الاضطرابات النفسية بين نظريات الطب النفسي وحقائق القرآن الكريم

الاضطرابات النفسية هي انحرافٌ في سلوك الإنسان وتصرفاته يؤدي به إلى الضعف والقلق والصراع النفسي، ويصبح عاجزاً عن ممارسة حياته بصورة سوية.
وأنواع الاضطرابات كثيرة، من أشهرها القلق والاكتئاب والوسواس القهري وتوهم المرض والخوف (الرهاب) والأرق.
ولا يزال علماء الطب النفسي يجاهدون لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء هذه الاضطرابات التي أصبحت من أبرز ظواهر هذا العصر. وتشير الإحصائيات التي أجريت في عدد من العواصم العالمية، إلى وجود أعداد هائلة من المرضى الذين يعانون من اضطرابات نفسية، وقدرت أعدادهم في الولايات المتحدة قبل نصف قرن بما لا يقل عن عشرة ملايين شخص. ورغم كل ذلك يقف علماء الطب النفسي -حتى الآن- عاجزين عن الوصول إلى الأسباب الحقيقية وراء هذه الاضطرابات. فكل ما توصلوا إليه لا يعدو أن يكون من قبيل النظريات التي وجدت لها في الواقع بعض الدعم.
ويعتذرون عن تأخرهم في الوصول إلى الحقيقية بأن المعلومات عنها لا تزال شحيحة نظراً لتعقد الظاهرة النفسية، وقدرة المصاب بها على المقاومة والتعمية.
وإذا كان هذا العذر قد يبدو مقبولاً من أولئك الغربيين الذين أقصوا الوحي من مصادر المعرفة وقصروها على الواقع المشاهد فقط من خلال التجريب، فالباحث المسلم غير معذور البتة، لأنه لم يقع في المعاناة التي وقعوا فيها والتي فرضها الصراع بين المنهج التجريبـي ودينهم. فقد أثبتت الدراسات وبشكل لا يدع مجالاً للشك، التوافق التام بين ما ثبت من الحقائق العلمية عن طريق المنهج التجريبـي وبين ما ثبت عن طريق القرآن الكريم.
وأبرز الأسباب التي استأنسوا بها حتى الآن أربعة هي:
أ- العوامل المتصلة بالتنشئة الأسَرية: ويعبرون عنها أحيانا بالخبرات المؤلمة زمن الطفولة الباكرة، كحرمان الطفل من الحب والتفاهم والقبول، وعدم حمايته من رفقاء السوء أو من الخبرات السلوكية الضارة أو من المعارف المعوقة للنمو الأخلاقي السليم.
بـ- العوامل الاقتصادية والاجتماعية: ويعبر عنها أحيانا بالأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي، كالتعطل عن العمل أو الانتماء إلى طبقة اقتصادية متدنية في مجتمع الفوارق الاقتصادية أو الشعور بالضعة الاجتماعية أو ضعف السند في مجتمعٍ معيارُ الترقي فيه الواسطةُ والمعارف والعائلة.
جـ- العوامل النفسية: ويختلفون في التعبير عنها تبعا للمدارس المتنوعة التي ظهرت في هذا العلم. فقد اهتم التحليليون النفسيون بالصراعات النفسية اللاشعورية، وزعموا أنها ناتجة عن دفعات غريزية أو عن مكبوتات باحثة عن اللذة دونما أي قيد أو عن صولة القيم المغالية التي تحاول -حسب زعمهم- أن تسلخ الفرد عن واقعه وتغربه عن هذا الواقع.
وذهب أصحاب المدرسة السلوكية إلى أن الصراع النفسي الناتج عن مواقف الاختيار التي يفشل فيها الفرد في اتخاذ القرار، والمعارف الخاطئة التي يحصل عليها، والوجدان السلبـي نحو ما يحيط به من أحداث، تعتبر كلها عوامل تساهم في إحداث الاضطرابات النفسية.
د- العوامل الوراثية: وقد اعتمدوا في تأكيدهم لدور الوراثة في إصابة الإنسان بالاضطراب النفسي على النتائج التي توصلوا إليها عندما وجدوا أن نسبة الإصابة بالفصام عند التوائم الحقيقية أكثر منها عند التوائم الكاذبة، كما أن احتمال إصابة الابن بالتبني من أبيه المصاب أقل وقوعا منه في أبنائه الحقيقيين.
