أُلوغ بك من رواد علم الفلك

هو “أولغ بن محمد شاه رخ بن تيمورلنك”، أحد فلكيي القرن 9هـ/15م. وُلد سنة 796هـ-1393م في مدينة “سلطانية” من بلاد ما وراء النهر، ونشأ في بيت إمارة وسلطان؛ فقد كان أبوه حاكمًا لبلاد كثيرة ومقاطعات واسعة ضمت بلاد ما وراء النهر والأقاليم الشمالية في “الهندستان”، واتخذ من “هراة” مركزًا له حتى منتصف القرن 9هـ/14م. وأما جده فهو القائد المعروف “تيمورلنك” الذي كان أميرًا على إقليم “كِشَ”، كوّن مملكةً عظيمة سنة 772هـ/1370م بسمرقند، وبلاد فيجق، وخوارزم، وخراسان، وأذربيجان، وجرجستان.

عندما ظهرت على “أولغ بك” علامات النجابة والذكاء، ولاّه أبوه إمارة “تركستان” وهو في سن العشرين، جعل “أولغ بك” من سمرقند مركزًا لإمارته، وظلت كذلك نحو 39 عامًا، ثم تقلّد حكم البلاد بعد وفاة أبيه سنة 850هـ/1446م وكانت عاصمة حكمه “هراة”.
لقد برع “أولغ بك” في فنون كثيرة، كالفلك والتنجيم والرياضيات وغيرها… واستطاع القيام بأعمال جليلة في مجالات تلك الفنون؛ فأنشأ مَدْرسة عالية في سمرقند، عهِد بإدارتها إلى “قاضي زاده رومي”.
وعرف “أولغ بك” بإسهاماته في مجال الفلك؛ حيث بنى مرصدًا في “دمشق” (وقيل في “سمرقند” سنة 823هـ/1420م غاية في الإتقان والإبداع، وزوده بجميع الآلات والأدوات المعروفة في زمانه، حتى وُصف بأنه أحد العجائب، حيث جمع العلماء سنة 841هـ/1437م وعملوا أزياجًا (جداول فلكية) لأغراض الرصد. وأخرج من هذا المرصد زيجه المسمى “زيج كور كاني” (زيج جديد سلطاني) الذي ظل معمولاً به في الشرق والغرب قرونًا.
هذا وقد أشاد العلماء العرب وغيرهم، بجهوده القيمة؛ فأثنى عليه “حاجي خليفة” في كتابه “كشف الظنون”، وقال عنه المستشرق “سيديو”: “إن أعمال أولغ بك الفلكية كانت تتمة ضرورية للأعمال الفلكية المأثورة عن العرب والمسلمين”.
وبالتالي برع “أولغ بك” في علوم الرياضيات ولا سيما الهندسة وحساب المثلثات، وساعدت الجداول التي أنشأها في جيوب الزوايا وظلالها، على تقدم علم الفلك كثيرًا.
وبالإضافة إلى إسهاماته الفلكية، فقد كان معماريًّا ذا ذوق فني دفعه إلى العناية بالبناء؛ فشيد “الخانقاه” -وهي بيت ينزل فيه المتصوفة- التي تميزت بأعلى قبة في العالم أنذاك، و”مسجد أولغ بك” المسمى بالمسجد “المقطَّع”؛ وسمي بذلك الاسم، لأنه مزخرف من الداخل بالخشب المقطَّع اللون على النمط الصيني، كما شيد مسجد “شاه زنده”، والقصر ذا الأربعين عمودًا المعقودة بأبراج أربعة شاهقة، والمزين بصف من عمد المرمر، وابتنى قاعة العرش أو “الكرسي خانه”، وشيد “جيني خانه”، ونقش حوائطه بالصور أحد الفنانين الصينيين البارعين الذين أعجب بهم “أولغ بك”.
وكان “أولغ بك” شغوفًا بالشعر، محبًّا للشعراء، حيث اتخذ أحدهم شاعرًا له. كما عني بالتاريخ وألف كتابًا في تاريخ أبناء “جنكيز خان” الأربعة، بعنوان “أوغلولر أربع جنكيزي”، والظاهر أنه قد ضاع، وكما قال “لوبوفات”: “لو بقي لكان جليل القيمة”.
فضلاً عن ذلك كله، فقد كان “أولغ بك” فقيهًا دينيًّا، انكبّ على دراسة القرآن الكريم وحفظه، وجوّده بالقراءات السبع. وقد تحققت أمنية أجداده؛ حيث أصبحت سمرقند مركزًا للحضارة الإسلامية في عهد “أولغ بك”، تجمع الكثيرين من علماء الفلك والرياضيات والأدب، أمثال: “جمشيد”، و”قاضي زاده رومي”، والشاعر “عصمت البخاري” و”طاهر الأبيوردي” و”رستم الخورياني” وغيرهم.
وتوفي “أولغ بك” سنة 853هـ/1449م بعد ما ثار عليه ابنه “عبد اللطيف” الذي استولى على “بلخ” وهزم أباه عند “شاهر خيه”.

(*) جامعة عين شمس / مصر.