التربية الإسلامية والبعد الإستراتيجي لقضايا التنمية (2)

بر النماذج التي سردناها في المقال الأول، يظهر بجلاء أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفلسفة التربية السائدة. وحتى ننقل القارئ من هذا المستوى التنظيري إلى المستوى التطبيقي، نقوم بجولة عبر ميادين التنمية المعاصرة لرصد واقعها أولاً، ثم معرفة انعكاسات التربية الإسلامية على مستوياتها العملية، لنعرف أن التربية الإسلامية -في قطاع التكوين الذي يشكل الرافد الأساسي لمؤسسات التنمية- مادة تذوب في كل التخصصات لتطبعها ببصمات الاستمرار الناجح والتخطيط المسؤول، وليست مادة منعزلة أو متعلقة بتخصص دون آخر.
عبر النماذج التي سردناها في المقال الأول، يظهر بجلاء أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفلسفة التربية السائدة. وحتى ننقل القارئ من هذا المستوى التنظيري إلى المستوى التطبيقي، نقوم بجولة عبر ميادين التنمية المعاصرة لرصد واقعها أولاً، ثم معرفة انعكاسات التربية الإسلامية على مستوياتها العملية، لنعرف أن التربية الإسلامية -في قطاع التكوين الذي يشكل الرافد الأساسي لمؤسسات التنمية- مادة تذوب في كل التخصصات لتطبعها ببصمات الاستمرار الناجح والتخطيط المسؤول، وليست مادة منعزلة أو متعلقة بتخصص دون آخر.
التربية الإسلامية وتسيير المؤسسات
يحتاج تسيير المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قبل القوانين الضابطة، إلى تكوين متين ومستمر يستوعب التغيرات، ويحتاج أيضًا إلى من يتصف بأخلاق المهنة والإخلاص لها، ثم هو يحتاج ثالثًا إلى تخطيط مستقبلي ورؤية بعيدة.
وتأتي القوانين المنظمة، خاصة الزاجرة منها لسد الثغرات وتفويت فرص الاستهتار على المتهاونين والمصلحين، ويحتاج القانون المتعارف عليه إلى جيش من الأطر يسهر على حمايته، ثم إلى مجموعة أخرى تسهر على حماية ومراقبة حماة القانون. لأن المتعارف عليه في زماننا من خلال الواقع المعيش، أن أهل القانون أقدر الناس على اختراقه، باعتبار الاطلاع الكبير على الحلقات المفرغة ونقط الضعف وصيغ التأويل. وما أُتيت كثير من المؤسسات، إلا من قبل سوء التدبير وخرق القوانين المنظمة نظرًا لغياب الضمير المهني من جهة، ثم ضعف الرقابة البشرية من جهة ثانية.
وأمام هذا الوضع لا شك أن تسيير المؤسسات، في حاجة إلى رجال يتوفرون -إلى جانب ما ذكرنا- من تكوين مستمر ومتين على رقابة داخلية مكتسبة من منظومة تربوية إسلامية تربطهم بأهداف أسمى من “الضمير الحي” و”الواجب الإنساني”، إلى تحقيق مبدإ خلافة الله في أرضه، والإحساس بالمسؤولية أمام أصحاب الحقوق، وأمام الله الذي يعتبر رقيبًا وحسيبًا وشاهدًا، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري). ولن يتم هذا إلا إذا كان التكوين المهني والمعرفي، لا تنفصل فيه الجوانب التقنية عن التوجيهات الروحية العقائدية. وقد نستغني بهذا عن أطر الرقابة التي تحتاج إلى رقابة، وقد نستغني عن بروتوكولات القسم التي تتلو أي تعيين في أي منصب من المناصب الحساسة في الدولة. ولذلك لا نستغرب من كون الرسول صلى الله عليه وسلم معضدًا بالوحي، قضى ثلاث عشرة سنة في صقل الجانب العقائدي لدى الرجال الذين سيساهمون في بناء أول دولة إسلامية بالمدينة.
