ابن الهيثم مدرسة في طب الأعشاب

قد يصرف عنوان هذا المقال الأذهان إلى عالم البصريات الشهير محمد بن الحسن بن الهيثم، الذي ولد في البصرة نحو سنة 354هـ وتوفي في سنة 420هـ، وعاش في مصر زمن الفاطميين، ولكن الذي نقصده هنا شخصًا آخر. وقد يكون اشتراكه في الاسم مع ابن الهيثم سببًا في نسيانه ومخاصمة الشهرة له، بل وأيضًا ضياع تراثه ونتاجه العلمي الذي لم يبق منه إلا النزر اليسير.
وسنحاول عبر هذه السطور القليلة، إماطة اللثام عن هذا العالم العربي وهو عبد الرحمن بن إسحق بن الهيثم؛ الذي يعدّ أحد أطباء وعلماء الأندلس البارزين والمؤسسين، لما يمكننا أن نطلق عليه أب المدرسة الأندلسية في طب الأعشاب.
المدرسة العربية في طب الأعشاب
قبل أن نتعرف على ملامح حياته، نودّ أن نلقي الضوء على المدرسة العربية في المعالجة بالنباتات والأعشاب ولا سيما في الأندلس؛ حيث بلغ الأطباء المسلمون في هذا العلم شأنًا كبيرًا، وتميز الطبيب النباتي المسلم، بأنه صاحب رؤية علمية شاملة تقوم على الملاحظة والتجربة، وكان يذكر أماكن العقاقير، ويقوم بعمل إحصاء عام لها، كي يستفيد منها عند الحاجة، كما يعرف أماكن تكاثرها وزراعتها، وكيفية الاستفادة منها، في صنع مواد كثيرة للطب والصيدلة. هذا التفوق في هذا المجال الطبي جعل الغرب يأخذون عنهم جملة من المواد الطبية، والمفردات الطبية التي زاد عددها على الثمانين. فقد أخذها الغرب عنهم وأوردها بالنص العربي، ووضع لها كلمات لاتينية، منها ما هي منحوتة أو مقتبسة من الأصل العربي، ومنها ما بقيتْ على لفظها العربي ولكن بحروف لاتينية”. وقد اعترف بذلك الفضل العالم “لويجي رينالدي” ” الذي يقول بأن العرب أعطوا من النباتات مواد كثيرة للطب والصيدلة”، وأيضًا العالم “سيديو” الذي يقول “إن العرب أضافوا مواد نباتية كثيرة كان يجهلها اليونانيون جهلاً تامًّا، وزودوا الصيدلية بأعشاب يستعملونها في التطبيب والمداواة”.
من هو ابن الهيثم؟
هو عبد الرحمن بن إسحق بن الهيثم، ولد بقرطبة فى أوائل القرن الرابع الهجري، وتوفي يقينًا بعد سنة 366 للهجرة. كان بارعًا في علم الطب، خاصة في المعالجة باستخدام النباتات والأعشاب. ونظرًا لبراعته ومهارته في العلاج النباتي، جعله الخليفة عبد الرحمن الناصر، أحد الأطباء السبعة الذين أوكل إليهم مهمة ترجمة كتاب الأدوية المفردة الملقب بـ”كتاب الحشائش” الذي ألفه “ديوسقوريدس”، وهو كتاب في العقاقير الطبية القائمة على النباتات التي تستخدم كدواء، ألفه “ديوسقوريدس” وعرض فيه ستمائة نبتة من الأعشاب الطبية، ووصفها بدقة، وصورها وذكر خصائصها ومنافعها