يا بطلاً طال الشوق للقياه سنين وسنين.. أين أنت؟ أين أنت يا زاجل خيالنا وطائر أحلامنا؟! أين أنت يا بشير انبعاثنا من رقدتنا؟! لقد ترقّبناك دومًا في أيام الألم المديدة، وفي ليالي الأرق الطويلة، ولا زلنا نترقّب… كم من مرة تبدّى لنا في الأفق البعيد خيال توهمناه إياك، فخرجنا للُقياه مردّدين نشيد “ثنية الوداع”… كم من مرة حتى الغروب انتظرناك… ولما عدنا إلى بيوتنا منكسري الخاطر، مطأطِئي الرأس لم نجد السلوان إلا في خيالاتنا التي طرّزناها بأزهار الزنبق… في كل يوم يهب نسيم الحزن والأسى على أرواحنا فيسحقها… في كل يوم يشمت بنا الأعداء ويتصايحون هازئين: لا… لن يجيء من تنتظرون… لن يأتي إليكم بطلكم… ذلكم الذي يملك أنفاس المسيح وعضلات هرقل، أبدًا لن يأتي!

أين أنت؟.. ومتى ستأتي؟.. متى ستأتي أيها الفارس الأسطوري… متى؟.. فوالله لقد أوشكت هذه الأرواح المحتضَرة، والقلوب الضامرة المهترئة أن تنطفئ شمعةُ حياتها… فإن لم تسرع بأنفاسك الطاهرة التي تبعث الحياة في الأرواح فلن تبقى زهرة نيلوفر واحدة في بحيراتنا التي أصابها الجفاف، وأحواضنا التي انحسر عنها الماء.

أين أنت؟.. ومتى ستأتي؟.. متى ستأتي أيها الفارس الأسطوري… متى؟.. فوالله لقد أوشكت هذه الأرواح المحتضَرة، والقلوب الضامرة المهترئة أن تنطفئ شمعةُ حياتها… فإن لم تسرع بأنفاسك الطاهرة التي تبعث الحياة في الأرواح فلن تبقى زهرة نيلوفر واحدة في بحيراتنا التي أصابها الجفاف، وأحواضنا التي انحسر عنها الماء. لقد مضت عصور على رحيل البستاني وتصحُّر البستان. ومنذ اليوم الذي أعرضت فيه الأرضُ عن السماء، وأقلعت السماءُ فلم ترسل إلى الأرض قَطرًا… منذ ذلك اليوم تحولت الأرض إلى قفار يابسة… وبتنا في هذه القفار نتفقدك في كل قافلة، نتفقدك وكأننا نبحث عن قميص يوسف، ثم عدنا بصبر جميل ننتظر فجرًا جديدًا.