ومن هنا يظهر أن هدف التربية الإسلامية يتجلى في أمرين: طرح البديل الإسلامي في الواقع سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ثم ترسيخ الرقابة الذاتية التي تجعل الشخص المسؤول يرقى بالمسؤولية من التشريف إلى التكليف، لأنه يعي جيدًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”. ومن هنا ندرك سر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو عثرتْ بغلةٌ بالعراق لسئل عمر لماذا لم يعبّد لها الطريق”، وقال حين حضرته الوفاة: “ما ندمت على شيء ندمي على تولي الخلافة”. وندرك أيضًا سبب عزوف أبي حنيفة عن تولي منصب القضاء، غير أنه كان من سننهم أيضًا إذا رأوا أنهم أهل لتولي منصب قد يفسده مَن ليس أهلاً له، قالوا مثل ما قال يوسف عليه السلام للعزيز: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾(يوسف:55). والحفظ يعني الشعور برقابة الله تعالى، والعلم يعني الكفاءة، وهما شرطان أساسيان لتسيير المؤسسات وهذا ما توفره التربية الإسلامية.

التربية الإسلامية والتكنولوجيا
يشعر الإنسان في العالم المعاصر أنه أسير التكنولوجيا، وأن التقنية الحديثة سلبته حريته فأصيب بهذيان وارتجاف خوفًا من أن تكون عاملاً مدمرًا للحياة، أو -على الأقل- عامل استعباد للضعفاء، وتهديدًا لمصادر رزقهم، وتحكمًا في خياراتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما حصل بالفعل في عالم النظام الجديد، وقبله أيام الحرب الباردة. وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد عزيز الحبابي رحمه الله: “التكنولوجيا بحد ذاتها، هي مصدر للروائع بالنسبة للإنسانية، لكن هذه الأخيرة ليست -أبدًا- سوى وسائل مادية فاترة ذات بعد متساو من الخير والشر على الصعيد الإنساني. إن للتكنولوجيا دورًا وهو الدراسة العقلانية للتقنيات، ويجب أيضًا إقامة انشطار واضح بين الاستعمال الحسن أو الاستعمال السيء للتقنيات، غير أن ما يميز التكنولوجيا ظاهريًّا في مرحلتنا الراهنة، هو بداية قسوة تطبيقاتها: أفران حرق الجثث (هيروشيما)، التمشيط المنتظم للثائرين (الثوار ضد فرنسا)، رش البلدان بالنابلم في الصبائح الهادئة… الشواهد لا تنقص أبدًا، إن المنطق ينكسر في هذه اللعبة، ويتموضع “الأنا” في البداية أو في النهاية، ويصبح الكلام عبر منطق مكسور. وهاك بعض الوقائع التي تسبب الخوف والارتجاف، إنها مراجع مرقمة، مدورة وحادة وجارحة بشكل فارق:
900 مليار دولار تقريبًا للتسلح، مقابل 35 مليار لمساعدة العالم الثالث، وجزء عيني من هذه المساعدات معطى على شكل سلاح أو يقدم لشراء أسلحة… كيف يمكن لمسلم أن يكون رد فعله على هذا الرجل العالمي؟
وبعد عرض مستفيض لمختلف المواقف المتخذة من التكنولوجيا، خلص الدكتور الفاضل إلى فكرة تصب في نفس اهتمامات العالم المعاصر، وهو ما يصطلح عليه بأخلاقيات التكنولوجيا، وما نسميه نحن، توجيه التربية الإسلامية للتكنولوجيا بما يخدم قيم الإنسانية، ويحقق خلافة الله في الأرض وعمارتها، مخالفين بذلك منطق السيطرة الذي يؤدي في غالب الأحيان إلى الاستعمال السيء للتكنولوجيا. يقول الدكتور محمد عزيز الحبابي: “وبالفعل، فالإسلام والتكنولوجيا… سوف يجدان وجه فائدة لكل منهما، فالآلية المنتقدة من أجل تفلتها الجنوني، سوف تأخذ وجهًا إنسانيًّا، والإسلام سوف يجد وثبته الجَسور التي انتزعها منه التفاوت التاريخي، وسوف يعود الإيمان قوة احتجاج متيقظة… وهكذا فإن زاوج العقل والإخلاص بين العلم والتكنولوجيا من ناحية، والإسلام من ناحية أخرى، يعيد للمجتمع بُعده الروحي، وسوف نسترجع عندها الصفاء والسكينة الخامدتين منذ أمد.
