التأسي بين التبرك والوظيفية: نحو استئناف التأسيس المنهاجي لعلم التعامل مع آثار النبوة

عانت البشرية كثيرا -ولا تزال- في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية من جراء عدم الاستبصار بمعالم وسمات الإنسان السوي والمجتمع السوي، اللذَين ينبغي أن يشكلا الوحدة القياسية التي يجب أن يُتيمّم شطرها بالمناهج والبرامج التربوية، وكذا بمختلف أنواع الكسب العلمي والعملي في المجالات الاجتماعية.
ولذلك نرصد في مختلف حقب تاريخ البشرية المعروف، كثيرا من التخبطات وأضرب الخرص في المجالات التربوية والاجتماعية والإنسانية بسبب غياب هذا الوعي الأساس.
وتأتي الأهمية البالغة للوحدة القياسية الدالة على حالة السواء، من كون التعرف على حالات الاختلال والانحراف لا يمكن بدونها، كما لا تمكن بدونها معالجة هذه الاختلالات والانحرافات. وهذه حقيقة ماثلة في مختلف مجالات العلوم المادية والإنسانية، غير أنها أجلى وأظهر في العلوم المادية البحتة منها في العلوم الإنسانية.
ولنأخذ مثالا على ذلك علم الطب. فهذا العلم يتمَفصل حول محاور ثلاثة:
1-العلم بالجسم وأعضائه في حالة السواء، والتعرف عليه شمولا وعلى وظائفه، ثم التعرف على أعضائه تفصيلا وعلى وظائفها، وهو علم الأناتوميا والهيستوسيتولوجيا.
2-العلم بحالات الانحراف والقصور التي تطرأ على الجسم وعلى أعراضها وأوصافها وأسمائها تفصيلا، هو علم السيميوباتولوجيا.
3-العلم بكيفية رد حالات الانحراف إلى السواء مرة أخرى بالصيدلة أو بالجراحة، وهو علم الفارماكولوجيا وعلم الجراحة.
والعلمان الثاني والثالث يتفرعان عن العلم الأول، إذ لولا العلم بحالة السواء وضبطها لما أمكن الوقوف على حالات الانحراف ثم لما أمكن ردها إلى حالة السواء بعد ذلك مرة أخرى؛ إذ كيف يُرَدُّ الاختلال إلى السواء إذا لم يمكن التعرف عليه؟ وهو أمر غير وارد ما لم تكن حالة السواء الشاهدة معروفة بتفصيل وتدقيق بحيث يسهل تبين التغيرات التي تطرأ عليها ذاتا وأداءً.
غير أن هذا -وكما سلف- رغم وضوحه في العلوم البحتة الكونية فإنه ليس بالوضوح نفسه في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

يوطبيات وأبطال

لقد حاولت البشرية في مختلف مواقعها عبر تاريخها الممتد أن تحل إشكال الوحدة القياسية على الصعيد الاجتماعي من خلال إنتاج “يوطبيات” حول طبيعة ومكونات المجتمع الفاضل والمدينة الفاضلة، وعلى الصعيد التربوي من خلال إنتاج مفهوم البطل.
أنموذجا على المحاولات في الجانب الاجتماعي، جهود أفلاطون في “المدينة الفاضلة” وجهود القدّيس أغوسطين في “مدينة الإله” وجهود الفارابي في “المدينة الفاضلة” أيضا. وكذا جهود كارل ماركس وبعده لنين وكذا تصورات كل من ستالين وهيتلر وموسوليني للمجتمع الفاضل؛ وهي يوطبيات جرّت لعدم مواءمتها لطبيعة الإنسان والكون على العالمين وبالاً غير قليل.
وأنموذجا على المحاولات في الجانب الفردي ما يوجد في الأعراف المصرية والإغريقية والهندية والصينية وفي حضارات بلاد الرافدَين وكذا في الحضارة الرومانية من إقامة النُّصب والتماثيل لأشخاص مختارين يرفعون إلى مصاف الأبطال ليكونوا مثلا تربوية يعاد إنتاجها، غير أن ضعف المؤهلات الإدراكية والآليات التفكّيكة لم يكن يمكن من الرسم العلمي والوظيفي لمعالم شخصياتهم وسمات نفسياتهم ومراحل مساراتهم، مما كان يؤدي في كثير من الحالات إلى الانحسار في التقديس.