الطبية. وقد ظل هذا الكتاب أعظم مرجع تقليدي في هذا الميدان. وبقي اسم هذا الكتاب مستخدمًا حتى القرن التاسع عشر، للدلالة على موضوع علم العقاقير في تعليم الطب. وقد قام “اصطفن بن بسيل” بترجمة بعض من أجزاء هذا الكتاب في زمن الخليفة المتوكل، “إلا أنها لم تكن ترجمة كاملة، ولم يستوفي الأسماء العربية كلها لعدم معرفته بما يقابل اليونانية فيها، حيث ظلت أسماء باقي العقاقير على صورتها اليونانية بحروف عربية”. أما الترجمة الكاملة للكتاب من اليونانية إلى العربية، فقد جاء الحافز عليها من المخطوط الفخم، الذي أرسله قسطنطين السابع إمبراطور الروم البيزنطيين، إلى الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر في قرطبة، حيث ألف “الناصر” هيئة من علماء الأندلس وأطبائها، ضمت عبد الرحمن بن إسحق بن الهيثم، والراهب نيقولا العارف باللغة الأغريقية واللاتينية، والطبيب حسداي بن إسحاق بن شيروط، ومحمد آل شجار، وأبا عمار الجزار، ومحمد بن سعيد الطبيب، وأبا عبد الله الصقلي. وقد عملت هذه المجموعة على ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، معتمدة على الطريقة العملية الميدانية، وذلك بالوقوف على أنواع النباتات ومعانيها، والتأكد في النهاية من صحة النقل عن اليونانية إلى العربية. وقد كانت ترجمة هذا الكتاب، بداية الطريق إلى ظهور المدرسة الطبية النباتية في الأندلس، التي حمل لواءها ابن الهيثم ورفاقه الذين تجاوزوا مرحلة الترجمة والنقل إلى مرحلة المعالجة باستخدام النباتات والأعشاب، إلى مرحلة التأليف في فوائدها العلاجية. فكانت الحصيلة عشرات المؤلفات ذات الطابع المميز الذي فاق به أطباء الأندلس نظراءهم في المشرق، ولكن للأسف الشديد ضاعت ترجمة ابن الهيثم ورفاقه لهذا الكتاب الذى لم يبق منه إلا النزر اليسير. ومع ضياعها طويت صفحة حياة ابن الهيثم، التي لم نعرف عن سيرته سوى هذا النزر اليسير.
مؤلفاته ومجهوداته العلمية
كان عبد الرحمن بن إسحق بن الهيثم، صاحب خبرة وتجربة واسعة في علاج العديد من الأمراض والأوجاع باستخدام النباتات والأعشاب. وقد صاغ تجربته العلمية هذه في العديد من المؤلفات، ولكنها للأسف الشديد قد فُقدت وذهب أكثرها في طي النسيان، ولم يتبق منها سوى أسماءها فقط. ومن هذه المؤلفات:
1- كتاب الكمال والتمام في الأدوية المسهلة والمقيئة، وقد ذكره ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء.
2- كتاب السموم أو السمائم، ذكره ابن حزم.
3- كتاب الاكتفاء بالدواء من خواص الأشياء، وقد أشار ابن حزم إليه، وأضاف أنه صنفه للحاجب أبي عامر، الحاجب المنصور.