التربية الإسلامية والإعلام
يستطيع الإعلام أن يكوّن صورة سيئة عن إنسان ما أو شعب ما، كما أن له قدرة على إنشاء صورة إيجابية وإن لم تكن حقيقية عن إنسان آخر أو شعب آخر. وعن طريق سلطة الإعلام ودورها في تكييف الإطار الفكري للإنسان، نخلص إلى أن الوسائل الإعلامية تلاحق الفرد في العصر الحديث أينما كان. وبغض النظر عن مكونات العقلية المرجعية، فإننا نجده مستعدًّا للتجاوب مع الخبر والصورة بشكل كبير، ويبقى الصدق والكذب وقواعد الإعلام مثل “الخبر مقدس، والتعليق حر” تخضع للنسبية المرتبطة بأخطبوط إعلامي موجه لخدمة أهداف معينة، ليست بالضرورة في صالح المستمع، بل توجيهه والتأثير عليه. وقد أضحى الارتباط متينًا بين المؤسسات السياسية والإعلامية، ولم تعد الاستقلالية واردة على الإطلاق. فلن يمكن بأي حال، أن تخرج توجهات محطات الإرسال التلفزيوني في الولايات المتحدة -مثلاً- عما تخططه المؤسسة الحاكمة في إطار النظام العالمي الجديد. وكم كان الإعلام الغربي مقدمة ممهدة لضربات عسكرية موجعة في عدة مناطق من العالم، عن طريق استعداء العقلية الغربية باستعمال مصطلحات “الإرهاب”، “التطرف”، “الشرعية الدولية”، “التدخل لحماية حقوق الإنسان”، “إعادة الأمل”… فيشعر الشارع الأوروبي إما بالتعاطف مع العمليات العسكرية، أو بالخوف على المصالح. ولقد أصبح المسلمون اليوم، بعد فترات الانحطاط، يعتمدون على وسائل الإعلام الأجنبية في مادتهم الإخبارية، التي ترتبط في كثير من الأحيان بمركزية الغرب، وفي كثير من الأحيان الأخرى بالمؤسسات الصهيونية، التي تعمل عبر شركات دعاية إعلامية ترصد لها الأموال الطائلة لصناعة أبطال مزيفين، وتهميش كل من يدور في فلك هذه المؤسسات أو يعمل ضدها.
إننا نجد في الإسلام ضمانات الخبر الصادق واستقلال المؤسسة الإعلامية، نظرًا لتحملها المسؤولية في تحري الدقة، انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(الحجرات:6)، وقوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾(ق:18). وقوله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت” (متفق عليه).
إن ميدان الإعلام يحتاج إلى تربية وتكوين يضمنان توفر أخلاق المهنة. ويتحرر الإعلام ليصبح أداة ترشيد وتثقيف عوض أداة ضغط وتزييف، وذلك عن طريق تطعيم برامج التدريب بالتصوير الإسلامي، سواء في المناهج أو المواد الدراسية، لأن الواقع الحالي يتحدث عن غياب أي حس إعلامي إسلامي عند معدّي البرامج عمومًا، أو عن خبرة ضعيفة عند معدّي البرامج الدينية خصوصًا. فلا هذا ولا ذاك نريد، إنما نريد إعلامًا متطورًا منضبطًا بالتوجهات التربوية الإسلامية وأساسيات الإعلام الحر النـزيه.

التربية الإسلامية والبيئة

حينما نتحدث عن البيئة، فإننا نقصد كل ما يحيط بالإنسان مما سخر الله له في الكون من مخلوقات، قال تعالى: ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾(الحجر:19). وقد تحدثت كثير من الدراسات عن البيئة وعوامل تلويثها؛ فتحدثت عن تلوث الماء، وعن تلوث الهواء، والتربة، والغذاء، والتلوث الضوضائي، وتلوث الطبقات الجوية، واستنـزاف الثروات الطبيعية… وأشارت بأصابع الاتهام إلى الإنسان عبر أنشطته الصناعية التي خلفت نفايات خطيرة، وأنشطته العسكرية التي خلفت دمارًا وخرابًا للبيئة، يبقى مفعوله عبر الحقب والأزمان. ومخزون العالم من أسلحة الدمار الشامل، يكفي لتدمير الكرة الأرضية.
إن من أساسيات التنمية، الحفاظ على البيئة ومقاومة التلوث. ولن يتم هذا بواسطة قوانين محلية أو دولية يصادَق عليها في مؤتمرات من حجم قمة ريوديجانيرو (قمة الأرض)، وإنما يتم ذلك، بواسطة التربية، لأن الفرد هو الذي يفسد البيئة ويلوثها، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الروم:41).
