يروى في إحدى الحكايات الشهيرة، أن أحد الخلفاء حضر مناظرة اختلف فيها الفلاسفة مع العلماء حول: ما الذي يغلب على الإنسان، الطبع أم التطبّع، الأصل أم التربية؟ أما الفلاسفة فقد زعموا أن التطبّع عند الإنسان يغلب الطبع، وبقوا طول المناظرة مصرّين على أن التعليم يروّض الطبع البشري ويتغلب عليه. وأما العلماء فقد ذهبوا إلى أنه بالرغم من التعليم فإن الإنسان يغلب عليه هواه وطبعه، ولا سيما في أوقات الشر والحرب والفوضى والفتن، وأنّ الطبع كان دائمًا أقوى من التعليم المجرد وخاصة في مثل تلك الأحوال؛ وذلك لأن الطبع هو باطن الإنسان الثابت الذي لا يقبل التغيير، فهو ما “يجري مع الدم في العروق”. وعليه فإن العلماء ميزوا بين التعليم وبين التربية، وأكدوا على أن حسن التربية مع التعليم المتين، هما فقط اللذان يمثّلان مجتمِعَين فتحة التصريف الجيدة التي تخفف من حدة تدفق الطبيعة البشرية المجرّدة.
وبعد أن أنصت الخليفة بإمعان لكلا الطرفين، طلب من كل منهما أن يأتي بدليله. وفي الليلة التالية أحضر الفلاسفة معهم هِرّة قد دُرِّبت على المشي منتصبة، ورافعة رجليها الأماميتين وهي تمسك بكوب مملوء بالشاي فتُقدِّمه للحاضرين. وأرادوا بذلك أن يبرهنوا على أن التعليم أهمُّ من الطبع. وفعلاً قامت الهرّة بتوزيع ذلك المشروب المفضل على الحاضرين، وبدا الأمر وكأن العلماء سيخسرون المناظرة، ولكنهم رغم إعجابهم بما أبدته الهرّة من مهارة، طلبوا من الخليفة أن يسمح بعقد جلسة أخرى في الليلة التالية، وأن تُظهر فيها الهرّة مرة أخرى المهارات التي دربها الفلاسفة عليها. وفي الموعد المحدد، انطلقت الهرّة توزع أكواب الشاي على الجالسين، وإذا بالعلماء يٌخرجون عددًا من الفئران ويطلقونها أمام الهرّة، فما كان من الهرّة إلا أن رمت بأكواب الشاي وانطلقت تطارد تلك الفئران.
هذه الحكاية حول نظرية التربية والتعليم، تتحدث وبعمق شديد عن المسائل الرئيسة التي تطرح مع بداية ونهاية كل إجراء تعليمي وكل إجراء تربوي. فهل ينحصر دور الأسرة والمدرسة والعمليات التعليمية في تدريس الإنسان وتعليمه؟ أم يجب عليها في نفس الوقت أن تربيه وتوقظ في طبيعته كل ما هو نبيل؟

