إما أن يسحقنا الزمن ويفَتِّت وجودنا ويلاشي كياننا ويسلخنا عن هويتنا، وإما أن ننتبه ونأخذ حذرنا ونحشد قوانا، ونجنّد أفكارنا ونبعث قدراتنا، ونستحضر إراداتنا ونحفز هممنا، ونبذل جهدنا لإنقاذ أنفسنا من سطوة أثقاله الفكرية وجفافاته الروحية وغياب إيمانه وهشاشة عقيدته ولادينية علومه ومعارفه.

فرجال الفكر والروح من أبناء جلدتنا، هم اليوم مدعوون أكثر من أي وقت مضى للتصدي لما يحمله إلينا هذا الزمن من مخاطر تَمَسُّ الصميمَ من إيماننا، واللبَّ من كينونتنا كأمة إيمان ودين وثقافة وتاريخ. وعلى الرغم من محاولات الطمس والإقصاء والتشويه الذي يعانون منه، غير أنهم قادرون -بما يملكون من ثراء روحي وإيماني- أن يسطعوا في كل سماء، ويتوهجوا في كل فضاء. فعظمة هؤلاء الروحية، وعبقريتهم الفكرية، أوسع من أنْ يَحجبها حجاب أو يُغيّبها سحاب؛ فهم موجودون عند المكان الذي ينبض فيه قلب العالم، ليصلحوا شأنه ويعملوا على انتظام دَقَّاته وضبط خفقه، وهم موجودون حيثما يكون وجودهم أكثر لزومًا وأعظم نفعًا. إنهم بسلاء روح، وشجعان فكر، وأقوياء إرادة، وعظماء إصرار وتصميم؛ فشعورهم أنهم مندوبو القدر لإصلاح العالم يزيد في حماسهم واندفاعهم نحو روح العالم بهالات المجد التي افتقدها، وإحلال هذا الروح في المكان الأرفع والأسمى من اهتمامات البشرية، إنهم في الحق شرارات فكر تضيء دياجير العالم وتنير طريق الهداية والاستقامة.

فهذا العالم الإنساني بات بعد هذه القرون المثخنة بالتحولات المادية الكبرى متعبًا شديد التعب، محبطًا شديد الإحباط. إنه يبحث عن رجل روح عظيم يتولى زمامه، ويقود خطاه، ويبدد السحاب القاتم والمخيم فوق الروح الجمعي ليحجب صفاءه، ويغطي على تألقه وتوهجه. فمن خلال عدة كتب ومقالات وخطب ومحاضرات، استطاع هؤلاء الأفذاذ أن يستنبتوا في الأذهان فكرًا جديدًا يريدون أن يتحول إلى حقائق يعيشها الناس كشأن من شؤون حياتهم الدنيوية الأخرى، وهذا الفكر الروحي مرشح اليوم للهيمنة على ساحة الثقافة المحلية ومساحات من الثقافة العالمية.

وهذا الفكر الروحي -شأنَ كل الأفكار الروحية العظيمة- لم يعد بعد اليوم قادرًا على الانكفاء والوقوف في ساحة ثقافية واحدة حتى لو أراد صاحبه ذلك، لأنه فكر -بطبيعته- امتدادي توسعي، إذا توقف عن السريان نكص وانتكس. كما أنّ أيَّ صاحب فكر إذا ما نشر فكره وأبان عنه ودعا إليه، خرج عن ملكيته، وصار ملكًا لجموع قرائه والمتأثرين به والمتعلمين منه، وخرج كذلك عن محليته وخصوصيته إلى العمومية والعالمية.

وبعض قرَّاء هذا الفكر قد ينتابه الاندهاش والعجب من علوه وسموّه، ومن امتداداته الأفقية والعمودية، حتى ليكاد يقفز فوق عقلانية العصر وسياقاته الفكرية ومواضعاته المنطقية. وهذا أمر طبيعي، لأن العبقرية بحد ذاتها لهبٌ فكري لا يقاس ولا يطال؛ فهو يقلب الموازين، ويشعل الهشيم، ويحرق العتيق، ويأتي بالجديد، وينشئ للآتي من الأيام والأجيال، ويبني للقادم من الإنسانية والإنسان.

فإما أنْ نحثّ الخطى ونجري سراعًا وراء طموحنا الذاتي، فنزيد علوًّا، ونزيد فهمًا وإدراكًا، ليزيد نتاجنا، ويعظم شأننا، وتكثر أيادينا، وتسهم عقولنا مع عقول الآخرين في انتشال الروح الإنساني من وهدته وقيامه من سقطته، وإما أن يكون نصيبنا من هذا العصر عدوى تصيبنا من أمراضه الكثيرة، فنقع مغشيًّا علينا فلا نفيق من غشيتنا إلا على صوت نفير القيامة فنندم ولات حين مندم.

(*) كاتب وأديب عراقي.