الإبداع بين الذكاء والعبقرية

عدّ بعض الباحثين الإبداعَ شكلاً من أشكال الذكاء العالي أو الذكاء في أعلى مستوياته، ولكنه يجاوز الذكاء. فإذا كان الذكاء هو القدرة على حل المشكلات، فإن الإبداع يتجاوز ذلك إلى شق دروب جديدة، وخلق عوامل مبتكرة متباينة للمألوف.

لذلك -وتمييزًا له عن الذكاء- يصطلح البعض على تسميته بـ”الذكاء المباعد” أو المخالف، بينما تسمى “مَلَكة الذكاء” بـ”الذكاء المقارب” الذي يعتمد على مواجهة المشكلات باستخدام حلول مألوفة، بينما يكون الإبداع أقل التزامًا بالمألوف، فهو لا يلتزم باستجابة واحدة وإنما باستجابات مفتوحة. وهو بذلك يتطلب نوعًا من التفكير المنطلق المتشعب الذي يبحث عن استجابات وحلول ليست مما تألفه أو تستدعيه أسئلة اختبارات الذكاء المعروفة. بهذا يكون الإبداع قفزة فوق الروابط المنطقية المتعارف عليها، لأنه يتجلى باستجابات جديدة، أو إنه على حد قول “أينشتاين”: “لعبة المزج بين عناصر متباعدة، للوصول إلى عناصر وصيغ جديدة”(1).

ويعرف “شتاين” (Stein) الإبداع على أنه “عملية ينتج عنها عمل جديد يرضي جماعة أو تقبله على أنه مفيد”، إلا أن هذا التعريف يضع رضا الجماعة كجزء من الإبداع، والإبداع هو في أغلب أحواله خروج عن النمط المألوف، والعقل الجمعي عقل نمطي يرهب التجديد ويرفضه، في حين يعرف “سيمبسون” (Simpson) الإبداع بأنه: “المبادرة التي يبديها الشخص بقدرته على الانشقاق من التسلسل العادي في التفكير إلى تفكير مخالف كلية”. ويعرفه “كلوبفر” (Klopfer) بأنه: “استعداد الفرد لتكامل القيم والحوافز الأولية بداخل تنظيم الذات والقيم الشعورية، وكذلك تكامل الخبرة الداخلية مع الواقع الخارجي ومتطلباته”(2).

إن الإبداع فاعلية إنسانية وخلق يتغيا تجاوز المعتاد وتخطي ما هو مألوف وسائد، بهدف إنتاج صور ورموز وأفكار مغايرة، واستشراف آفاق جديدة تبرهن على الملكة الخلاقة لدى الإنسان ككائن عملي يسعى دومًا إلى تغيير واقعه، وصياغة علاقات أكثر ملاءمة لطموحاته في الحرية والعدالة والتقدم. ولعل هذه الرغبة العارمة في الإبداع التي تتملك الإنسان منذ بداياته، هي التي كانت الحافز القوي وراء صنع أشكال الحضارة والتقدم التي عرفتها كل المجتمعات الإنسانية. وهي التي تحفز على مختلف أشكال التعبير لإنتاج ثقافة تعطي لعلاقات الناس فيما بينهم وبين واقعهم المادي والاجتماعي، تلك الأبعاد السامية والمثالية التي تجعل الحياة قابلة لأن تعاش.

اتجاهات الإبداع

الإبداع كتجسيد لجهد إنساني، إما أن يبقى متقوقعًا في الحدود الذاتية للفرد، وإما أن ينصهر في إيقاع جماعي يحفز مختلف القدرات الذاتية على تطويع الواقع وتحسين شروط العيش. وقد انقسم الباحثون في تناولهم للإبداع إلى اتجاهين أساسيين؛ الأول هو الاتجاه النفسي الفردي الذي يؤكد على أولوية الذات، وعلى المخزون الفردي في الإبداع، باعتباره تفجيرًا لرغباتٍ وصور وأفكار لم يتمكن الفرد من التعبير الصريح المباشر عنها، فيجد في المجال الإبداعي متنفسًا ولحظة تعويضية يكثف فيها تلك الصور والأفكار والرغبات بشكل أكثر سموًّا وجمالاً.

أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الجماعي الذي يرى أن الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي، لا يمكن أن يبدع إلا داخل سياق اجتماعي يسمح له بتفجير قدراته الإبداعية، بل إن الإبداع ليس اجتماعيًّا فقط من حيث دوافعه وشروط إمكانه، بل هو اجتماعي في مضمونه وأدواته كذلك. فالإبداع من هذا المنظور، عملية ذات أبعاد اجتماعية تستمد مقوماتها من ثقافة الجماعة، وتسهم في نفس الوقت في تغيير الحساسية الجمالية والفنية للأفراد. ومهما يكن من شأن هذا التضارب في النظر إلى العملية الإبداعية، فإن ما هو موضع اتفاق هو أن الإبداع رهين بمجموعة من الشروط الذاتية والمجتمعية التي توفر إمكانات الظهور والتحقق في العملية الإبداعية. إذن، يتجلى تركيب خلاق بين الذاتي والموضوعي، بين ما هو موجود وما هو ممكن، بين الحاضر والمستقبل.. فالإبداع -بالتالي- جدل متوتر لا يتحقق إلا ضمن سياق صراعي بين قوى المحافظة والاجترار، أو قوى التجاوز والتقدم.

اهتمام عالمي بالمبدعين

لقد شهد النصف الأول من القرن العشرين، الاهتمام بالذكاء وتحليله وتعريفه ودراسته، أما النصف الثاني منه فقد تميز بالاهتمام بالإبداع والمبدعين. ولقد كان للاهتمام بالإبداع أسباب كثيرة، ذلك أن الحرب العالمية الثانية استدعت -في جملة ما استدعت- ما اتصل منها بالحرب، وكانت ذروة المخترعات “القنبلة الذرية” وما تلاها من أسلحة للدمار هائلة. ثم إن حلول السلام لم يكن سلامًا بالمعنى الصحيح للكلمة؛ حيث زج بالعالم في حمأة الحرب الباردة التي تطلبت جهودًا في مجال الاختراع والإبداع.. ومن هنا كان الطلب المتزايد على الأدمغة المخترعة التي لم يتوفر منها قط ما تحتاجه الأمم المشتركة في هذه الحروب الباردة والساخنة.

ثم بدأ عصر الفضاء، وتصاعد السباق بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، وكانت الصواريخ وغزو الفضاء والأدمغة الإلكترونية وسواها، وكان من جراء ذلك الطلب المتزايد على الأدمغة المبدعة، وبالتالي الإلحاح على علماء النفس في الكشف عن هذه الأدمغة، وتحديد معنى الإبداع ومكوناته وطرائق تكوينه.. ومن ثم كانت مطالبة الأمم من مربيها ومدارسها بتهيئة أكبر عدد ممكن من المبدعين والمخترعين.. ولقد كان من أهم الطرائق التي اتُّبعت في دراسة الإبـداع وعوامله وعلاقته بالذكاء؛ طريقة التحليل العاملي (Factor Analysis) على يد فريق من العلماء يرأسه العالم الشهير “جلفورد” وذلك في جامعة كليفورنيا الجنوبية.

لقد انطلقت هذه الدراسات، من التنكر للنظرية السائدة عن الذكاء وعن قابلية واحدة موحدة، كما تنكرت للاعتقاد بأن المواهب المبدعة أمور خارجة عن نطاق الذكاء، وبدأت بافتراض أن ثمة عدة قابليات ممكنة التميز يشتمل عليها الإبداع، وافترضت كذلك أن المواهب الإبداعية ليست وقفًا على عدد قليل من الأفراد المحظوظين، بل ربما كانت موزعة على جميع الناس وبدرجات متفاوتة، ولذلك فإن من الممكن البحث عنها، ليس عند الموهوبين وحدهم، وإنما عند الناس جميعًا(3).

لقد افترض “جلفورد” عددًا من الفرضيات عن طبيعة التفكير الإبداعي، وكان في ذهنه نماذج من المبدعين من مثل العالم والتكنولوجي بما في ذلك المخترع، وهو يعتقد أن ثمة فروقًا في أنواع الإبداع في مختلف الميادين، وذلك بالرغم من اعتقاده بأن ثمة عوامل مشتركة بين كل المبدعين وأنماط قدراتهم. ويرى “جلفورد” أن أهم القدرات الأولية التي تسهم في الجهود الإبداعية هي:

1- الإحساس بالمشكلات: إن قسمًا كبيرًا من نجاح العالم، يتوقف على قدرته على طرح الأسئلة الصحيحة والمناسبة.