هذه هي أهم الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالاضطراب النفسي عند علماء النفس، وهي ليست على درجة واحدة من التأثير في الإنسان، بل إنهم اختلفوا في مستويات تأثيرها، وتشكل من هذا الاختلاف ثلاث نظريات:
1- النظرية البيوفسيولوجية
وقد اعتبر أصحاب هذه النظرية أن الوراثة هي السبب الأول والأخير في إصابة الإنسان بالاضطرابات النفسية وقالوا: “إن الوراثة هي التي تحدد خصائص الشخصية، وتحدد البيئة التي تنمو فيها، فارتقاء الإنسان السوي والشاذ محدد من قبل الجينات”. وشخصية الإنسان عند أصحاب هذه النظرية كالفيلم الذي تم تصويره، والبيئة كالأحماض التي تستعمل في إظهار ما على الفيلم، وسلوكه مرآة لما طبع في شخصيته من خصائص وراثية مبرمجة في جيناته قبل أن يولد. وهذا يعني عندهم أن سلوك المنحرف رد فعل لتركيبه البيولوجي.
غير أن النتائج التي توصلوا إليها لا تزال مثار شك كبير، لأن معظم الفصاميين ليسوا من التوائم، وليس بين أيدينا ما يثبت انتقال الصفات النفسية من خلال الجينات.
2- النظرية البيو-اجتماعية
ويركز أصحابها على دور الوراثة الأكبر في الانحرافات النفسية، لكنهم يعطون للبيئة دورا في ذلك فيقولون: “إن الخلل النفسي الوراثي المنشأ لا يفعل فعله إلا إذا تهيأت له ظروف بيئية ضاغطة”.
وقد علق الدكتور كمال إبراهيم مرسي على النظريتين السابقتين بأنهما بالَغَتا في تضخيم دور الوراثة وتهميش دور البيئة، حتى أصبح السلوك الإنساني جبريا مقدرا في الجينات، وسجل عليهما عددا من الملاحظات من أهمها:
• فشلهما في تفسير الانحرافات النفسية التي ليس لها سبب عضوي.
• فشلهما في تفسير عدم انحراف كثير من الأشخاص الذين يحملون شذوذا فسيولوجيا أو خللا بيولوجيا.
3- النظرية التفاعلية
ويرى أصحاب هذه النظرية أن الاستعدادات النفسية التي تجعل الشخص مهيأ للانحرافات النفسية الظاهرة تتكون من تفاعل المعطيات الوراثية المعيبة، والظروف البيئية الضاغطة، فلا الوراثة وحدها كافية لنموها، ولا الظروف البيئية الضاغطة وحدها كذلك، بل لابد من تفاعل كلا الأمرين معا.
القرآن يقتلع الاضطراب النفسي
والمتأمل في النظريات المتقدمة يدرك أنها تدخل ضمن الإطار العام للعلم الذي حث القرآن الكريم على طلبه والوصول إليه في غير ما آية من كتاب الله عز وجل، بيد أنها تبقى ضمن دائرة احتمال الخطأ والصواب. وهذا الاحتمال يقف منه القرآن الكريم موقفا داعما لبذل مزيد من الجهد والدراسات فيه حتى يصل إلى درجة الحقيقة العلمية.
ويستثنى من إطار النظريات التي يدعمها القرآن الكريم تلك التي بناها أصحابها -بقصد أو بغير قصد- على أسس وقواعد تتناقض مع حقائق القرآن الثابتة.
ومن هذه النظريات، النظرية البيوفسيولوجية والتي اعتبر أصحابها أن الوراثة هي السبب الأول والأخير في إصابة الإنسان بالاضطرابات النفسية، وبالتالي فإن سلوكه المنحرف ما هو إلا رد فعل لتركيبه البيولوجي.
فهذه النظرية تتصادم مع مسلمات القرآن الكريم في تأكيده على منح الإنسان جزءاً من الحرية لاختيار الخير أو الشر، الفساد أو الصلاح، الهداية أو الضلال.. ومن ثم طلب منه السعي إلى سلوك طريق الهداية وتزكية النفس، ووعده الثواب على ذلك، ونهاه عن سلوك طريق الغواية واتباع هوى النفس، وأوعده العقاب على ذلك. قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(النازعات:37-41)، وقال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس:7-10).