ويمكن رصد الظاهرة نفسها في كتب “البانتاتوك” والأبوكريف اليهودية التي تبنّت بعضها النصرانية. وقد استمر هذا الخط في الحضارة الغربية المعاصرة إذ يلحظ استمرار البحث عن الأبطال لإرسائهم نماذج تحتذى وصب سمات شخصياتهم الأساسية في المناهج التربوية. غير أن هذا النهج كذلك لم يحقق لغياب الاستبصار بحقيقة الإنسان السوي ودوره الكوني إلا نتائج جزئية.

تقديس أم حرمان من ثمرات النبوة؟!

ساهم اعتقاد طوائف كثيرة من النصارى بأن المسيح ابن الله (!) في حرمانهم الكلي أو الجزئي من التأسي بنبي الله عيسى عليه السلام، إذ كيف يُتَأَسَّى بمن هو ابن الله؟! فكان هذا الاعتقاد متيحا لهامش غير قليل من راحة الضمير -ولو في حالة المخالفة لتعاليم المسيح عليه السلام – عند إنسان حضارة “Christendom” على حد تعبير “مارشال هودسون” لأن ذاك ابن الله، وإذا أخطأ الإنسان العادي في اتباع جوانب من تعليماته فلا حرج(!) الأمر الذي حاول القديس “بينيديكت” استدراكه في قانونه التربوي المشهور “Code de St Benedict”، غير أنه لصرامته الشديدة كان غير ذي قابلية للتحقق خارج بعض الأديرة المحدودة جدًّا.
ويمكن رصد القطائع نفسها بين النبي والأتباع -وإن بشكل مغاير- في ديانات أخرى بسبب رفع النبي فوق مصافِّ البشر؛ بل وربما إلحاقه في بعض الأحيان بمصاف الآلهة؛ مثل ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾ (التوبة:30).

الإسلام وردم الهوة بين المتأسي والمُتأسَّى به

حين نبحث إشكال التأسي في القرآن المجيد وفي السنة النبوية المطهرة نجد تمَحورا حول المحاور الكبرى الآتية:
1-النبي بشر عبدٌ لله مثل البشر، غير أنه اصطُفي بعلم الله ليوحَى إليه
ونجد ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله منها قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف:110). وقوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً﴾ (الإسراء:93). وقوله عز من قائل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ (الفرقان:6).
وتثبيتا لهذه الحقيقة قال صلى الله عليه وسلم: ” أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد، فإنما أنا عبد”(1). وقال عليه الصلاة والسلام: “إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد”(2). وقال صلى الله عليه وسلم منعا لأسباب إنتاج الفجوات السابقة(3) بين الأنبياء والمؤمنين: “لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم”(4).
وعموما فإننا نجد في القرآن المجيد التأكيد على عبودية الأنبياء عليهم السلام، سدا لكل ذريعة قد تؤدي إلى إحداث هوة بين النبي والمؤمنين. فقال عز وجل حكاية عن المسيح عليه السلام: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم:29-30). وقال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص:30). وقال عز من قائل: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ (ص:41).
2-التأسي في القرآن المجيد يتم بالنظر إلى النبي المثال، فبالنظر إلى الحال ثم العمل على الانتقال من الحال إلى المثال قال تعالى في معرض الكلام عن نبيه إبراهيم عليه السلام وعن أتباعه الخُلَّص: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ (الممتحنة:6). وقال سبحانه وتعالى عن خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب:21).
فالأنبياء إذن مثال هاد لمن قام في قلوبهم الشوق والتوق إلى ما عند الله سبحانه وتعالى وتجلى هذا الشوق وذاك التوق بالذكر الكثير له عز وجل. والأنبياء هم الوحدة القياسية المرجع التي تمثل حالة السواء الشاهدة التي ينبغي أن يرصد من خلالها الحال لكي يتم العمل العالم المهتدي على نقله إليها. فهو إذن شوق وتوق وذكر كثير ونبي شاهد وعمل دؤوب عالم ففضلٌ من الله كبير مع وجوب الانتباه إلى العقابيل الحائلة دون هذا الإنجاز الضخم (التأسي) الذي عليه يقوم تحصيل السعادتين في النشأتَين بالتوكل على الله تعالى.
