لقد أسهمت الحضارة الإسلامية منذ نشأتها إسهامًا كبيرًا في توسيع دائرة العلم والمعرفة والطب والفلسفة.. مما حوّلها في وقت قصير إلى وجهة يُقبل عليها الراغبون، ومنارة تنير درب التائهين. ولكن كما تقدّّم الزمن انحسرت هذه الحضارة، ودخلت مرحلة الانحطاط والتردي العلمي، واستمر هذا الهبوط إلى حد الوقوع في مستنقع الجهل والتخلف أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، في الوقت الذي استطاع فيه أبناء الحضارات الأخرى -ولا سيما الغرب- التخلص من السيطرة الكهنوتية التي كانت السبب في ابتعادهم عن مناط العلم والمعرفة.

لقد استطاع عالم الغرب تغيير فلسفته القديمة، حيث رفع راية الحرية، ووقف ضد استغلال مواهب أبنائه وتنميتها، كما حث على توفير المناخ المناسب لهم للإبداع؛ هادفًا الوصول إلى نهضة علمية غير مسبوقة. وقد نجح في ذلك بعد أن قام المفكرون والفلاسفة الغربيون بترسيخ هذه العقيدة في نفوس شعوبهم؛ العقيدة التي تفرق بين المادة والمعنى، والعقل والقلب، حتى اقتنع الناس باستحالة الجمع بين تلك الأضداد.

على الضفة الثانية لم يستطع المسلمون تطوير أنفسهم، واكتفوا بالحديث عن حضارتهم القديمة العظيمة والتباهي بها فقط، ناسين -أو متناسين- حالتهم المأساوية من انتشار الجهل في أراضيهم، وهجرة علمائهم ومفكريهم من المسلمين إلى بلدان الغرب، الذي رحب بهم واحتضنهم بغية الاستفادة من علمهم دون تعصب أيدلوجي أو عرقي. أما نحن فبدلاً من أن نخوض بحر العلم مع علماء الغرب مستفيدين منهم،  من أجل الوصول إلى برّ حضارتنا من جديد، انشغلنا بأفكار متواترة عدائية ضدهم، لا تغني ولا تسمن من جوع.

وفي الوقت الذي انشغلنا بالمفاهيم العدائية السابقة، قام الغربيون بتجهيز نخبة من العلماء وإرسالهم إلى بلادنا، مهمتهم استشراق الشرق؛ بمعنى استكشاف ثقافتنا ودراستها عن كثب، ومعرفة أنماط عيشنا وطرق تفكيرنا.. وقد أطلق فيما بعد على كل هذه الدراسات “علم الاستشراق”.

تعريف الاستشراق ودوافعه

الاستشراق حركة غربية تهدف استكشاف وتصوير ودراسة الثقافة والتراث العربي والإسلامي دراسة علمية عميقة، من وجهة نظر غربية عن طريق علماء ومفكرين غير مسلمين، يقومون بدراسات أكاديمية تدوَّن فيها مختلف جوانب حياة المسلمين من ثقافة وحضارة وتاريخ وعادات وتقاليد ولغة وأدب وفلسفة وفنون وغيرها.

وقد اختلف المؤرخون حول بداية ظهور الاستشراق؛ فمنهم من رأى أن بدايته من قديم الزمن حتى من قبل مجيء الإسلام.

ومنهم من رأى أنه جاء ممهدًا للاستعمار بعد فشل الحروب الصليبية، رغبة منهم في السيطرة على بلاد المسلمين، مما دفعهم إلى إرسال المستشرقين بغية معرفة وكشف وتصوير كل الجوانب الحياتية للمسلمين، ومعرفة نقاط ضعفهم وقوتهم، واستغلال نقاط الضعف لصالحهم.

ومنهم من رأى مجيئه بصحبة الحقبة والحملات الاستعمارية، مثل العلماء الذين اصطحبهم معه نابليون بونابرت في الحملة الفرنسية على مصر.

دوافع الاستشراق

ارتأى البعض تثمين دوافع الاستشراق على أساس أنها حركة أخذت الطابع العلمي المجرد عن الأهواء والأغراض الخبيثة، بمعنى أنها غير مسيَّسة. وارتأى البعض الآخر تنقيمها واتهامها بأنها حركة لم يكن الهدف منها المثاقفة من خلال أُطرٍ علميةٍ عبر مؤتمرات دولية هدفها الجمع بين ثقافة المسلمين والغربيين، وإنما كان غرضها الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب العربية والإسلامية.

