الإيمان باليوم الآخر رؤية قرآنية لوظيفته الإصلاحية

هاهنا قبس من نور القرآن… قبس من قصة ذلك التفاعل الممتد بين حياتين؛ بين الدنيا والآخرة… قصة تأثير دنيا الإنسان في آخرته وتقريرها لمصيره الأبدي في مقابل تأثر دنياه بالآخرة سعادة و شقاوة عندما يؤمن باليوم الآخر ويوقن به، وعندما يكفر به أو يظنه ظنًّا أو يغفل عنه أو ينسى لقاء ربه.

إن الله الذي ﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾، بالخلق أعطى الإنسان فرصة حياة، وبالوحي بين له المنهج الذي يغتنم به هذه الفرصة ويدبر أمر هذه الحياة، وأمره بإتباعه، وأخبره أنه راجع إليه ليريه أعماله ويجزيه عنها، فإما إلى الحياة التي هي خير وأبقى، وإما إلى المصير الذي هو أسوأ.

ولقد جعل سبحانه مقصد كل رسالاته؛ ترسيخ الإيمان باليوم الآخر في القلوب، ذلك هو نص القرآن: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(غافر:15-17).

والسر في نيل “إنذار يوم التلاق” لهذه المنزلة حتى كان من ثوابت وحي الله، هو ثمراته الطيبة المباركة التي يؤتيها في كل زمان ومكان تزكية للأنفس وإصلاحًا للمجتمعات.

الاهتداء بالقرآن ثمرة الإيمان بالآخرة

إن القرآن الكريم بما فيه من التبيان لكل شيء والهداية إلى كل رشد كما قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(النحل:89)، وقال: ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾(الجن:2)، هو الدستور المعصوم المحيط الوحيد، الذي يمكن أن يمد البشرية بالقواعد المحكمة والتعاليم المناسبة لإصلاح الأفراد والمجتمعات، لكن باب نيل ذلك منه مسدود إلا في وجه الموقنين بالآخرة، فهم وحدهم المؤهلون للاهتداء بهدى القرآن كما قال الله تعالى: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾(النمل:1-3)، وقال أيضًا: ﴿الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(لقمان:1-5).

وواضح من هذا أن الإيمان بالآخرة، يؤهل صاحبه للاهتداء بهدى القرآن ليس بصفته اعتقادًا مجردًا، بل من حيث هو طاقة منتجة للطاعة… والحد الأدنى من الطاعات، الذي يبدأ معه القرآن في إعطاء هداياته للمؤمنين، هو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة -كما نصت على ذلك الآيات الثلاث السابقة- لاهتداء لهم بالقرآن قبل حدوث هاتين الطاعتين منهم، ثم إنهم بعد ذلك كلما ازدادوا طاعة ازدادوا اهتداء.

يؤكد أن الاهتداء بالقرآن رهين بالإيمان المثمر للطاعة قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(المائدة:15-16)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾(يونس:9).

وفي أم القرآن إيماء إلى هذا المعنى، فقد استهلت السورة بالإيمان بالله واليوم الآخر: ﴿اَلْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * اَلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾(الفاتحة:2-4)، وتوسطها حديث عن طاعة الله والاستعانة به: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(الفاتحة:5)، وختمت بطلب الهداية: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(الفاتحة:6). وهذا الترتيب يشير إلى أن الإيمان بالله واليوم الآخر يثمر طاعة الله، وأن طاعته تثمر الاهتداء… فالفاتحة إذن، لم تجمل مضامين القرآن فقط، بل لخصت منهجه التربوي أيضًا.

التزكي بالقرآن ثمرة الإيمان بالآخرة

لقد استعمل القرآنُ الإيمانَ بالآخرة على نحو فعّال وهو إيراده لأنواع الوعيد الأخروي والدنيوي في مواطن متنوعة ومقرونًا بأعمال شتى، قال تعالى:

﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾(طه:113).

والقرآن نفسه ينص على أنه لا يؤثر تأثيره هذا تقوى وتذكرًا إلا فيمن يؤمن باليوم الآخر، كما قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾(ق:45)، وقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾(الأنعام:51).