3-النبي شاهد وشهيد مُؤَيَّد النبي هو الوحدة القياسية الشاهدة التي تمثل حالة السواء في المجال الإنساني والتي بالنظر الواعي إليها يتم التعرف على الاختلالات التي في هذا المجال جمعا وإفرادا. بذلك يحصل إمكان العمل على ردها إلى حالة السواء، وتلك نعمة من الله جُلَّى؛ حتى إذا تمت إفادة الأمة من النبي فإنها بدورها تصبح وحدة قياسية على الصعيد الاجتماعي والحضاري يمكن التعرف عليها من خلال التعرف على الاختلالات في هذه الأصعدة ومن ثم يُمكِّن هذا التعرف من العمل على ردها إلى حالة السواء(5) وهذا هو ما يتجلى في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج:78). وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة:143).
وحتى يكون النبي بعد اصطفائه لهذه الوظيفة التكوينية الخطيرة قادراً على الاضطلاع بها، يكون إنعام الله بالتأييد. قال تعالى في معرض الكلام عن الرسل عامة ومن اتبعهم من المؤمنين: ﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ (المجادلة:21-22).
وقال سبحانه وتالى عن نبيه عيسى عليه السلام: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ (المائدة:110). وقال تعالى عن نبي الختم صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال:62).
كما أن النبي لهذا القصد -قصد أن تمثُل فيه الوحدة القياسية الشاهدة- يُصنع ظاهراً وباطنا على عين الله. وقال سبحانه وتعالى عن نبيه موسى عليه السلام: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طه:39). وقال تعالى: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ (طه:41). وقال سبحانه وتعالى عن خاتم النبيين: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ (الشرح:1-4). وقال صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى: “أدّبني ربي فأحسن تأديبي”(6). فكانت النتيجة في حقه صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم:4).
ومن أجل ذلك كان اتباعه والتأسي به صلى الله عليه وسلم هو المرقاة إلى مرضاة الله ومحبته. وقال عز من قائل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران:31).

نحو استئناف التأسيس المنهاجي لعلم التعامل مع آثار النبوة

إن مكونات علم التأسي منتثرة بفضل الله في سجلات السنة النبوية المطهرة ومجامع التفسير ومصنفات علم التزكية والتصوف وكذا في كتب الفقه والأصول ولا تحتاج إلا إلى الجمع والمنهجة.
فالآيات المباركة في كتاب الله الكريم قد ألقت الأنوار حول الصفات المحورية للأنبياء والرسل وفي مقدمتهم إمامهم وخاتمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. كما أن المصنفات في الشمائل النبوية وفي دلائل النبوة قد ألقت الأضواء على شهادته صلى الله عليه وسلم وعلى هديه عليه الصلاة والسلام. كذلك، فكتب السيرة عامة قد حاولت رصد حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم بدقائقها وتفاصيلها، فحصلت عندنا بحمد الله مجامع ما تحتاج إلا إلى التثمير والتوظيف.
ويمكن تبيُّن المعالم الكبرى لعلم التأسي على المستويين الفردي والجماعي كما يأتي:
1-الوحدة القياسية على المستوى الفردي
لقد ساد بين المسلمين في الأزمنة الأخيرة من تاريخهم، على خلاف ما كان عليه الأمر في عهد الصحابة الكرام رضي الله عنهم، التعامل التبرّكي مع آثار ودلائل النبوة وشمائل النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة عليه الصلاة والسلام. وفي ذلك خير كثير في ذاته، غير أنه لو شُفِع بالوظيفية لكان الخير أعم وأتم، ونقصد بالوظيفية هنا أن يتم طرح الأسئلة العملية على آثار النبوة من أجل تبين أوجه الشهادة النبوية في مجال مخصوص، وتحديد منهجية الرد إلى الوحدة القياسية..
وهي أسئلة لا يمكن طرحها بطريقة سليمة إلا من لدن العالمين بالمجال قيد الدرس، إذ العلم بالمجال هو الذي يمكّن من تلمس مواطن الهدي النبوي فيه للتأهيل الناجم عن استتباب التضاريس المعرفية والمركبات المفاهيمية والأنساق القياسية ذات الصلة بالمجال في أذهان المشتغلين به، مما لا ينتج إلا بطول الممارسة للبحث في مجال معين، والتعاطي مع المشاكل المنهجية التي فيه.
ففي التربية مثلا، لن يكون أقدرُ على مساءلة آثار النبوة في هذا المجال من التربويين، لمكابدتهم له ولمعاناتهم البحثية داخله، معاناة تنشئ الشوق والتوق وكذا الاستعداد لوجدان الحلول.
وهل أقدر على استجلاب الدرّ من أعماق البحار ممن يعرفه ويعرف قيمته؟!