وقد رأى مفكرون آخرون، أن دوافع الاستشراق تنوعت بين دوافع استعمارية، ومثاله الهزيمة في الحروب الصليبية واللجوء إلى حيلة المستشرقين، لمعرفة نقاط الضعف عند الشرق.. ودوافع أيديولوجية وسياسية واقتصادية، تتمثل في ارتباط المستشرقين بمصالح دولهم، وأن يظل المسلمون في إطار التبعية المعرفية لبلادهم.

أيًّا كانت أسباب الاستشراق وأهدافه ودوافعه، سواء أكانت حسنة النية أو سيئة النية، فمن المؤكد أن إيجادها يهدف لإعلاء وخدمة بلادهم، والاستفادة من ثقافات وحضارات وعلوم غريبة مختلفة عنهم.. لذلك أرى أن الاستشراق قد يضيف لنا ولا ينتقص منا إذا قمنا بترجمة أفضل لما عندنا من علوم وأدب من العربية إلى اللغات الغربية، ليتأثروا منا ومن ثقافتنا بطريقة سليمة بعيدة عن مغالطات وأهواء المستشرقين.

وفي ظل الانفتاح العلمي للشعوب والعولمة، وشبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت، أصبح العالم قرية صغيرة، وبالتالي أصبحت الشعوب تتواصل مع بعضها، وتتبادل الثقافات والعلوم فيما بينهم. ومن هنا ظهرت الدعوات من المفكرين المسلمين إلى الاستغراب وإنشاء ما يسمى “بعلم الاستغراب”، الذي نتج بعد مخاض طويل ليخرج من رحم الاستشراق. وكان أول من اقترح تأسيس علم الاستغراب هو الفيلسوف المصري الدكتور حسن حنفي في كتابه “مقدمة في علم الاستغراب”، بالإضافة إلى المشروع الذي قدمه الدكتور السيد محمد الشاهد إلى جامعة الإمام محمد بن سعود، والدكتور علي إبراهيم النملة بكتابه “الاستغراب: المنهج في فهمنا الغرب”.

لذلك سعت النخب الفكرية التنويرية العربية والإسلامية، إلى مزيد من الانفتاح على الأيديولوجيات الغربية؛ لكي تتداخل ثقافتنا ومعارفنا مع زخم ثقافتهم وتندمج معهم.

تعريف الاستغراب

سمّاه البعضُ بـ”علم الاستغراب” وإن كانت هذه التسمية بالغت بتوصيفه بالعلم، فهو أقرب للفكر، وهو مضاد للاستشراق بمعنى أنه فكرٌ يهتم بدراسة ثقافة وحضارة وعلوم الغرب دراسة علمية بدقة متناهية، وباستخدام المنهج العلمي بهدف تحقيق تواصل وتفاهم بين العالم العربي الإسلامي والعالم الغربي.

إذن هو تقريبًا نفس تعريف الاستشراق، وطالما أن الاستشراق قد استُخدم لخدمة مصالح الغرب، وساهم في تقدمه، فَلِم لا نطبِّق الاستغرابَ لنواجه به الاستشراق بما يخدم مصالحنا، ويخفف من هيمنة الغرب علينا من ناحية، ويساهم في تقدمنا ونهضتنا العلمية من ناحية أخرى؟

هل الاستغراب يعادي الغرب؟

قد يظن البعض أن الدعوة للاستغراب، هي دعوة للانتقام من الغرب ومعاداته ومحاسبته على حرماننا من موروثنا الحضاري طوال القرون السابقة بسبب الاستعمار، ولكن هذا الظن غير صحيح وغير منطقي. فالدعوة للاستغراب هي دعوة لجلب ما فاتنا من تأخر معرفي طوال السنين السابقة، لكي نستعيد عافيتنا وحضارتنا الغائبة، فلا يعيب الشعوب العربية والإسلامية، السعي لمعرفة ودراسة وتصوير النواحي الثقافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف الانفتاح على العالم الغربي، ومن ثمّ نُسخّر لها كل إمكانياتنا ومواردنا حتى تعود حضارتنا وعصرنا الذهبي من جديد، بشرط الحفاظ على الخصوصية العربية والإسلامية الموروثة.

لا بد أن نندمج -بشرط التمسك بثوابتنا- مع هذا العالم المعرفي، ومع هذه الحضارة الغربية، واستجلاب النظريات والمعارف الجديدة عن طريق البحث العلمي، ويجب أن نتخلى عن فكرة “المؤامرة”، بمعني أن الغربَ يحيك لنا المؤامرات ويصدّر لنا المشاكل والعادات السيئة؛ لأن هذا من شأنه افتعال قطيعة مع الغرب. ونحن حاليًّا في حاجة للتعاون معه بعد أن مرَّت الأمةُ بقرون من الجهل والتخلف، في حين أن الغربَ سبقنا وتقدم علينا كثيرًا.. لذلك وجب علينا أن نأخذ الإيجابي والنافع منهم لنستعيد نشاطنا وقوتنا التي فقدناها من زمان. من ثم وجب علينا تعلُّم جميع أنواع العلوم منهم قدر المستطاع، لكي نعود إلى حظيرة الإسلام السمح، التي خرجنا منها منذ قرون.