فقه القرآن ثمرة الإيمان بالآخرة

الإيمان باليوم الآخر، يفضي بقارئ القرآن ومتدبره إلى التقوى، فإذا كان ممتلكًا لأدوات العلم صار بتقواه تلك؛ قادرًا على “فقه القرآن”، أي متمكنًا من الغوص في أعماقه واستخراج ما خفي من معانيه وأسراره كما قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾(البقرة:282)، أي “يؤتيكم فهم ما يلقى إليكم” كما قال القرطبي… والفهم أدق من العلم وأعمق، ومن لا يتقي الله من العلماء، لا يوفقه الله لفهم كلامه.

وأما الذي لا يؤمن بالآخرة، فهو أولى أن يحرم من فقه القرآن بالغًا ما بلغ تمكنه من لغة القرآن وعلوم القرآن وسائر الأدوات، وهو ما نبه الله تعالى عليه بقوله: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾(الإسراء:45-46).

الاستبصار ثمرة الإيمان بالآخرة

إن الإيمان باليوم الآخر، يعطي المؤمن قوة إبصار للأمور، لأنه به يكون مؤهلاً للانتفاع بالقرآن من حيث هو نور الله المنزل: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾(النساء:174)؛ فبالقرآن يجعل الله له نورًا: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾(الحديد:9).

فهو ذو بصيرة يرى بنور القرآن الأمور والأعمال كما هي؛ يرى السوء سوء والحسنة حسنة والحق حقًّا والباطل باطلاً، لا يلتبس عليه شيء من ذلك فهو ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾. ويقابله الذي لا يؤمن بالآخرة، فهو بحرمانه نفسه من نور القرآن لا يرى الأمور كما هي، بل وعيه ملتبس وتصوره مقلوب؛ السيئ عنده حسن والحسن سيء كما قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾(محمد:14). وقد نص الله تعالى على أن السبب في حرمانه من البصيرة هو كفره بالآخرة فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾(النمل:4).

الحصانة الدينية ثمرة الإيمان بالآخرة

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾(سبأ:20-21). تشير الآيتان إلى أن سلطان الشيطان ليس على المؤمن بالآخرة، وإنما هو على من يشك فيها.

أما المؤمن بالآخرة، فبأهليته للاهتداء بكلام الله يجد فيه إذا تلاه أو استمع له أو تدبره الذكرى، كما يجد فيه البيان لأسباب الاستقامة والثبات وأسباب الزيغ والارتداد، والبيان لمصايد عدوه الشيطان ومكايده، ويعلم أن الله إذا أمر بشيء أو نهى عنه فهو الحق، وأن كل ما يخالفه مما يخطر بباله أو تهم به نفسه إنما هو من الشيطان، إذ دلالة كون الخاطرة وسوسة شيطانية أن الشيطان ينهى عما يأمر الله به ويأمر بما ينهى الله عنه، ويزين سوء العمل ويكره حسنه ويعد بضد ما يعد به الله تعالى. ومن ثم فإن الشيطان لا يتمكن من قلبه على الدوام، فإن إيمانه وتواصله مع القرآن، يجعلان وقوعه في شراك الشيطان قليلاً ومؤقتًا كما قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾(الأعراف:201). ويؤكده أن نفي سلطان الشيطان على المؤمن، جاء في سياق الحديث عن قراءة القرآن الكريم المقرونة بالاستعاذة من الشيطان الرجيم كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾(النحل:98-99).

لكنه كلما قلت صلته بكلام الله كثر اتباعه للشيطان، وقد يتذكر فيرجع إلى الله وقد لا يتذكر فيتمادى في عصيانه لله حتى يزيغ فيزيغ الله قلبه وينسى لقاء ربه، فيستحوذ الشيطان عليه ويقوده من باب الجهل أو الهوى، فبالجهل يعمل ما لا يعلم أن الله لا يحبه، أو يتورط في تغيير دينه بالزيادة أو النقصان، كما أنه بالهوى يترك العمل بالحق مع علمه به، وقد يرجح ما تحبه نفسه على ما يحبه ربه في أي شيء فينحرف تفريطًا أو إفراطًا، وقد يتخذ دينه وسيلة لنيل مآربه، وقد يستعمل منصبه لأغراضه الخاصة وإن بالتحريش بين الناس وتفريق جماعتهم وهضم حقوقهم.