التعليم الجماهيري

إن جميع أديان وثقافات العالم تطرح هذا السؤال، ولكن الأديان والثقافات ذاتها هي في الوقت نفسه إجابات عن هذا السؤال. وفي زمان العولمة الذي نعيشه، فإن هذا السؤال يقع في محور حياة الكثير من المجتمعات، ولا سيما في تلك المجتمعات التي نشأت على أيديولوجيات التنوير، لأن القرنين التاسع عشر والعشرين قد جلبا -ولأول مرة في التاريخ- ظاهرةً لم يَعد معها التعليم مقتصرًا على النخبة من العلماء والرهبان والأعيان والنبلاء والحكام.
لقد أصبح التعليم المدرسي في القرنين الماضيين مُيَسَّرًا في كل مكان ومتاحًا للجميع، وهذا أمر ما كان ليتسبب بأي شر لولا أنَّ هذا التعليم قد فُرِّغَ من محتواه التربوي، ولولا أنه تحول إلى الشكل الجماهيري، أي إن العلم صار في القرون الحديثة يُنقل إلى التلاميذ والطلاب والناس جميعًا بطرق جماهيرية؛ بحيث صار يُنظر إليهم على أنهم مجرد جمهور وحشد. وبما أن الجمهور يمثل مفهومًا جسديًّا فإن صور الأفراد لا تُرى فيه، بل إن الصور والخصوصيات الفردية تضيع فيه تمامًا. لذا فإن الأيديولوجيات على اختلافها وتنوعها في القرنين الأخيرين -سواء في الغرب أو في الشرق- ولا سيما تلك التي نجحت في الوصول إلى السلطة، قد وضعت في برامجها السياسية شعار “تعليم الجماهير الشعبية”، ولم يبق سوى خطوة واحدة صغيرة ليتحوَّل “تعليم الجماهير الشعبية” إلى “ترويض الجماهير الشعبية”. ومن المعروف أن الأنظمة الاستبدادية التي نجحت في الوصول إلى الحكم قد خطت تلك الخطوة. ولكن الأمر لم يتوقف بالتعليم الجماهيري عند تحويل الطلاب والمتلقين للعلم إلى حشد وجمهور، بل تم تحويل العلم نفسه إلى جمهور، بحيث صار يُنقل في صيغة كتلة من الحقائق المعزولة والمتفرقة عن كل فن من فنون العلم؛ فالفيزياء مستقلة بنفسها، والكيمياء مستقلة بنفسها، وعلم الأحياء مستقل بنفسه… وهكذا تحولت العلوم كلها في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى علوم مستقلة وذَرِّية. إن التعامل مع العلم على أنه حشد من الحقائق يتم نقله عن طريق وسائل التعليم الجماهيري إلى ملايين من التلاميذ والطلاب، ويتم توزيعه على انفرادٍ داخلَ كل فن من فنون العلم التي تفرقت فيما بينها مع مرور الزمن، إن هذا النوع من التعامل قد أدى إلى نتائج رهيبة، حيث لم يَعُدْ العالم -من وجهة نظر التعليم الحديث- كيانًا واحدًا متكاملاً، بل مزقته العلوم تمامًا. وهكذا نجد على مدى القرنين الأخيرين أن أنظمة التعليم الجماهيري هذه، قد أَهملت أكثر فأكثر تربيةَ التلميذ أي تربيةَ الفرد.