كيفية تطبيق الاستغراب

يجب أن يكون علمًا موضوعيًّا محايدًا نزيهًا ومنصفًا، لا يتغيّا السيطرة ولا يسعى إلى تشويه الثقافات الأخرى، ويجب تحويل الحضارة الغربية من دراسة موضوع إلى موضوع دراسة، وهذا ما أكده الدكتور حسن حنفي في كتابه “مقدمة في علم الاستغراب”.

ويجب أن يواجه الاستغراب آفة خطيرة تسمى “التغريب” الذي فرضه علينا الاستعمار لكي نكون دومًا في معيته، متحكمًا في ثقافتنا التي أراد تشويهها وجعلها تذوب في ثقافته.

ويجب أن تمتلك الشعوب العربية والإسلامية مؤسسات ومنتديات، مثل التي أعدَّها الغرب للمستشرقين لتساعدهم في دراسة وبحث الحضارة العربية الإسلامية، مثل “معهد اللغات والحضارات الشرقية” في باريس الذي تأسس سنة 1669م، و”مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية” في لندن التي تأسست عام 1916م. كما يجب أن تكون مؤسسات متخصصة في قضايا الغرب وتفحيصها وتدقيقها بجدية، ويجب أن يتولى هذا الأمر نخبة فكرية متنورة تدرك معنى الانفتاح الحضاري على الشعوب المختلفة، وترعى هذه النخب تلك المؤسسات التنويرية المتخصصة في استغراب الغرب.

ويجب أن يتم تطبيق الاستغراب بما يتناسب مع خصوصياتنا، مع حماية الثقافة الموروثة عن حضارتنا من الانقراض، والقضاء على الأسطورة المترسخة في عقيدة الشعوب العربية بأن الإنسان الغربي كائنٌ أسطوري لا مقدرة لنا على مجاراته.

يجب أن تتم دراسة النظريات الغربية المتقدمة والجديدة بفكرٍ مختلف، بمعنى آخر يجب على النخب العربية تتبع أصولها من خلال البحث العلمي الدقيق؛ لإثبات أن أصل هذه النظريات عربي إسلامي إن كانت كذلك، لكي نجعل الغرب ينظر إلينا نظرة تخلو من الدونية والتعالي، وتكون علاقة المثاقفة وتبادل المعلومات بيننا علاقة الند للند.

يجب مجابهة الاستشراق بالاستغراب، وأن ننتقل من موقع الدفاع دومًا عن ثقافتنا وعاداتنا المتهمة من قبل المستشرقين باتهامات داحضة، ومغالطاتٍ شككت عقولنا في علومنا وبنيتنا الراسخة المتجذرة في التاريخ في ظل انشغالنا بتقدم الغرب الأسطوري.

يجب أن ننتقل من موقع الدفاع عن أنفسنا والانشغال دائمًا بالرد على الغرب، إلى موقع المبادرة ودراسة ثقافتهم ومشاكلهم، ومن ثم عرض حلولٍ لمشكلاتهم من منظورنا الإسلامي، وهي دعوة غير مباشرة نوجّهها لهم للتعرف على الإسلام ودراسته.

يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تطبيق الاستغراب، أن يكون تطبيقًا أكاديميًّا مبنيًّا على منهج علمي راسخ، يتعامل مع المحتوى الحضاري والثقافي الغربي تعاملاً بعيدًا عن التعصب الديني، والأنا الفكري والانحياز للثقافة الخاصة بنا، بمعنى أن يكون تعاملاً من أجل مثاقفة متبادلة، برؤية حضارية منفتحة ومنصفة.

في النهاية، نرى أنه لا مناص من تطبيق الاستغراب وإرسال المستغربين إلى الغرب، للاستفادة من علومه وآدابه وثقافته بما يخدم ديننا وبلادنا، وليس معنى استغرابنا هو فقدان هويتنا وصبغتنا الإسلامية، وذوباننا في خليط الحضارة الغربية، بل نزعم أن استغرابنا هدفه هو عودتنا إلى مكانتنا المفقودة وحضارتنا المسلوبة، وإحياء تراثنا المدفون.

(*) كاتب وباحث مصري.