4- كتاب الاقتصاد والإيجاد في خطأ ابن الجزار في الاعتماد. وابن الجزار أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد من أطباء القيروان، ومن مؤلفاته “الاعتماد في الأدوية”، الذي وصل إلى الأندلس، فتعقبه ابن الهيثم بكتابه هذا مبينًا فيه ما وقف عليه في كتاب الطبيب القيرواني من الخطأ”. وكتب ابن الهيثم هذه مفقودة، ولم يتبق منها سوى شذرات قليلة أوردها ابن البيطار في موسوعته الشهيرة “الجامع لمفردات الأدوية”، ومما استخلصه ابن البيطار من تراثه العلمي، المفردات الثماني وهي بخور مريم، جوز الرقع، جوز القيء حرذون، ند، عقرب كبايه، كمون، وأكثرها مفردات نباتية واثنتان حيوانيتان، وليس بينهما مفردة معدنية واحدة. ولقد بدأ ابن الهيثم معنيًّا بالمفردات المقيئة، حتى إنه ألف فيها كتابه “الكمال والتمام في الأدوية المسهلة والمقيئة”، ومما نقل عنه، أن ابن البيطار -بما يتعلق بجوز القيء- قدر الواحدة من جوز القيء هذا، قدر البندقة، وهو ثمر شجرة تنبت بالسودان، لونه أبيض يميل إلى الصفرة، أعظم من البندق، وهو يدفع إلى القيء والإسهال. ونصُّ ابن الهيثم الذي نقله عنه ابن البيطار، يقول: “إذا شرب منه وزن درهم كيلاً بوزن مثقال من الأنيسون المسحوق، وعجن بكفايته من العسل، وشرب منه بماء حار، هيج القيء وقيأ فضولاً مرية وبلغمية، ويسهل أيضًا في أسفل على قدر القوة والفضل”. كما نقل عنه ابن البيطار تعريفه للنبات المسمى بخور مريم، فيقول: “هو نبات له ورق دقيق في صفة ورق النيل، وعسلوج في ارتفاع الذراع رقيق، في أصل كل ورقة عسلج صغير، وفي طرفه رؤوس صفر كأنها شعبة من إكليل الشبث وبذره كبذره، وأصل هذا النبات إذا علق على المرأة منع الحبل”.
ابن الهيثم في المؤلفات الطبية والعلمية
وتقديرًا لدور ابن الهيثم في الحياة العلمية والطبية، فقد شهد بفضله العديدُ من الأطباء والعلماء العرب وغيرهم، وذلك من خلال ما تركه من كتب ومصنفات، وما زالت الأجيال الجديدة تنهل من روافدها إلى اليوم. فقد ذكر ابن جلجل في مقدمة كتابه “تفسير أسماء الأدوية” أثناء حديثه عن وصول كتاب ديسقوريدس إلى الأندلس فقال: “كان يومئذ من الأطباء قوم لهم بحث وتفتيش وحرص على استخراج ما جهل من أسماء عقاقير كتاب ديسقوريدس إلى العربية.. ومن الأطباء الباحثين عن تصحيح أسماء عقاقير الكتاب وتعيين أشخاصه عبد الرحمن بن إسحق بن هيثم”، وعدّد أسماء سبعة أطباء. كما ذكره أبو محمد علي بن حزم في رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها، فقد كتب معترفًا بفضله قائلاً: “وكتاب ابن الهيثم في الخواص والسموم والعقاقير من أجلّ الكتب وأنفعها”. كما قال عنه مؤرخ الأطباء ابن أبي أُصيبعة الدمشقى: “عبد الرحمن بن إسحق بن الهيثم من أعيان الأندلس وفضلائها، وكان من أهل قرطبة، له من الكتب أربعة”. وفي العصر الحديث ترجم له الطبيب المستعرب الفرنسي “لونسيان لوكلير” (1816-1893) في كتابه “تاريخ الطب العربي” فقال عنه: “إنه كان في عداد الأطباء المكلفين بمساعدة الراهب “نقولا” في تعيين النباتات المذكورة في كتاب ديسقوريدس”، وأدرج أسماء كتبه نقلاً عن ابن أبي أصيبعة، وأشار إلى نقول ابن البيطار في كتابه “جامع المفردات”.

(*) كاتب وباحث مصري.
المراجع
(1) العلوم عند العرب، قدري حافظ طوقان، الناشر: مكتبة مصر.
(2) تراث الإسلام، شاخت بوزورث، ترجمة: د. حسين مؤنس، وإحسان صدقي العمد، سلسلة عالم المعرفة، الحزء الثاني.
(3) بداية الطب النباتي في الأندلس، فاضل السباعي، مجلة الفيصل، العدد:161، يونيو عام 1991م.
(4) رسائل ابن حزم، تحقيق: د. إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الثالث.