إن غياب هذا الحس التربوي الإنساني، هو الذي يجعل الغرب يصدر نفاياته إلى بلدان العالم الثالث بما في ذلك النفايات النووية المشعة، مقابل عقد صفقة مع نظام حاكم في بلد جائع وفقير ومريض. إن غياب هذا الحس، هو الذي يجعل الصناعات الغربية تصب الأطنان من النفايات في عرض البحار. إن الفرق كبير بين الفكر والممارسة، وكبير بين “التخلص من النفايات” و”المحافظة على البيئة”، إن الإسلام حينما تحدث عن الطهارة الحسية المعنوية، فإنما ربط ذلك بالتصور العقائدي والعبادي؛ ربط الطهارة بالشعائر التعبدية حيث لا تجوز بدونها، وتخلو تعليمات الإسلام في كل الميادين من إجراءات لحماية البيئة.
فحينما تحدث عن الماء -وهو المكون الرئيسي للبيئة- ربطه بالحياة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾(الأنبياء:30). لذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تلويثه في الحديث الذي رواه أبو هريرة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “لا يَبُولنّ أحدُكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه”، وبالقياس يكون النهي بهذا الحديث عن كل ما يلوّث الماء.
وحينما يتحدث عن الحروب ومخلفاتها، ينهى عن حرق المزروعات وتدمير مقومات الحضارة، لأن الحرب في الإسلام استثناء من قاعدة السلام، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لأسامة بن زيد قائد الجيش الإسلامي إلى الشام: “ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا بقرة ولا بعيرًا إلا للأكل”. وعن التصرفات العامة للإنسان في تعامله مع بيئته، عبّر الرسول صلى الله عليه وسلم أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة. فعن أبي برزة رضي الله عنه قال: قلت يا نبي الله، علّمني شيئًا أنتفع به، قال: “اِعزِل الأذى عن طريق المسلمين” (رواه مسلم).

التربية الإسلامية وأهداف البحث العلمي
إن الأخذ بالمنهج الإسلامي في مجالات البحث العلمي، يجب أن يُقبَل على أنه حقيقة منطقية وضرورة حضارية. ويكفي شاهدًا على ذلك، أن علوم الكون والحياة إسلامية بطبيعتها -لأن موضوع البحث فيها- هي كل خلق الله في كتابه المنظور.
من هنا كانت إسلامية المنهج العلمي أو أسلمته، صورة حضارية ملحة لضمان مواصلة التقدم العلمي التقني مع الحفاظ على إنسانية الإنسان… ذلك لأن الإيمان الخالص، والسمو الروحي، يأتيان في مقدمة الخصائص التي يتميز بها المنهج العلمي الإسلامي، وإليهما تعزى كل القوى الدافعة لملكات البحث العلمي عن طريق الإبداع والابتكار.
لذلك بنيت فلسفة البحث العلمي من المنظور الإسلامي، على نظرية التوحيد التي شكلت دافعًا من حيث المنطلق، وهدفًا من حيث النتائج، فيه دافع من حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفَع به، أو ولد صالح يدعو له” (رواه مسلم). فهذا دافع يتضمن مصلحة الإنسان وتطوير البحث العلمي، والسيطرة على الطبيعة، ليتجاوزها إلى ما هو أسمى؛ وهو الأجر والثواب المتواصل بتواصل نفع النتائج المتوصل إليها.
وهي هدف من حيث أن “من الصفات الجديدة للمعرفة العلمية المعاصرة، أن الحواجز الظاهرية بين فروع العلم المختلفة أخذت تذوب تدريجيًّا، لكي تحل العلوم المتداخلة والمتكاملة محل العلوم المتعددة والمنفصلة. ولقد توقع “هيزنبرج” هذه النتيجة للعلوم المعاصرة، عندما ذكر في محاضرة ألقاها بجامعة ليبزك عام 1941م، أن فروع العلم المختلفة قد بدأت في الانصهار في وحدة كبيرة، وحول فكرة العلم الموحد”.