وأما الذي يشك في الآخرة، ففيه قابلية الاستجابة للشيطان، والشيطان متمكن منه ومستحوذ عليه لأنه بقي بلا حصانة، والحصانة إنما هي في كلام الله، وقد قضى الله أن يحرم منها من لا يؤمن بالآخرة كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾(الإسراء:45-46).

فهو بهذا، قد عرض قلبه لتشرب إلقاءات الشيطان من باب اتباعه للهوى واستعداده لاعتناق ما يبدو له من الفكر، وتضخم رغبته في القيام بكل ما يحلو له من الفعل وحرصه على التمتع بالدنيا بأكبر قدر ممكن وبأسرع ما يمكن، وقد ينجر إلى جلب المنافع لنفسه بإضرار غيره، وإلى حماية مصالحه بأي وسيلة كانت ما دامت الحياة الدنيا هي الحياة في نظره لا حياة بعدها ولا حساب ولا جزاء، فيكون ألعوبة حقيقية في يد الشيطان أينما يوجهه يتجه، ويضله ويستعمله في الإثم والعدوان معا، وقد يكون في نفسه مسالمًا فيضله ويوقعه في الإثم دون العدوان.

الإرادة ثمرة الإيمان بالآخرة

إن الإيمان بالآخرة، ينشىء في القلب الإرادة التي تدفع إلى فعل ما ينبغي فعله، واجتناب ما ينبغي اجتنابه. ينشئ فيه الطاقة الروحية المنتجة للمصالح، والرقابة الذاتية المانعة من المفاسد.

• الإيمان بالآخرة دافع إلى الخير، ويدل على ذلك أن القرآن ساقه على سبيل التعليل لأفعال العباد وعلى سبيل الترغيب في فعل الطاعات والترهيب من تركها، ومن إشارات القرآن في ذلك:

أن الاستجابة لله تتحقق بدافع الإيمان بالله و اليوم الآخر كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾(الأنفال:24).

وأن الإيمان بالآخرة يدفع إلى أكثر من الاستجابة، يدفع إلى الاستزادة من الخيرات والمسارعة إليها والتقرب بالنوافل قال الله تعالى: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾(الزمر:9).

وأن الإيمان دافع إلى المحافظة على الصلاة التي هي عمود الدين، وإلى عمارة المسجد التي هي عمود العمران قال الله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(النور:36-38).

وأن هذا الإيمان يرسخ في حياة المؤمن دافع التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾(الأحزاب:21).
وأن الإيمان بالآخرة، ينشىء في سلوك المؤمنين الحرص على الاحتكام إلى الكتاب والسنة لرفع النزاع: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(النساء:59).

وأنه دافع إلى إقامة الأخلاق وصيانتها، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾(الرعد:19-21).

وأنه دافع إلى نصرة دين الله: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾(التوبة:44-45).

وأن الإيمان بدقة الحساب، دافع إلى الاعتناء بجزئيات الخير وكلياته معًا:

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(الزلزلة:7-8).

وأن هذا الإيمان يحمل الفرد على لزوم الاستقامة وإن زاغت جماعته وضل قومه، بناء على أن الحساب يوم القيامة سيكون مع كل فرد على حدة كما قال تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾(مريم:95)، وقال: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾(الإسراء:14).

وأنه دافع إلى التخلق بالشكر والصبر تجاه القدر خيره وشره: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾(الأنبياء:35)، وقال: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾(البقرة:155-156).

• الإيمان باليوم الآخر، وازع من الشر كما هو دافع إلى الخير، ويدل على ذلك ما في القرآن من إشارات إلى أنه في حال وجوده يمنع من شرور كثيرة، وأنه في حال غيابه يتسبب في مفاسد عظيمة؛ من قبيل الطغيان والإفساد في الأرض، واختلاس الأموال العامة، والاتباع الأعمى، والبخل، والمضارة بين الزوجين.

ومن الإشارات القرآنية في ذلك، أنه يزع المؤمن من الطغيان كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾(يونس:11)، وقوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)(النازعات:40). هذا التقابل بين الخصلتين في الآية الثانية قرينة سياقية تدل على أن المقابل لخوف مقام الله هو الطغيان، وأن الذي يخاف مقام ربه لا يطغى.