إن عينيّ تترقبان طريق قدومك، ولساني يترنم بأناشيد دعوتك، وأنا بينهما حاولت أن أعالج أوتار قلبي بريشتي المكسورة، ولكن هيهات!.. فلقد عجزت أن أكون ترجمانًا لأصغر سر من هذا اللغز
وكم من مرة -عندما لفّنا الصمت، وضربت علينا الوحدة قبابها- حسبنا البُغاث نسرًا، وظننا المقعدين المشلولين الإسكندر الأكبر فصفّقنا لهم… لم تبق قافلة لم نركض وراءها… ولكنك لم تكن في أيّ منها… كم من ذي قامة مبسوطة صادفناه ليس لديه فكر ولو بقدر أنملة… وليس لديه إرادة لإشعال شمعة… أرواحهم كانت سوداء معتِمة، وأفكارهم كانت خربة، ونظراتهم كانت قاصرة، وعباراتهم كانت عارية… لم نجد لديهم ما كنا نأمله في بطلنا من نظرة ثاقبة، ونفس مكابِدة، وحماسة لاهبة، وبسمة رقراقة.
لقد تحول الزمان بنا إلى المحرّم، وغدا المكان جميعه كربلاء. فراحت نفوسنا تتأوه بآهات الحسين… أنظارنا مشرئبة نحو آفاق خيّم الظلام عليها تَرقُب قدومك ارتقاب الهلال… نتخيلك في كل وجه، ونستبشر قدومك مع كل صيحة… كلنا شوق إليك… كلنا ظمأ لك… كلنا لهفة عليك.
عرفناك مخلصًا وفيًّا محتسبًا واعيًا بصيرًا كفؤًا ماهرًا. لم يَر ضيما من آوى إلى رحابك. أصبحتَ لحن الصدق ورمز الإخلاص. قاسمتَ من أعطيتَهم قلبَك بكاءهم وابتساماتهم، آمالهم وتأوهاتهم، فرحهم وأتراحهم. لم تستطع الدنيا أن تتصيّدك أو أن تكون قيدًا لروحك السابحة في أجواء السماء. محضَ وفاء وإخلاص كنتَ.
عندما حملتَ على عاتقك عبئًا تنوء بحمله الجبال، كنت مدركًا لطبيعة مهمتك، عازمًا على المضيّ فيها قُدُمًا. فلم يُهن من رباطة جأشك صعوبةُ المرتقى في تلك الشعاب، ولم يُضعف من عزيمتك اجتياز الوديان الملتهبة الحارقة أو يثبّط من همتك، كلا، ولم ينل ذلك كله من وفائك… لقد دلفتَ إلى هذا الطريق، وسرتَ فيه سير العاشق الولهان لا تفتأ تُردّد: “سلكنا دروب الحب… لا نبتغي شرفًا هناك ولا غرورًا”.
أتذكُر يوم وضعوا حياتك في كفّة وشوكةً يشاك بها خليلُك في كفة، وخيّروك بينهما، فجُنّ جنونُك وثُرتَ وعددتَ نفسك جاحدًا وغير وفيّ لو كان لك ألفُ روح ولم تفدها جميعًا لقاء شعرة واحدة في سالفته؟.. أين أنت يا خُبيب؟!
وفي مشهد آخر قطعوا جناحيك وطرحوك أرضًا كشجرة قُضّبت فروعها… لم يبق سوى رأسك الملطخ بالدماء القانية فوق كتفيك… كنت تريد أن تخفي ذلك الرأس العزيز الذي يستحق أن تقف حوريات الجنة له احترامًا وإجلالاً. أوَ تذكر ماذا كان حالك يردّد؟ “جاحدٌ وغير وفيّ أنا، إن لم أذُد عنه كل أذى ما دام رأسي فوق كتفي”… أين أنت يا مُصعب؟!
أوَ تذكر يوم جررتَ الجيوش خلفك وحلّقت بهم بعيدًا؟.. كنت منطلقًا متوثبًا، لا تحدك الحدود ولا تقيدك القيود… كنت لهيبًا متقدًا… وطوفانًا هادرًا… كنت تريد أن تستلم الأرض من مشرقها إلى مغربها بقفزة واحدة وتسلمها إلى قائدك الأعظم -صلى الله عليه وسلم-. فوصلتَ بسرعة لا تُدانى مع أبطالك إلى أرض المجوس… ثم أرسلت زئيرك المدوّي الذي زلزل القلوب، فانهارت مدن كسرى أمامك واحدة تلوى الأخرى وباتت أثرًا بعد عين. ثم رفعت صولجانك وهويتَ به على رأس بيزنطة، ففتحت بذلك طريقًا إلى القسطنطينية ومهّدت السبيل للفاتح التركي الشاب الذي سيأتى بعدك بقرون. من كنتَ؟ أكنت الخَضِر يا ترى؟! تفتحت الورود في الطريق الذي مشيت فيه، وانقلبت الخرائب مدنًا عامرة… كان الأعداء والأصدقاء يؤمنون بأن سيفك نزل من السماء، وكانت الجيوش ترى أنك مَلَك مكلف بإصلاح الإنسانية.

لقد تحول الزمان بنا إلى المحرّم، وغدا المكان جميعه كربلاء. فراحت نفوسنا تتأوه بآهات الحسين… أنظارنا مشرئبة نحو آفاق خيّم الظلام عليها تَرقُب قدومك ارتقاب الهلال… نتخيلك في كل وجه، ونستبشر قدومك مع كل صيحة… كلنا شوق إليك… كلنا ظمأ لك… كلنا لهفة عليك.

