البيئة الراعية للعبقريات

إن المجتمعات التي تسمى “متقدمة” في عالمنا المعاصر كانت في ماضيها تعاني مما نعاني منه اليوم، وتتخبط كتخبطنا، وتكتوي بنارِ عذابٍ كعذابنا. فإذا بأيام قد جاءتها فُتحت فيها أبواب التجديد على مصاريعها بفضلِ ما كانوا يتمتعون به من عشق للبحث وشغف للعلم وجدية في العمل ومكافأةٍ لأهل النجاح بأجزل المكافآت. فظهر النجاح إثر النجاح، مما أدى إلى مزيد من التطلع واتقاد العزائم. وصارت البيئة عندهم راعية لفسائل العبقرية، فتوالى الاختراع إثر الاختراع من مكائن البخار إلى مصانع النسيج، ومن مختبرات الأبحاث إلى المطابع، وبلغوا بعد مدةٍ عصرَ العلم والعقولِ الألكترونية.

إن العبقرية في أرض غير أرضها محكوم عليها أن تكون كعصفٍ مأكول، كما البذرة محكوم عليها بالفناء في أرض لا تُرعى فيها بالهواء والماء.

تكريم النجاح

ولما بادر من يقدِّرون العلم في تلك الأيام إلى مكافأة أصحاب الكشوفاتِ والاختراعات والأبحاث العلمية، فقد صاروا وسيلة لتفتق قابليات عظيمة في كل مكان لِتجدَ فرصتها في النماء والتطور، فكأن أطراف بلادهم معرض العجائب لأعمال نوابغهم الذين لا يَعرفون الفتور.

وكما تعاقب ظهور العلماء في عالمنا الإسلامي من أمثال ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي والزهراوي إبان تحقُّق الوسط والبيئة الشبيهة، كذلك استَخدم الغربُ ما تَوارَثَه من المكتسباتِ خير استخدام وبأوسع وجه ممكن في ذلك الوسط، واستطاع أن يسِمَ القرون الأخيرة بسِمَتهِ.

إن النجاحات الخارقة التي تحققت أمس وتتحقق اليوم مرتبطة بالبناء الاجتماعي المولد للعبقرية والبيئة الراعية للقابليات.

لذلك، من الغلط أن نحصر حاضر “الغرب” في آثار جهود علماء ذوي قابليات راقية، مثل كوبرنيك وغاليلو وليونارد دافينشي ومايكل أنجيلو ودانتي أو أديسون وماكس بلانك وآينشتين. فلا يمكن أن نُرجع “النهضة العلمية” أمس ولا الطفرة العلمية والتكنولوجية اليوم إلى مساعي عدد قليل من أمثالهم فحسب. وإلا، فإننا سنواجه مشاكل نعجز عن إيضاحها في ضوء قانون “العلة والمعلول”.

البيئة والعبقرية

فإن النجاحات الخارقة التي تحققت أمس وتتحقق اليوم، والتكوينات العالمية الكبرى، مرتبطةٌ -إضافةً إلى عبقرية الأفراد ونبوغهم- بالبناء الاجتماعي المولدِ للعبقرية، والوسطِ المناسب لتنشئة المكتشِفين، والبيئةِ الراعية للقابليات.

إن الحديث عن البيئة الحاضنة ما زال يرِد حيثما يرِد ذكر همة أصحاب الاستعدادات السامقة وجدِّهم وجهدهم، بل كثيرًا ما يتفجر دهاء أصحاب المواهب العظيمة والعباقرة السامقين بقدر ما تسمح به البيئة العامة. وإن تَوَقُّع ما يخالف ذلك غير مُجدٍ اليوم أيضًا، لأنه ما من أحد يَقوى على تغيير قواعد “الشريعة الفطرية”. فمن يناطح السنن الكونية فسيخرّ منهزمًا، عاجلا أو آجلا.

علينا أن نبحث عن تطلعات مستقبلنا في نقطة تلتقي فيها البيئة الصالحة مع عشق العلم وعزم العمل والبحث المنهجي.

إن العبقرية في أرضٍ غير أرضها محكومٌ عليها أن تكون كعصفٍ مأكول، كما يُحْكَمُ على البذرة بالفناء في أرض لا تُرعى فيها بالهواء والماء والطاقة الإنمائية.

إذن علينا أن نبحث عن تطلعات مستقبلنا في نقطة تلتقي فيها البيئة الصالحة مع عشق العلم وعزم العمل والبحث المنهجي. فإذا ما أثارت البيئةُ الصالحة العشقَ العلميّ وألهبت العزائمَ على السعي والإنجاز، فستشعر القلوب الحساسة بذلك في أعماق كيانها بعملية امتصاص خارقة، ثم تقوِّمه، ثم تضعه موضع التنفيذ في إطار منهجية معينة. وبعد ذلك، تعمل “الدائرة الصالحة” للارتقاء بإلهاماتٍ وتداعيات وتركيبات وتحليلات جديدة تعقبها –باستمرار واطراد- جهود فكرية نُظُم منسجمة مع مقوماتنا الذاتية متوافقة مع مبادئنا ورؤانا الحضارية.

المصدر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص: ١٦-١٨، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١١، الطبعة الثانية، القاهرة

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.