التربية الإسلامية والبعد الإستراتيجي لقضايا التنمية

يقول الكاتب الإسلامي محمد قطب: “لقد أحسست بطبيعة الحال، أن في القرآن توجيهات تربوية كثيرة، وأن لهذه التوجيهات أثرًا في النفس، وأن الإنسان حين يتدبرها ويتأثر بها يصبح له سلوك معين وشعور معين أقرب إلى الصلاح فيوالتقوى، ويصبح الإنسان أكثر شفافية وأكثر إنسانية”(1). لقد خلق الله البشر مجموعة من الأحاسيس، وهذه الأساليب والطاقات محكومة بهوى النفس، لأنه تعالى خلق الإنسان لهدف: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56). فكان لابد أن توجه هذه الطاقات إلى الانسجام التام مع الغرض من الخلق. وفي هذا الصدد ترتبط التربية الإسلامية مع نمط متكامل من التوجيهات التي ترسم الطريق للإنسان، وتتلخص في:
1- الإيمان، أو ما يمكننا أن نسميه تربويًّا، الارتباط بالرقابة الذاتية النابعة من الجانب العقائدي الذي يربط الأرض بالسماء، وعمل الإنسان بفلسفة الجزاء “الثواب والعقاب”، الشيء الذي تعجز عنه القوانين الوضعية لارتباطها بالرقابة الخارجية وتوفر أدلة الإثبات.
2- الربط بين التربية ومبدإ الاستخلاف: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ﴾(النور:55)، وهذا الربط يشكل جوهر المنظور الحضاري في التصور الإسلامي.
3- التوازن والتكامل بين الجوانب العقلية والمادية والنفسية والروحية: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص:77). وبهذا تكون التربية الإسلامية هي “توجيه طاقات الإنسان الإبداعية إلى تحقيق العبودية لله تعالى، والتخلص من عبودية المكونات المادية التي تعتبر في فلسفة التربية الإسلامية وسيلة لا هدفًا”. وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد الغزالي: “ليس الدين أحكامًا جافة وأوامر ميتة، إنه قلب يتحرك بالشوق والرغبة، يحمل صاحبه على المسارعة إلى طاعة الله وهو يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾(طه:84)”(2).

مفهوم التنمية في بعدها الحضاري
من الخطإ أن نعتبر التنمية مجرد عملية اقتصادية، فنحصرها في مناصب الشغل مع إغفال مؤشرات التقدم والتخلف المرتبطين بالقيم، التي تحكم المسار الثقافي والاجتماعي والسياسي.
وفي هذا الصدد يقول الأستاذ عادل حسين في مقال له تحت عنوان “التراث ومستقبل التنمية”: “غني عن البيان أن حديثنا عن التطورات المقبلة خلال عقدين كاملين، هو حديث عن تنمية مركبة تشمل المجتمع كله، وتصيب مكوناته كلها -سياسية وثقافية واجتماعية إلى جانب المكون الاقتصادي- بشكل ينبغي أن يكون متكاملاً منسقًا… ويلاحظ في السنوات الأخيرة أن المتحدثين عن التنمية العربية، أصبحوا جميعًا يتناولونها باعتبارها عملية أوسع من أن تكون مجرد عملية اقتصادية، ولذا يتابعون باعتناء وتحفظ، مؤشرات التقدم في مختلف القطاعات وليس في القطاع الاقتصادي وحده”(3).
ومن هنا نقول، إن مهمة التربية الإسلامية لا تنفك عن المنظور الشامل للتنمية، بحيث لا تنحصر في إعادة إنتاج أساتذة المادة بقدر ما توجه وتربي كل الطاقات الفاعلة في ساحة التنمية، سواء في ذلك المهندسون والإعلاميون وتقنيو الفلاحة وملاحو الفضاء والبحر وغيرهم. فهي مكون لا ينفصل عن أي مجال، ولعل الذين يرون أن مادة التربية الإسلامية لا ترتبط بإستراتيجية التنمية، يعانون من فهم المدلول الشامل لها، فيرون أن فائضًا من الأساتذة المتخصصين يقتضي وقف آلة الإنتاج التي يتحكم فيها السوق بناء على قانون العرض والطلب.

