توجد فيما بين بأيدينا، وحولنا علوم كثيرة، ومعارف غزيرة، وثقافات متنوعة، وحقائق كبري، وتغيرات عظمي. وهي تنتظر العين التي تراها، والأذن التي تسمعها، والعقل الذي يعيها، والبصيرة التي تفقهها، والوجدان الذي يتواصل معها، واللسان واليد المعبران عن خلاصة تأملها. فالكون ومن فيه، وما فيه كتاب ربنا مفتوح لكل قارئ، مُيسر لكل ناظر، مصاغ لكل سامع، مُمهد لكل عاقل، مِعطاء لكل ذي بصيرة ووجدان. يقول سبحانه تعالي: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” (البقرة: 164).

فنظرة تدبر إلى السماء، ونجومها.. تُبهر، وإلى الأرض وزرعها.. تـُثمر، وإلى النهر والبحر.. تُعمّر، وإلى الناس والكائنات والأشياء.. تُزهر، فكل هذا وغيره، يتيح ـ بالسباحة والتدبر فيهاـ نافذة للعقل، وسموًا للنفس، وإنارة وتقديرًا للحياة، وتقويمًا للرسالة، ووضوحًا للغايات، وإخلاصًا في النيات، وإصابة في الوسائل.

فشتان ما بين إنسان وآخر، شتان ما بين من أثري عقله وفكره ووجدانه، وبين من أفقرهم وأجدبهم وجففهم:”أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” (الزمر:9).

والمتدبر لكتاب الله تعالي المقروء المتعبد بتلاوته، يجد الآيات المعجزات الدالات علي عِظم توحيد الربوبية والألوهية، وجليل اسمائه ـ سبحانه وتعالي ـ وصفاته، وقيوميته علي شئون كونه وخلقه ومخلوقاته، وهدايتهم كي يؤدوا دورهم في الحياة علي الوجه الأدق والأنسب والأفضل دومًا.

إنك لابد ستجد أنباء من قبلنا، وأخبار من بعدنا، وأحكام ما بيننا، كما تجد لكل أمر غاية، ولكل شيء أجلاً، ولكل حادث موعداً، ولكل قدر حكمة: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”(القمر:49). كما تجد تبيانًا شافيًا كافيًا لحقائق الإيمان، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات، والأحكام، والشرائع:”… وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ” (النحل: 89).

إن القرآن الكريم.. خير كتاب، وخير أنيس، وخير جليس، ومعراج كل إنسان إلى اليقين والسمو والكمال والفلاح. ويستحق الرثاء والعزاء من لا يحيا عقله بالقراءة المستمرة في الكتاب المنظور.. تأملاً، والكتاب المقروء.. تدبرًا. لذا كانت أولي كلمات الوحي إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” (العلق:1). ولم تكن :”آمن،”أو “اعبد”، أو “صل” الخ.. فالوجود البشري، في طريق سيره إلي الله تعالي الخالق، يستند على هذه “القراءة باسم الله” قراءة ترقيّ وتسموّ بالبشر، وتنطلق بهم ـ بأمان ـ في آفاق العلم والمعرفة الرحيبة، تنفي الجهل والظلم والخبث والطغيان، وكل صور الاستعباد لغير الله تعالي.

ما الحكم على رجل، حوله من الكنوز ما لايُحصي، ومن الثمار مايلذ، ومن الأطايب مالا يُعد، وتعرض عليه بلا ثمن، ويأبي إلا أن يعيش خالي الإيمان، فقير العقل، خائر الفكر، جوعان الروح، مُشتت الضمير والوجدان، حيران العمل والسلوك؟!. عبء ثقيل، هي الحياة، لو خلت من نعمة تلك “القراءة باسم ربنا”، وحلاوة التأمل والتفكر والتدبر والتعقل، وبرد الإيمان واليقين، وفضاء التثقف والمثاقفة، وهناء الحضور والشهود والشهادة. إنه لا حظ لمن لم يصحبها، ويستصحبها في كل شأن من شئون الحياة صغر أم كبر، ضاق أم اتسع، خصّ أم عمّ، فـ”القراءة باسم ربك” نقطة الابتداء، ونقطة الإنتهاء، ومن أراد الحياة الحقيقية، فهذه “القراءة المُتدبرة” هي الحياة، والحياة بحاجة مستمرة لها.