وأجلى مثال على ذلك في مجال التربية محاولة الجواب عن السؤال المؤرّق الذي مفاده: من هو الإنسان الأمثل الذي ينبغي أن يكون القطب الجاذب للمناهج والبرامج التربوية بحيث تتغيَّى الوصول بالخاضعين للعملية التربوية إلى أفقه، دونما خشية من آثاره المضادة؟
وإذ إن البشرية اليوم تعيش في حيرة بهذا الخصوص من جراء توهم عدم التوافر على مثال حي خلو من النقائص، فإن أهل الاختصاص -بدعوى الوظيفية- يحاولون النظر في ما هو متعارف على كونه مشروعا مجتمعيا لاستخلاص مختلف الاحتياجات في الموارد البشرية ثم لتصيير تيسير هذه الاحتياجات وتوفيرها أهدافا تربوية تسكب في البرامج التربوية وتبدع مناهج تربوية وتُصمَّم لتحقيقها.
وإذا علم أن المشاريع المجتمعية نفسها ناتج التدافع بين موازين القوى في المجتمعات فإن الأمر يصبح أكثر تركيبا وتعقيداً. فالأقوى والأكثر نفاذا هم الذين يصوغون معالم المشروع المجتمعي ويشكلون العقول لقبوله، وذلك عن طريق خماسي: الإبستيم والأكاديم والاقتصاد والسلطة والإعلام.
فالإبيستيم الذي يجمع بين الرؤية للعالم “الكوسمولوجيا” والأطر المرجعية/البرادكمات (Paradigma) واليطوبيا والمنهاجية. إما أن يكون وليد -انطلاق استنباطي من الوحي- أو توليد فلسفي مقولاتي نسبي حر، أو إملاء متحكم “نومونكلاتورا” يفرض ما يريد مثل ما نقل عن فرعون في كتاب الله ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر:29). وجلي أن النمط الأخير هو السائد في عالمنا بألطف الطرق وأدقّها أحيانا، وبأصفقها وأعنفها أحيانا أخرى.
فبما أن الأكاديم يأتي في الدرجة الثانية ضمن النمط الإملائي التحكمي بخلاف النمط الاستنباطي من الوحي والنمط الفلسفي المقولاتي النسبي الحر حيث يكون الإبيستيم متفرعا عن الأكاديم، بما أن الحال كذلك في النمط الإملائي التحكّمي، فإن الفرد المتحكم أو الجماعة المتحكمة تكون هي المنتجة للإبستيم والفارضة له على الآخرين. وهذا لا يُخلي بحال ساحة الخاضعين من المسؤولية. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (الزخرف:51-54).
ويأتي دور المكون الاقتصادي الذي يكون عموما بأيدي فارضي النوموكلاتورات بتصيير الأكاديم في وضع التابع حتى في عين كينونته، إذ التمويل للجامعات ومراكز البحث والأبحاث التي تُجرى فيها يصبح مشروطا بالسير في سياق الإبستيم السائد، رغم أن الحق مع موسى عليه السلام!
فيقع الأكاديم في التنظير لأنماط التوجهات والسلطة المادية والمعنوية والدساتير والقوانين والوسائل المُمَكّنة من حماية وتنـزيل الإبيسْتيمات السائدة فهي حماية متبادلة بين السلطة والإبيستيم المسخر للأكاديم.
ليرفد الأكاديم بعد ذلك الإعلام بحمولاته الداعمة الداعية إذ لن يُنتِج الأكاديم في هذه الحال إلا التوجهات والرؤى المتفرعة عن الإبستيم الحاكم.
فهذه حلقة مفرغة محكمة قادت وتقود العالم نحو أزمات صفيقة. وآية إفراغها وإحكامها أن المشاريع المجتمعية التي من المفروض أن تستهدي بها علوم التربية في وضع البرامج والمناهج التربوية لن تمنح سوى هذا الهدي التحكمي المُفرغ للإنسان من إنسانيته.
ومن هنا فإنه لا سبيل للخروج من هذه الأزمة إلا بالتعرف على الإنسان الشاهد -الوحدة القياسية- الذي يمثل حالة السواء والذي من خلال التعرف على بنائه النفسي والشخصي والقصدي يمكن الشروع في العمل على إنتاج العلوم الوظيفية والمناهج العملية الممكّنة من ردّ الاختلالات إلى حالة السواء. وهنا الدور المحوري الخطير لوظيفة النبوة ووظيفة الذكر الذي تأتي به متى ما حلَّ الرشد في التعامل معهما والتأسي بهما.