وأن هذا الإيمان يزع المؤمن من العلو في الأرض والإفساد فيها، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(القصص:83).

وأنه يزع المؤمنين من الفساد التجاري: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(المطففين:1-6).

وأنه يزع من موالاة أعداء الله، قال سبحانه: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾(المجادلة:22).

وأنه يزع من الغلول الذي هو اختلاس المال العام: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(آل عمران:161).

وأنه يزع من الاتباع الأعمى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾(البقرة:165-167)، وقال أيضًا : ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾(الصافات:33).

وأنه يزع المؤمن من استعمال جوارحه وحواسه فيما لم تخلق من أجله، لأنها ستشهد عليه يوم القيامة في حال أدخل عليها الضرر وغذاها بالخبائث وفي حال وظفها في الإضرار بغيره في دينه أو دنياه. فجسمه كله ملك لله، وهو أمانة مودعة عنده، ورقيب لا يفارقه في أي حال، وواجبه أن يحفظه وأن يحذره، وفي هذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾(النور:23-25).

هذا الإيمان من حيث هو قوة نفسية مثمرة للمعروف، ووازع ديني مانع من المنكر، سمّاه القرآن الكريم: “خوف مقام الله”، أي خوف حلول غضبه في الدنيا والآخرة. وقد جعله أصل كل صلاح وتقوى، ومفتاح كل خير وبر، بدليل أن الله تعالى في سور عدة من كتابه، جعل استحقاق دخول الجنة راجعًا إلى اكتساب خصال صالحة كثيرة كلها مصالح يحتاج إليها الفرد والمجتمع، ثم أرجع في سورة النازعات اكتساب تلك الخصال إلى سببين هما: خوف مقام الله، ونهي النفس عن الهوى كما قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(النازعات:40-41)، ثم أرجع في سورة الرحمان السببين إلى أولهما فقال: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾(الرحمن:46)؛ فأكد أن خوف مقام الله هو الأصل، وأنه هو الذي يجعل المؤمن ناهيًا لنفسه عن الهوى، أي عن حب الدنيا وإيثارها على الآخرة. فإنه يمنع من الامتثال لأمر الله أو يؤخره، فنهي المؤمن نفسه عن الهوى هو ترجيحه طاعة الله ورضوانه على اتباع هواه وحمله نفسه على لزوم طاعته وعدم الرجوع عنها، وعندما يفعل المؤمن ذلك، يكتسب صفات المؤمنين المتقين التي ذكر الله أنهم يستحقون بها دخول الجنة. فيكون الإيمان باليوم الآخر، أو خوف مقام الله، هو السبب في كل تحول يحبه الله ويرضاه نص عليه في كتابه أو نطق به رسوله صلى الله عليه وسلم.

إن السر في هذا الإيمان إذن، هو ثمراته تلك التي خلاصتها إصلاح الإنسان من داخله ليصلح في نفسه ويصبح للناس سبب نفع ومصدر سلام. فإنه لا صلاح لكسب الإنسان قبل صلاح قلبه، ولا يصلح القلب والكسب معًا إلا بالإيمان بيوم الحساب، ولا يكون الإنسان مباركًا إلا به.

إن المسلمين يوفقون تمام التوفيق عندما يعاملون الإيمان باليوم الآخر بنحو ما عامله القرآن، وينزلونه المنزلة التي أنزله، ويوظفونه التوظيف الذي وظفه.

إنهم يوفقون عندما يجعلونه روحًا لكل برامجهم الهادفة إلى بناء الإنسان كما جعله الله روح كل كلامه المنزل منذ قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾(العلق:8) وهي من أوائل ما نزل، إلى قوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ﴾(البقرة:281) وهي من أواخر ما نزل، ويخرجون هذا الإيمان من حالة كونه طرفًا من علم عقيم يورث ويلقن لطلبة التعليم الديني، ومجرد اختصاص يمارسه الوعاظ بالمساجد، ومجرد درس من دروس التربية الإسلامية يلقى على التلاميذ في مرحلة ثم ينسى في سائر المراحل.

ويوفقون عندما يتخذونه في الإصلاح منطلقًا ومعيارًا، ويأتمنون على مصالحهم كل “حفيظ عليم” ممن تأهل بالعلم والخبرة، ولاحت عليه أمارات هذا الإيمان الفعال.