وهذا هو هدف البحث العلمي من المنظور الإسلامي؛ إذ كل العلوم ووسائل البحث فيها، تهدف إلى إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وعظمته، لذلك نجد كثيرًا من الآيات تحث على النظر في المخلوقات، لإدراك عظمة الخالق وهو الهدف الأسمى من البحث العلمي.
وهكذا تدفع التوجيهات الإسلامية الباحث العلمي، إلى تصحيح النية في البحث وتوجيهه إلى ما هو أسمى من المصلحة الظرفية. وفي هذا التصحيح، دفع قوي، وتجاوز للصعاب، وترشيد في طبيعة توظيف النتائج لخدمة الإنسان وتحقيق الخلافة في الأرض.
الخاتمة
بعد هذه الجولة مع مختلف جوانب التنمية وبيان تأثرها بالتوجيه التربوي الإسلامي نستنتج ما يلي:
1- إن ربط التربية الإسلامية بالتنمية، لا يعني إيجاد مناصب الشغل لتوظيف طاقة الخريجين، بقدر ما يرتبط ذلك بالهيكلة الحضارية العامة. فكل فرد مساهم في هذه الهيكلة، عليه أن يأخذ من الكفايات ما يضمن معه التوجيه السليم نحو خدمة الحضارة البشرية.
2- إن خريجي الدراسات الإسلامية من المتخصصين، أبعد الناس من أن تطالهم البطالة، باعتبار الحاجة الماسة في مؤسسات التربية والتكوين إلى هذا التخصص، لتحقيق إستراتيجية تنموية منضبطة مع السياسة العامة المرسومة للتعليم والتكوين. وفي هذا الإطار تندرج دعوة أستاذنا الجليل محمد بلبشير الحسني، إلى تدريس مادة اللغة العربية والثقافة الإسلامية في كل مؤسسات التربية والتعليم والتكوين بمختلف شعبها.
3- إن وضعية التربية الإسلامية في المرحلة الثانوية، تفتقد إلى عناصر التوجيه والتأثير بسبب انفصال التربية عن التعليم، حيث أصبح المكلف بتدريس المادة مربيًا، ومدرسو باقي المواد معلمين. والمطلوب في اعتقادي، ليس الرفع من عدد ساعات المادة في شكلها الحالي، وإنما تطعيم مقررات باقي المواد بما يخدم أهداف التربية الإسلامية، في إطار نظرية الوحدة والفروع، مع إقرار نظام الوحدات بخصوص العلوم التشريعية (فقه، حديث، تفسير، عقائد) مركزين من حيث المحتوى على ما يستجيب بطبيعة المرحلة التي يمر بها المتربي المتعلم.
نحن سنرى أن في التخطيط الحالي لمادة التربية الإسلامية من الثغرات، ما لا يكفي في سده إصدار الكتب المدرسية وتعيين الأساتذة المتخصصين وإن كان ذلك لا يخلو من فائدة، لأن الإشكال يكمن في المحتوى المقرر وفي قلة الحصص المخصصة للمادة.
4- إن التربية الإسلامية، فلسفة عامة توجه الفعل الحضاري الإنساني إلى التوفيق بين متطلبات الحياة المادية والغاية العلوية، التي تتمثل في خلافة الله في الأرض، بعدما أدخلت الفلسفات المادية الإنسان في تجارب مرة، وسراديب مظلمة فقد معها التوازن. تلك جملة أفكار أضعها بين يد كل المخططين المبرمجين للتعليم، لمعرفة أوجه الربط بين التربية الإسلامية الحقة وإستراتيجية التنمية، فيقرروا من المواضيع ما يرتبط حقًّا بهذا المفهوم، مثل قضايا الحرب، والظلم، والاستعمار، والاضطهاد العنصري، ومشاكل الجوع والحرمان، وأخطار التلوث البيئي والنفسي والعقائدي، وسوء استخدام التكنولوجيا، وتناقص الموارد الغذائية والموارد الطبيعية، والتحلل الأخلاقي والانفصال عن الفطرة، وقضايا أخرى لا يمكن للمجتمع أن يعيش دون أن يهتم بها، ويصل إلى وسائل أخرى، ثم لينظروا بعد ذلك، كيف تؤثر التربية الإسلامية في قضايا التنمية عمليًّا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
(1) نظرة إسلامية على التكنولوجيا، محمد عزيز الحبابي، مجلة الحوار، العدد:10، السنة الثالثة.