريعة الإسلامية جاءت للمحافظة على الضرورات الخمس التي أجمعت كل الملل والأمم على وجوب المحافظة عليها، ولا تكتمل عبادة المسلم إلا إذا حافظ على تلك الضرورات، وهي الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.
فالأصل في الدماء أنها معصومة، والأصل في النفوس أنها محفوظة مكرمة، وقد نص القرآن الكريم على أن قتل نفس بريئة واحدة كقتل الناس جميعًا، وأن إحياءها كإحياء الناس جميعًا، قال تعالى: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)(المائدة:32).
وحرم فقهاء المذاهب بشكل عام التعدي على غير المسلم، أو إباحة دمه، أو سلبه ماله أو التعدي على عرضه، واعتبروا هذا جريمة كبرى يستحق فاعلها العقاب والجزاء، ولذا ذهب فقهاء الحنفية إلى قتل المسلم إذا قتل غير مسلم قصاصًا، وما هذا إلا حفاظًا على النفس البشرية وحمايتها، وحقنًا للدماء وعدم استغلال الأديان من أجل إراقة الدماء وسلب الحقوق.
وأما مالهم فلا يجوز التعدي عليه أو إتلافه أو سرقته.. هكذا نص الإمام السرخسي: “وأكره للمسلم المستأمن إليهم في دينه أن يغدر بهم؛ لأن الغدر حرام.. فإن غدر بهم وأخذ مالهم وأخرجه إلى دار الإسلام، كره للمسلم شراءه منه إذا علم ذلك، لأنه حصله بكسب خبيث، وفي الشراء منه إغراء له على مثل هذا السبب، وهو مكروه للمسلم، والأصل فيه حديث المغيرة بن شعبة  حين قتل أصحابه وجاء بمالهم إلى المدينة فأسلم، وطلب من رسول الله  أن يخمس ماله فقال صلى الله عليه وسلم: “أما إسلامك فمقبول، وأما مالك فمال غدر فلا حاجة لنا فيه”(2).
بل إن بعض الفقهاء لم يحرموا فقط التعدي على مال المسلمين في البلاد الإسلامية، بل خارجها أو ما تسمى قديمًا بدار الحرب، فقال الإمام المرغيناني: “وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ولا من دمائهم”(3). وذهب الحنفية إلى ما هو أبعد من ذلك فقالوا بجواز بيع غير المسلمين للخمر والخنزير في البلاد الإسلامية(4)، وحرموا على المسلم التعدي على هذا المال، بل قالوا بالضمان في حالة الإتلاف؛ فلو أن مسلمًا أهرق خمر غير مسلم أو قتل خنزيره، فيجب في هذه الحالة على القاضي أن يحكم بالضمان على المسلم، وأن يدفع قيمتهما من ماله الخاص، لأن هذا المال حتى وإن لم يكن متقومًا في حق المسلم إلا أنه متقوم في حق غير المسلم، فوجب على المسلم احترام خصوصيته الدينية وماله وعرضه.
احترام المقدسات وعدم التعدي عليها
أمر الإسلام أتباعه بترك الناس وما اختاروه من أديانهم، ولم يُجبِرْهم على الدخول في الإسلام قهرًا، وسمح لهم بممارسة طقوس أديانهم في دور عبادتهم، وضمن لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وأَوْلاها عناية خاصة، فحرم الاعتداء بكافة أشكاله عليها. وجعل القرآن الكريم تغلُّب المسلمين وجهادهم ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم في الأرض، سببًا في حفظ دور العبادة من الهدم، وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها، سواء أكانت للمسلمين أم لغيرهم، وذلك في قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(الحج:40-41). وهكذا فعل صحابة النبي  عندما صالحوا أهل الشام، ومن هذا المنطلق أجاز العلماء لغير المسلمين ترميم كنائسهم وإعادة بناء المنهدم منها، فقد قال الإمام محمد -رحمه الله- في “نوادر هشام”: “إن انهدمت كنيسة من كنائسهم أو بيعة أو بيت نار، فلهم أن يبنوها كما كانت”. ولهم أن يمارسوا شعائرهم في معابدهم دون تدخل من أحد أو منع لهم، قال الإمام العيني: “وفي المحيط: لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم لا يمنعون”(5).
وليس هذا فقط، بل إن الإمام محمدًا تلميذ الإمام أبي حنيفة، أجاز حلف غير المسلم بما يكون معظمًا، وبما يعتقد مراعاة للمقدسات عندهم وبما هو معظم في صدورهم، قال الطحاوي، وقال محمد: “ويستحلف النصراني: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، واليهودي: بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والمجوسي: بالله الذي خلق النار”(6).
الواقع والمأمول
إن المتأمل في الواقع الحالي وفي الأقوال السابقة للعلماء، سيجد أن هناك بعض التيارات المتشددة تؤسس لمنطق الانفصال والقطيعة مع الآخر عن طريق اجتزاء بعض النصوص، وعدم مراعاة سباق النص وسياقه ووقعه الزمن، وغالبًا ما يؤدي هذا المنطلق إلى التصادم والعنف في نهاية المطاف، بما يهدد العيش المشترك وغياب الأمن، واندلاع الفتن الطائفية بين أفراد المجتمع الواحد، لذا لا بد من ملاحظة الوجوه أو الأبعاد المتعدّدة للنص الديني، لأن النص الديني قد يأتي أحيانًا ليعالج مشاكل ظرفية ويقدّم لها حلولاً وتدابير مؤقتة، وبالتالي إكساب هذه النصوص صفة الدوام والاستمرارية من شأنه أن يجلب كل أشكال العنف والتشدد الذي نراه اليوم.
كما أنه من اللازم أن نضع في الاعتبار ونحن ندرس فقه العلاقة مع الآخر، أنّ الفتاوى المتقدّمة لا ترسم صورة كاملة عن حقيقة العلاقة، بل إنّها قد تكون نتيجة فهم معين للنصّ الديني، وربّما يسهم في تكريس هذا الفهم عوامل عديدة، أهمها التراكمات التاريخية السلبيّة التي غذّتها الحروب، بما تركت من بصمات وجراحات بليغة في اللاوعي الإسلامي، مما أسهم في بناء جدار الانغلاق على الذات، وتكوين نظرة إسلامية متشددة حكمت العلاقة مع الآخر.. وكان من الطبيعي أن تُنتج هذه الأجواء السلبية التي أرخت بظلالها على تاريخ العلاقة مع الآخرين، حركات وتيارات ذات نزعة تصادمية مع الآخر.
لذا لا بد من العودة إلى المنهج الإلهي القائم على البر والعدل، والذي أرساه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة من خلال وثيقة المدينة، لكونه المنهج الوحيد الذي لا يعرف العنصرية ولا التحزب والتشيع، كما أنه منهج قائم على الرحمة مع جميع البشر، وتحقيق العدالة والمساواة والحرية ومراعاة السلام والسلم الاجتماعي.

(*) كاتب وباحث مصري.
الهوامش
(1) الاختيار لتعليل المختار، للإمام الموصلي، ج4، ص:165.
(2) انظر المبسوط، الإمام السرخسي، ج9، ص:96.
(3) انظر بداية المبتدي، الإمام المرغيناني الحنفي، ص:118.
(4) انظر الاختيار لتعليل المختار، الإمام الموصلي، ج2، ص:10.
(5) انظر البناية شرح الهداية، الإمام العيني، ج7، ص:256.
(6) انظر شرح مختصر الطحاوي، الجصاص، ج8، ص:105، دار البشائر الإسلامية، طـ1، 2010م.