وفي أوج انتصاراتك تلك، يأتيك نبأ عزلك ممن كنت تتوقع منه ثناء ومديحًا. لكنك استصوبت ما قال: “إن الناس يَعزُون النصر إليك… بينما النصر من عند الله”، استصوبتَ ما قاله وانقدتَ لقراره. ثم واصلت سيرك في سبيل مبدئك العظيم تحت إمرة من كان قبلُ تابعًا لك… قل لي بربك… كيف استطعت تحمُّل كل هاتيكَ الأمور؟ ألم يكن لديك اعتزاز بنفسك أو إباء؟ آه يا فارسي الذي ظمئتُ إلى أنفاسه… أين أنت يا خالد؟!
في إحدى المرات مُنِعتَ من التحدث إلى أخيك… أخيك الذي لم تفارقه لحظة واحدة حتى ذلك اليوم… أخيك الذي كنت تقاتل معه جنبًا إلى جنب، وتجلس معه إلى مائدة واحدة… كان عليك ألا تكلمه… كان الأمر صادرًا من ديوان سامٍ، وكنت عازمًا على الانقياد لهذا الأمر… قل لي بجاه من عشقتَه كل ذلك العشق!.. قل لي: أقلت له غير كلمة “لا أدري”؟.. أيّ ولاء هذا؟! وأيّ وفاء ذاك؟! وأيّ إرادة؟! أين أنت يا أبا قَتادة؟!(1)
أتذكُر يوم كنت تمشي أمام شيخك، فطفر بعض الوحل من قدم حصانه فأصاب جبّتك المغسولة بالعطر؟ كنت آنذاك سلطانًا عظيمًا وحاكمًا كبيرًا يرى الدنيا لا تسع سلطانين… كنت حاكمًا يقف على بابه فُرس إيران ويخدمه مماليك مصر… كانت الأُسود ترتجف رعبًا من براثن سطوتك… فماذا فعلت آنذاك؟.. لقد أوصيت أن تُلَفّ تلك الجبة الملطخة بالوحل حول نعشك… من أنت؟.. أصوفي أم درويش؟ أم مَلَك يمشي على الأرض؟.. أيها الأسد الهصور أين أنت؟!(2)

يا بطلاً طال الشوق للقياه سنين وسنين.. أين أنت؟ أين أنت يا زاجل خيالنا وطائر أحلامنا؟! أين أنت يا بشير انبعاثنا من رقدتنا؟! لقد ترقّبناك دومًا في أيام الألم المديدة، وفي ليالي الأرق الطويلة، ولا زلنا نترقّب
إن عينيّ تترقبان طريق قدومك، ولساني يترنم بأناشيد دعوتك، وأنا بينهما حاولت أن أعالج أوتار قلبي بريشتي المكسورة، ولكن هيهات!.. فلقد عجزت أن أكون ترجمانًا لأصغر سر من هذا اللغز. فردّدت مع الشاعر:
أهاجت مشاعري نغمةٌ *** حتى عجزتُ عن ترنيمها
أعينُنا تسمّرت على الطريق الذي جئتَ منه لأول مرة. مضت سنون وسنون عكفنا فيها ننمّي في قلوبنا أمل عودتك من جديد، ونتسلّى بخيال محيّاك. بهذا الأمل وبهذا العزم سنظل نرتقب قدومك -إلى الأبد- عند مطلع كل فجر، ونسأل عنك كل قافلة. كن على يقين أن ما نعاني منه من إحباط ووحشة، ومن غلظة أعدائنا وشراستهم، لا يمكن أن يحول بيننا وبين عشقنا لدربك وولهنا بك. قد ننخدع في هذا الدرب ألف مرة، وقد ننظم أبياتًا في مديح اليراعات ألف مرة، أو نشرب ماء التعميد على أنه إكسير الحياة، ولكننا -على نهج الرومي- لن نتوانى لحظة واحدة عن اقتلاع قلوبنا وإهدائها ولو مقابل أكاذيب تقال في سبيلك(3).
أيا بطل الأحلام الحلوة… يا فارسي المحبوب!.. في هذه الأيام السود التعسة التي يسعى فيها الرياء والشهرة وحب المنصب والجاه إلى تشويه آمالنا المشرقة… نرجوك، نرجوك ألا تترك القلوب الظامئة إلى إكسيرك الباعث للحياة تعاني مزيدًا من شقاء الانتظار.

(*) الترجمة عن التركية: هيئة تحرير المجلة. وهو مقال نشر في مجلة سيزنتي (Sızıntı) في تاريخ 1 مارس 1980.
الهوامش
(1) يشير بذلك إلى قصة أبي قتادة مع كعب بن مالك، أحد الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك ووردت قصتهم في سوة التوبة.
(2) المقصود هو السلطان سليم، أول خليفة عثماني. (المترجم)
(3) لما اشتد شوق جلال الدين الرومي وحنينه إلى صديقه شمس، جاءه رجل يزعم أنه يحمل أخبارًا عن شمس، وراح يقص عليه حكايات لا أصل لها. ولما انتهى من حديثه خلع الرومي عباءته فرحًا وأهداها الرجل. فقالوا له: لقد كذب. فقال: أعلم، أهديته عباءتي مقابل كذبه عن شمس، ولو صدق لكنت أهديته روحي. (حراء)