دور العقيدة في توجيه حركة التنمية
لقد تركزت الأخلاق الاقتصادية في الغرب على أسس عقلانية نفعية صرفة، فكان الإخلاص في العمل، والوفاء بالعهد، وعدم الغش وغيرها، من مبادئ حسن التصرف. والإدارة تأخذ بعين الاعتبار عدم فقدان الزبون، وفي كتاب ثروة الأمم يعلن منظر الليبرالية “آدم سميث”: إننا لا نعتبر قوتنا منة من القصاب أو الخباز، بل إن عملهما يعود بفائدة عليهما، إننا لا نخاطب إنسانيتهما، بل أنانيتهما فلا نكلمهما عن حاجياتنا بل عن مصالحهما(4).
يدل هذا التحليل على الارتباط الصرف بالمصالح الآنية، وتختلف الوسيلة باختلاف نسبة ما يتحقق من هذه المصالح المادية الظرفية. ولعل هذا ما يفسر طغيان المصالح المركزية للغرب، حيث ترتبط التصرفات بفلسفة تربوية تعتمد المذهب الفردي. ويتجلى ذلك بوضوح، حينما يرتبط الأمر بحقوق الإنسان والحوار الحضاري والرؤية الجيوسياسية للعالم المقبل، فلا تكاد تحضر القيم الحضارية لكافة الشعوب في أي مشروع تغييري، ولا تتحدد المضامين المصطلحية للثوابت الحضارية “حقوق الإنسان – العدالة الاجتماعية – السلم – الحوار”، إلا وفق ما تنسجه مصلحة الغرب ولو على حساب المفهوم الحضاري للإنسانية. وهذا لا ينفك عن الفلسفة التربوية التي ذكرنا.

ولهذا يهبط المشروع الحضاري الغربي من محاور بالفكر إلى ملوح بالعصا كلما هددت مصالحه.
وإذا رجعنا بذاكرتنا إلى ما سبق وأن قررناه من أن فلسفة التربية الإسلامية قائمة على الارتباط بالجانب العقائدي الذي يخلق الرقابة الذاتية، وبمبدإ الاستخلاف الذي يأخذ بعين الاعتبار فلسفة الجزاء (ثواب – عقاب) كموجه أساسي، وبمبدإ التوازن انسجامًا مع مكونات الإنسان، تبين لنا أن أخلاقيات التنمية في المشروع الإسلامي، مرتبطة بما هو أبعد من تحقيق المصلحة الذاتية الفردية، إذ تعتبر العقيدة ورقابة الله تعالى ومبدأ التقوى، بوصلات موجهة لأي فعل اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي، فيقاس النفع والضرر بمدى الاستجابة لأمر الله وحقوق المكلفين -كما يقول علم الأصول- والتعارض بينهما قائم على درء المفاسد وجلب المصالح العامة، هو الموجه المتحكم.
وبهذا تكون العقيدة عنصرًا متحركًا، وليست إيمانًا جامدًا لا يتجاوز حدود القناعات الخاصة الداخلية غير المؤثرة في السلوك العملي، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل”(رواه البيهقي).
وبقراءة بسيطة لبعض نماذج الدعوة في القرآن الكريم، نرى كيف وظفت العقيدة كفلسفة تربوية متكاملة في إصلاح ما فسد من أحوال اقتصادية واجتماعية وسياسية، ومؤصلة لتنمية بديلة، ومن أمثلة ذلك:

نبي الله شعيب وإصلاح الفساد الاقتصادي
قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾(هود:84)، حيث ركز على العقيدة في النفوس أولاً، لأنها صمام الأمان وأساس الإصلاح والبناء. ثم بعد ذلك قال: ﴿وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾(هود:84-86).
لكن اختلال الموازين عند بعض القوم، أو ما يمكن أن نصطلح عليه في واقعنا الحالي “التفكير العلماني” أو “الفصل بين الدين والدولة”، استحكم في العقول فلم يستسيغوا هذا الربط بين مفاهيم العقيدة والفعل الاقتصادي: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾(هود:87).
ولكن شعيبًا وجه اهتمامهم إلى الجانب العقائدي، لضمان استمرار الفكرة من أن يكون أتباع كثر. فالعبرة بالكيف لا بالكم في المنظور التربوي الإسلامي، والعبرة بترسيخ المفاهيم لا بكثرة الرهط: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾(هود:92).