فالتعرف على حالة السواء -وكما تقدم- يمكّن من تجريد المثال التفصيلي الذي ينبغي أن يشمّر -من خلال البرامج والمناهج- للسير بالمتربِّين نحوه بغير عِوَج ولا أَمْت. وهذا مضمار -في العلوم التربوية- للبحث والإبداع فسيحٌ خصيب.
ودائما في علاقة بالوحدة القياسية على المستوى الفردي فإن علم النفس وعلم النفس السلوكي وعلم التحليل النفسي كلها علوم تعاني الأمرَّين لغياب العلم بماهية حالة السواء، ولا شك أن أهل هذه المجالات إن أعملوا عقولهم ووجداناتهم لتجريدها من آثار النبوة، فسوف يحلُّون إشكالات أليمة ومكلِّفة.
إن إنعام الله بأن تولَّى سبحانه وتعالى في مرحلة الختم بذاته العليَّة حفظ الذكر: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9)، فحفظت بذلك آثار النبوة المنيرة، واستمر إمكان التعرف على النبي الشاهد وعلى حالة السواء من خلاله.. إن هذه النعمة الجُلَّى إن شكرت بحسن التوظيف والتثمير، ولم تُكفر بالإنكار والاستهتار لَمِن شأنها أن تهدي العالمين إلى مستقبلات أكثر إشراقا.
2-الوحدة القياسية على المستوى الجماعي
لقد عانت البشرية كثيرا على الصعيد الاجتماعي من آثار الجهود الخارصة لتبيّن معالم وسمات العمران البشري الأمثل، كما عانت عبر تاريخها من إملاءاتِ وتحكماتِ المستبدّين أفرادا وجماعات. وقد كانت الذعائر والتكاليف باهضةً، إذ كم قُدّم ويقدّم من الأبرياء الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا حطبًا لهذه المشاريع اليوطوبية، ليتبيّن بعد حين أنها لم تكن سوى سراب يباب، ولات حين مناص، وما الحالة السوفياتية منّا ببعيد.
وبما رحمة من الله تعالى فقد جعل سبحانه وتعالى الوحدة القياسية على المستوى الاجتماعي تتمثل في المجتمع النبوي حيث تمكن النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم من جعله بهداية الله وتوفيقه يَنُثُّ كله بالهداية للتي هي أقْوم فضاءً وعمرانا وإنسانا ووظائف ومراكز وعلائق.
وقد كان البدء بأن تم تغيير اسم مهاجر الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم من طَيبة ويثرب إلى المدينة -بألف ولام التعريف- ليفهم أن العمران الشاهد كان هو ذاك.
ولئن تكلم الفلاسفة عن المدينة الفاضلة وتاقوا إلى التعرف على الوحدة القياسية بهذا الخصوص، فإن النبوة -بأمر الله وفضله- قد أنشأتها واقعا حيا نابضا حفظت معالمه المركزية رغم كل التفريط والتقويض الذي يَبْدُر مثله عن البشر.
فالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم قد زرع آيات الوحي وعلاماته وبصائره في نفوس أصحابه الكرام رضي الله عنهم، فَانْدَهَقَتْ منها إلى واقعهم لتكون هاديات خالدة للمحجة البيضاء التي لَيلُها كنهارها ولا يزيغ عنها إلا هالك.
إن في كتاب الله كما في سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البنيات الوافرة على السُّلَط والمراكز والأدوار و التدبيرات والوظائف والعلائق والنماذج والأخلاق والقيم التي ينبغي أن تَشْخَص في المجتمع الشاهد؛ في حالة السراء وفي حالة الضراء، في حالة الشدة وفي حالة الرخاء، في حالة السلم وفي حالة الخوف وكذا الحرب واللأواء،(7) مما ليس ينتظر إلا العقول المتمرسة الخبيرة لطرح الأسئلة المنهجية من أجل رفع صرح علم التأسي على الصعيد الاجتماعي.
خاتمة
وجب ختاما التنبيه إلى بعض الأسس المهمة من أسس علم التأسي وآكدها:
1-أن يعلَم المتأسّي حيثياث السياق الزماني والعمراني الذي يوجد فيه، وحيثيات سياق المتأسى به صلى الله عليه وسلم الزمانية والعمرانية والبيداغوجية. (8)
2-أن يعلَم المتأسي الفروق الأنتروبولوجية والثقافية والعُرفية وغيرها بين السياقين حتى إذا ساءل في أي مجال من المجالات، استدمج هذه الفروق ليكون التنـزيل سليما، ولا يخفى ما يقتضيه هذا من جهد بحثي ممنهج.