2- الطلاقة (Fluency) في الموهبة الإبداعية: إن الشخص قادر على إنتاج عدد كبير من الأفكار في وحدة زمنية ما، فإذا تساوت الاعتبارات الأخرى يكون صاحب حظ أكبر في إبداع أفكار ذات معنى، وثمة ثلاثة عوامل متميزة للطلاقة، وهي الطلاقة الفكرية، والطلاقة الترابطية، والطلاقة التعبيرية.

3- المرونة (Flexibility): إن مرونة نفس الفرد أو سهولة تغييره لتهيئة النفس، عامل هام من عوامل الإبداع، فالإنسان الذي يقف عند فكرة أو يتصلب بالنسبة لطريقة من الطرق، أقل قدرة على الإبداع من إنسان مرن التفكير، قادر على التغيير حتى يكون لازمًا، ويميز “جلفورد” أنواعًا من المرونة، مثل المرونة العفوية، والمرونة التكيفية وسواهما.

4- التجديد: يملك الإنسان المبدع أفكارًا جديدة متجددة، ودرجة التجديد التي يكون الإنسان قادرًا عليها أو التي يظهرها في المعتاد، هي في الإبداع، ويمكن اختبار هذه القدرة، بتكرار ما هو غير شائع ولكنه مقبول من الاستجابات.

5- التوسع (Elaboration): في واحد من الاختبارات أعطي الممتحن مخططًا بسيطًا لموضوع ما، وطولب بتوسيعه ورسم خطواته التي تؤدي إلى كونه عمليًّا، وبطبيعة الحال فإن الدرجة التي كان يحصل عليها الممتحن، كانت تتناسب مع مقدار التفصيلات التي كان يعطيها.

وهناك قدرات أخرى تم الكشف عنها أيضًا عند المبدعين، مثل القدرة التركيبية والقدرة التحليلية، وإعادة التنظيم، والتعقيد، والتقويم. وباختصار فإن “جلفورد” يعتقد أن القدرات الأكثر أهمية في تفكير المبدع تقع في زمرتين: زمرة القدرات ذات النتائج المفرقة (Divergent production Abilities)، وزمرة القدرات التحويلية (Trans Formation Abilities) ويسميها أحيانًا قدرات النتائج المجمعة، ويميل لاعتبار التقويم زمرة خاصة ثالثة.

الإبداع والعبقرية

المبدعون الذين قدموا إسهامات خالدة للثقافة الإنسانية، سواء أكانوا علماء أو فلاسفة أو كتّّابًا أو مؤلفين موسيقيين أو فنانين، هم من يقومون بصياغة الحضارة الإنسانية، ويعملون على تقدمها ورقيها، من أمثال أينشتاين، وجويس، وسترافنسكي، وابن النفيس، وابن الهيثم، والبيروني، والرازي، وابن سينا، وكبلر، وجاليليو، وبيكاسو.. وقد تركوا تأثيرًا دائمًا على أفكار وأحاسيس عدد لا حصر لهم من الرجال والنساء.

إن هؤلاء الأفراد البارزين من المبدعين يشتركون في امتلاكهم لخاصية العبقرية، وقد أدرك هذا منذ وقت مبكر “فرانسيس غالتن” في كتابه المعروف “العبقرية الوراثية” (Hereditary Genius) عام 1869م، وهو الكتاب الذي حاول فيه “غالتن” أن يضع أساسًا وراثيًّا للإنجاز المتميز. وطريقة التعرف على العبقرية، بالتمعن في تلك الإنجازات التي كان لها تأثير نادر الحدوث على الأجيال المعاصرة والتالية لها، ولا بد -في الغالب- أن يكتسب الشخص الشهرة من خلال تقديم هذه العبقرية، لإسهامات تبقى على الزمن في نواحي النشاطات الثقافية والسياسية، أي إن العبقرية تُعرف بالإنجاز. فالمبدعون قادة ثقافيون، وقد كان لأفكار أينشتاين النظرية، تأثيرها البالغ على زملائه من علماء الطبيعة، وعلى المجتمع العلمي بشكل عام. كذلك كان تأثير “بيتهوفن” على الموسيقى، و”ميكل أنجلو” على النحت، و”شكسبير” على الدراما.. كبيرًا في زمانهم، وفي زمان الأجيال اللاحقة لهم.