نبي الله لوط وإصلاح الفساد الاجتماعي
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾(الشعراء:160-166). والملاحظ أن الفساد الاجتماعي كسلوك عملي، لم يكن يتم دون إرساء فلسفة تربوية تنطلق من الجانب العقائدي: ﴿أَلاَ تَتَّقُونَ﴾، ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾، ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. قال ابن كثير: “فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والفواحش المنكرات والأفاعيل والمستقبحات، فتمادوا في ضلالهم وطغيانهم، واستمروا في فجورهم وكفرانهم، فأحل الله بهم من البأس الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم، وجعلهم مثلة في العالمين”(5). والملاحظ في عالم اليوم أن القيم التربوية اللبرالية لا تستسيغ وضع قيود على حرية التصرف إلى حد أدى إلى هتك العلاقات الاجتماعية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحد حملات التوعية بأخطار الأمراض المتنقلة جنسيًّا، ومؤسسات حماية الأسرة والطفل، والمظاهرات ضد العنف والاغتصاب، من حدة هذا الدمار ما دامت الفلسفة التربوية قائمة بالأساس على “دعه يعمل دعه يمر”. وقد أضحت مظاهر الخلل الاجتماعي القائمة عائقًا حقيقيًّا أمام التنمية على المدى البعيد، فيكفي أن تستنطق الميزانيات المخصصة لمؤسسات إعادة التأهيل ومحاربة المخدرات العيادات النفسية لنقف أمام ملايين الدولارات التي تحتاج إليها مؤسسات التنمية التي تهدف إلى البناء.

موسى عليه السلام وإصلاح الفساد السياسي
لا ينفك الإصلاح السياسي والتنمية في هذا المجال عن التصور العقائدي في المنظور الإسلامي، ومما يجسد هذه الرؤية على مستوى القصص القرآني قوله تعالى واصفًا الفساد السياسي القائم: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص:4)، وللإصلاح في هذا الوضع كان لابد من ترسيخ المفهوم العقائدي أولاً قال تعالى مخبرًا عن فرعون: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(طه:49-50)، وفي آية أخرى قال: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾(الشعراء:23-28).
والمعلوم أن تصحيح المفهوم العقائدي لبني إسرائيل، كان كافيًا ليخوض بهم البحر، وليجادل بهم سحرة فرعون، وليخلصوا للفكرة أيما إخلاص إلى أن قالوا لفرعون: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾(طه:73-72). وذلك بعد أن قال لهم فرعون مهددًا: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾(طه:71).
وهكذ أصبح الوضع السياسي القائم، مرفوضًا بعد وضوح البناء العقائدي السليم، فكانت التربية الإسلامية التي تركز مفاهيم الألوهية والربوبية لله تعالى، تعلم العالم والناس أن الحكم المطلق هو لله تعالى، وأن من ولاه الله شأن الناس وفقًا لمبادئ الشورى والبيعة لا يعدو أن يكون مكلفًا بحماية القانون الإلهي وتطبيقه، وهذا كله كفيل بأن يجتث جذور الدكتاتورية والاستغلال من المجتمع الإنساني.

(*) رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية الإسلامية / المغرب.

الهوامش
(1) منهاج التربية، لمحمد قطب، ج2، ص:7.
(2) الجانب العاطفي من الإسلام، لمحمد الغزالي، ص:6، دار الدعوة، ط1، 1990.
(3) مجلة الحوار، السنة الأولى، ص:21 وما بعدها.
(4) مجلة الحوار، السنة الأولى، ص:22.