تجريد التعليم من التربية

إن الحضارات القديمة كانت تتمركز على ضفاف الأنهار وسواحل الخلجان البحرية الصغيرة، وإن التعليم الحديث وما أنتجه من حشود بشرية متعلمة ولكنها غير متربية، قد سمَّموا تلك الأنهار والخلجان، ولا يوجد عاقل واحد ينفي حقيقة أن التعليم الحديث الذي جُرِّدَ من عنصر التربية، لم ينتج سوى جيش مُرَوَّضٍ من العلماء المفتقرين ليس فقط إلى الإحساس بالحياء من الطبيعة، بل وإلى أدنى تفكير بإمكانية وجوب اشتغال الكيمياء والفيزياء مثلاً بقضية أن يشعر العلماء بالحياء أمام الطبيعة وروعتها وعذريتها.
وإن دَلَّ هذا على شيء فإنه يدل على أن مناهج التعليم الجماهيري بتجريدها للتعليم من عنصر التربية، قد أوصلتنا إلى معرفة متحللة من المسؤولية إلى حَدّ الوقاحة والغطرسة.
فالإنسان المتعلم وغير المسؤول يشبه تلك الهرّة المُدَرَّبة التي تحدثنا عنها في بداية هذا المقال. إن إنسانًا بهذا التعليم، وإن إنسانيةً بهذا التعليم، بل إن هذا التعليم ذاته، سوف يتقهقر ويكون دائمًا الخاسر أمام تدفق الفطرة المجردة. ولكن جموح هذه الطبيعة البشرية المجردة، المتسلح بهذا التعليم المنفلت من أية مسؤولية، لَيُمثل خطرًا أكبر بكثير من اندفاع تلك الطبيعة عند “بربري” غير متعلم. ولقد تحدث جلال الدين الرومي عن الإنسان المتعلم وفاقدِ التربية، وكيف أنه يستفيد من عقله تمامًا كما يستفيد اللِّص من الشمعة وهو يَسرق.
هذا وإن التعليم الجماهيري والمدارس الحديثة تستقبل التلاميذ بمختبرات مرتبة، ومناهج تعليمية، وكتب مدرسية فعّالة، ولكن الكتب المدرسية في الفيزياء الحديثة لا يوجد فيها ذكر للحياء، كما أن الكتب المدرسية في الكيمياء الحديثة لا تحتوي على كلمة واحدة عن الخجل، أما الكتب المدرسية في علم الأحياء فلا يوجد فيها ولو مجرد إشارة إلى التواضع. ويمكننا أن نسرُد بالتسلسل أسماء كافة العلوم المعروفة في عالمنا اليوم، ويمكننا دائمًا أن نصدر حكمًا قطعيًّا على أن الكتب المدرسية التي تقدم تلك العلوم، لا تتضمن أي ذِكر للثوابت التربوية والأخلاقية، ناهيك عن أنْ تكون تلك الكتب مصَمَّمة وفقًا لتلك الثوابت. وهذا يدل على أن تلك الكتب المدرسية تَقرأ الطبيعةَ عمومًا والطبيعةَ الإنسانية خصوصًا وكأنها آلة، ولا تَقرأ على صفحاتها المتعددة ذلك الهدف السامي الموجود وراء مستويات العالم التي ندركها بالعقل.
إن كتب الفيزياء والكيمياء والأحياء لم تُفَرَّغْ من الحياء والخجل وتأنيب الضمير فقط، بل إنها فُرّغت من الروعة والجمال والخلود ومن العالم والطبيعة. على سبيل المثال، نجد أن التعليم المعاصر ما عاد يندهش أو يعجب من طبيعة الماء البديعة، ومنذ فترة بعيدة والتلاميذ والطلاب يدرسون الماء على أنه مجرد ثروة صناعية! ويدل هذا على أن تلك الكتب المدرسية العصرية تُعَلِّم ولكنها لا تُرَبِّي. والتربية قبل كل شيء، تعني الاعتراف بالهدف السامي والسبب الرفيع للتعلُّم والعِلم والتعليم. إن التربية تقوم على الثقافة، والثقافةَ تقوم على الدين، والدينَ يقوم على المَقصد الأخير ألا وهو الله سبحانه وتعالى.
إن معرفة القوانين الهيدروليكية ومعرفة إقامة شبكة المياه أمر يستند إلى التعليم، أما الاغتسال بالماء فمرَدُّه إلى التربية والثقافة، كما أن معرفة صيغة الصابون وصناعته أمر علمي، أما استخدام الصابون عند الحاجة فهذا مَرَدُّه إلى التربية.

روح الإنسان والتربية

إن الأنظمة العصرية لابد لها -عاجلاً أو آجلاً- أن تستعيد في ذاكرتها المناقشات الكلاسيكية حول روح الإنسان والتربية، ولابد لها من العودة إلى معلّمي الإنسانية القدماء الذين حدّدوا مجال التعليم ومجال التربية. وكما أن التعليم تدريب للقدرات الذهنية، فإن التربية تنوير للضمير الداخلي وتنوير للقلب ذاتِهِ، ولذلك فإن التعليم والتربية جانبان متساويان ضروريان لاعتدال الإنسان الروحي.
ولكن التعليم الحالي يعاني من خلل كبير في التوازن بين هذين الجانبين، لأن التعليم بدون تربية يتحول إلى قوة هدّامة تهيمن على الطبيعة وعلى المجتمع البشري، أما التربية المجردة عن التعليم فرغم أنها تؤدي إلى الاستقامة الأخلاقية، إلا أنها مع مرور الزمن تضعف وتتحول إلى المواساة كملجإٍ وحيد يُلجأ إليه.
إذن، عند إقامة التوازن من جديد بين ذاك “كيف نتعلم” وذلك “كيف ينبغي” و”كيف نحسن صنعًا”، لابد لنا أن نستحضر في أذهاننا أن التعليم والتربية ليسا عمليتين يكتسبهما الإنسان دفعة واحدة إلى الأبد، بل إن التعليم والتربية عمليتان مستديمتان ومتجددتان ينبغي دائمًا الرجوع إليهما والسهر عليهما.
وعندما يتعلق الأمر بالتربية والتعليم، فإن السؤال الرئيس الذي سنبحث عن إجابة له في القرن الحادي والعشرين هو: كيف التوصل إلى التعليم المربّى، وكيف نحقق التربية المتعلمة؟ والبشرية التي تنجح في التوصل إلى هذه التركيبة ستكون هي البشرية السعيدة.

(*) كلية الدراسات الإسلامية، سراييفو / البوسنة والهرسك.