3-أن يستدمج المتأسي العلم بالمقاصد العامة للنبوة، رحمتها وجمالها وشرائعها حتى لا يفرط في الأصول لحساب الفروع أو يقدم ما من شأنه أن يؤخَّر أو العكس… وهذا داخل ضمن فقه الموازنات والترجيحات. وقد قام علماء الأمة جزاهم الله خيرا بجهود وضيئة في هذه المضامير.
4-أن يستحضر المتأسي وجوب النظر في المآلات، واعتبارها حتى لا يكون جالبا لمفاسد على نفسه ومحيطه من حيث يريد جلب المصالح، وكثيرا ما يحصل ذلك إذا أغفل البعد المستقبلي في التنـزيل.
5-كما أن من آكد الشروط أيضا وجوب المقاربة التكاملية التي لا تهمل جانبا من الجوانب أو تطغيه، بل تحرص على حضورها ومراعاتها جميعا بشكل مقدّر متوازن.
وبدون مراعاة هذه الشروط فإنه لا يمكن تفعيل وظيفة ودور الشهادة كما جاءت في مثل قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة:143).
بقيت الإشارة أخيرا إلى أن في تراثنا جهوداً مباركة وجب استئنافها في هذا الاتجاه لعلماء أفاضل هم بسبق حائزون تفضيلا مستوجبون من أمتهم ثناءها الجميل، كأمثال القاضي عياض السبتي في “شفائه” والشاطبي في “موافقاته” و “اعتصامه” وابن القيم في “زاد المعاد” والصالحي في “سبل الهدى والرشاد” وشاه ولي الله الدهلوي في “الحجة البالغة” وبديع الزمان سعيد النورسي في “رسائل النور” وعبد الحي الكتاني في “التراتيب الإدارية في الحكومة النبوية” وغيرهم ممن وجب البناء على جهودهم وتثميرها.
كل ذا دون فقدان الاستبصار بأنه رغم كل ما يمكن أن يبذل في مجال علم التأسي، فإنه يبقى مجالا متجددا بتجدد الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف والعادات. ويرحم الله الإمام السهيلي إذ سَمّى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الروض الأُنُف”(9).
والحمد لله رب العالمين.
____________________
الهوامش
(1) شعب الإيمان للبيهقي، 5/107.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي، 9/20؛ ابن ماجه، الأطعمة 30.
(3) فالنبوة مؤسسة واحدة تتكامل لبناتها ويستدرك اللاحق منها بمنهجية التصديق والهيمنة ما كان في السابق ليخلص البناء في النهاية كاملا شاملا حجة ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء:165). ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة:285).
(4) البخاري، أحاديث الأنبياء 48
(5) يلاحظ أن حالة السواء في كتاب الله نسق مفتوح آخذ بعين الاعتبار للخصوصيات والسياقات، وهو ما نرجو بعون الله تفصيل القول فيه في بحث لاحق.
(6) فيض القدير للمناوي، 1/224.
(7) وما أروع الصورة المشرقة التي يعرضها كتاب الله لمجتمع المدينة الشاهد وهو بعد في طور التكوين في مثل قوله تعالى من سورة الحشر ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (الحشر 9-10). وفي سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والفرقان والطلاق والمجادلة وغيرها غرر بهذا الصدد لا تنتظر إلا التجلية المتجددة. ولعل تنبه الإمام مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه إلى هذه الحقيقة بشكل عام كان وراء افتراعه لأصل من أصول مذهبه المبارك، حيث جعل “عمل أهل المدينة” أصلا من أصول التشريع لما تضمنه هذا المجتمع الشاهد من هاديات لن تتكشَّف كل حقائقها إلا عبر الزمن. كما علم أهل المدينة أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتنبُّهِه إلى أهمية حفظ هذه الوحدة القياسية الاجتماعية في مرحلة التكوين حتى تثبت أركانها، كان قد نهى الصحابة رضوان الله عليهم عن مغادرة المدينة المنورة حتى يستتبّ البناء وتُحفظ الشهادة، فلم يتمكنوا من مغادرتها إلا بعد وفاته رضي الله عنه.
(8) لأنه صلى الله عليه وسلم جاء معلما للناس ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:151). فوجب أن يؤخذ هذا الجانب التعليمي أيضا بعين الاعتبار حين التأسي.
(9) أي الروض البكر الذي لم يُدخَل قط.