وفي مقابل ما توصل إليه الطب النفسي من أسباب لحدوث الاضطرابات النفسية، نجد القرآن الكريم يشير إلى السبب الرئيس والأهم في إصابة الإنسان بالاضطراب النفسي، ألا وهو الجهل بالحقيقة المطلقة لهذا الوجود. وهذا الجهل ناتج عن الكفر بالله والبعد عن الركون إلى جنابه العظيم.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بألفاظ مختلفة. تأمل على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾(الكهف:28)، وقوله سبحانه: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة:257)، بل تأمل معي قوله تعالى وهو يسبر أغوار النفوس ليصف لنا حقيقة المؤمن بالله وما يتمتع به من أنوار، وحقيقة الكافر به وما يخيم على قلبه من ظلمات فيقول: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(الأنعام:122). ومن هنا كانت حياة القريبين من الله مليئة بالسعادة الحقيقة مهما اكتنفها من مصاعب أو ظروف، بينما نجد أن حياة البعيدين عنه سبحانه في شقاء وضنك مهما تيسر لها من المتع والملذات: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾(طه:123-124).
ولست بحاجة لأن أُجرِي أية إحصائية أو دراسة تحليلية لمعرفة مدى انطباق هذه القاعدة الكلية على الواقع، ليس من مبدأ إيمانِي العميق بما يقوله القرآن الكريم فحسب، بل بما أشاهده وأعايشه وأعاينه كل يوم من الوقائع القريبة والبعيدة وعلى امتداد العام بأسره.
الإيمان يجلب الطمأنينة
ومن هنا يقول سيد قطب رحمه الله: “والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع.. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه، ضنك الحيرة والقلق والشك، ضنك الحرص والحذر؛ الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت، ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت، وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله، وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان”.
يقول “كارل يونج” أحد المحللين النفسيين: “استشارني في خلال الأعوام الثلاثين الماضية أشخاص من مختلف شعوب العالم المتحضرة. وعالجت مئات كثيرة من المرضى، فلم أجد مريضا واحدا من مرضاي الذين كانوا في المنتصف الثاني من عمرهم -أي جاوزوا سن الخامسة والثلاثين- من لم تكن مشكلته في أساسها هي افتقاره إلى وجهة نظر دينية في الحياة. وأستطيع أن أقول إن كل واحد منهم قد وقع فريسة المرض لأنه فَقَدَ ذلك الشيء الذي تمنحه الأديان القائمة في كل عصر لأتباعها، وإنه لم يتم شفاء أحد منهم حقيقة إلا بعد أن استعاد نظرته الدينية في الحياة”.
ومن أراد الاطلاع على شواهد هذه الحقيقة فليقرأ بتمعن تاريخ المجتمع الإسلامي الأول الذي عاشه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوانه الله عليكم أجمعين. فقد سطرت لنا كتب الأحاديث النبوية والسيرة والتاريخ أن هذه الثلة من الناس قد وصلت في عيشها إلى ذروة الاطمئنان النفسي، رغم كل الأخطار التي كانت تحدق بها، والظروف الصعبة التي كانت تمر عليها من جوع وفقر وشدة.. ولم يسطر لنا التاريخ في مراحله الطويلة أن جماعة من الناس استطاعت من فرط الاطمئنان النفسي أن تنام بين صفي القتال رغم قلة عددها وعدتها وكثرة عدوها وشدته سوى هذه الثلة التي ملأت قلوبها إيمانا بالله وحبا له واعتمادا عليه.
والسؤال الذي يفرض نفسه في نهاية المطاف هو: لماذا أغفل علماء الطب النفسي هذه الحقيقة رغم اعترافهم الصريح بعدم الوصول حتى الآن إلى الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء الاضطرابات الإنسانية؟
والجواب يكمن كما أشرنا في بداية الحديث في التصور المعرفي الذي هو بمثابة العقيدة التي يفسر الباحث أو الطبيب من خلالها الظاهرات التي يدرسها، ويشتق منها المسلمات التي يستند إليها في بحثه.. وهذه العقيدة أو هذا التصور -كما قلنا- إذا كان صوابا وجّه الباحث وجهة صحيحة، وإذا كان منحرفا فالنتائج التي يقود إليها منحرفة.
والحديث عن مكمن الانحراف في هذا التصور يتلخص في إنكار الوحي الصادق الذي أدى إلى حرمان الفكر الغربي كثيرا من الحقائق والعلوم التي جاؤوا بها.