ورغم أن مصطلح العبقرية (Genius) كثيرًا ما يستخدم باعتباره مرادفًا لمصطلح الموهبة (Giftedness)، إلا أن العبقرية تتضمن دلالات ومعانٍ خاصة بالندرة الاستثنائية، وكذلك الإنجاز العقلي المبكر، أما الموهبة، خاصة عندما تستخدم في سياقات أكاديمية ودراسية، فإن تحديدها لا يكون بنفس الصرامة. ومن ثم لا بد من التمييز بين الموهبة والإبداع، باعتبار أن الموهبة تتعلق بنشاطات الأطفال، والإبداع يتعلق بنشاطات الكبار، ومن ثم لا تقتصر صفة الإنجاز العقلي المبكر على مفهوم العبقرية فقط، بل تمتد لتشمل مفهوم الموهبة أيضًا.

ومن شبه المؤكد، أنه ليس هناك علاقة اضطرادية بين النجاح الدراسي وظهور العبقرية أو الوصول إلى مراحل الإبداع العليا، ووفقًا لما قاله واحد من أبرز الأساتذة في معهد “زيورخ للبوليتكنيك” (معهد العلوم التطبيقية أو الفنية) وهو “هرمان ميتكوفسكي”: “فقد كان أينشتاين خلال سنوات تلمذته كائنًا كسولاً، ولم يكن يهتم بالرياضيات أبدًا”.

وقد كان ما لا يقل عن نصف الأشخاص المشهورين الذين قام “آل غورتسل” بدراستهم، من القراء النهمين منذ وقت مبكر، واستمر حبهم للقراءة خلال سنوات رشدهم(4). وقد أظهرت الدراسات حول المراهقين المبدعين، أنهم يميلون إلى أن يقرأوا أكثر من خمسين كتابًا كل سنة، هذه العلاقة لا تدعو إلى الدهشة، فالبحوث حول الشخصية المبدعة غالبًا ما تشير إلى أهمية الاهتمامات العريضة، وسعة الأفق، وإلى الحاجة إلى الجدة والتنوع والتركيب.

إن الإبداع الآن صار عملاً مؤسساتيًّا، بعد أن تأسست كثير من المراكز العلمية والبحثية في جميع أنحاء العالم، خاصة في الدول المتقدمة، وتسود الآن الخطط الإستراتيجية والمستقبلية لإنجاز الأبحاث العلمية التي تمول من قبل المجتمعات المتقدمة في ظل مشاريع بحثية بالغة الخطورة، مثل تلك التي تم إنجازها فيما يخص المكونات الوراثية للخلية، أو فك شفرة الجينات البشرية والتي استغرقت أكثر من خمسة عشر عامًا بفضل تضافر الجهود العلمية من آلاف العلماء في مختلف أنحاء العالم. وسوف يساعد هذا المشروع في معرفة وعلاج عشرات من الأمراض المستعصية في المستقبل القريب، وهذا أحدث ثورة علمية بيولوجية في مجال الهندسة الوراثية وعلوم البيولوجيا والطب، وما كان لهذا أن يتحقق لو ترك لاجتهاد بعض الأفراد. ونعتقد أن البشرية بفضل هذه الجهود الجماعية، سوف تصل إلى علاج كثير من الأمراض الخطيرة والمستعصية في السنوات الأخيرة، مثل كثير من أنواع السرطان، وكذلك مرض الإيدز.

(*) كاتب وباحث أكاديمي/ مصر.

المراجع

(1) من محاضرة د. عبد الله عبد الدايم في المؤتمر الثاني لتطوير التعليم ما قبل الجامعي، دمشق عام 1986. وانظر: الحاجة إلى الإبداع في العصر التكنولوجي، إسماعيل الملحم، الوحدة العدد:55، ص:68، بيروت، إبريل عام 1989م.

(2) أساطير في الفن والحب والجمال، أمير الصرفي، ص:13، نشر جماعة الفن والمجتمع، مصر 1991م.

(3) الإبداع، د. فاخر عاقل، مجلة العربي، العدد:184، الكويت، مارس 1974م.