أوليا جلبي ورحلته إلى الحجاز

أوليا جلبي بن درويش محمد آغا ظلي، واسمه الحقيقي غير معروف، وقيل إن اسمه حافظ محمد خواجه، وهو من مواليد إسطنبول عام 1611م. درس أوليا جلبي سبع سنوات في مدرسة شيخ الإسلام حامد أفندي، وعمل على حفظ القرآن الكريم على يد أستاذه أوليا محمد أفندي، ثم درس العلوم الأخرى على يد حسين أفندي الجني، وأخفش أفندي، وتعلم من والده -في هذه الأثناء- حسن الخط وفن الحك وفنونًا أخرى.

وقد قُدم أوليا جلبي للسلطان العثماني مراد الرابع (1623-1639م) في أثناء وجوده في آياصوفيا من لدن ملك أحمد باشا الذي أصبح فيما بعد صدرًا أعظم للدولة العثمانية، فعيّنه في مستودعات القصر السلطاني، عمل هنا أربع سنوات، ثم انتقل بعدها إلى فرقة الفرسان (السباهية). ومما لا شك فيه أن عمله في القصر قد ساعده كثيرًا على زيادة معارفه الثقافية وتوسع أفقه، وعلى زيادة قدراته الأدبية والإدارية.

ذكر الرحالة أوليا جلبي أن عام 1630م يشكل حجر الزاوية لرحلاته التي استمرت نصف قرن من الزمان. فقد كان يتشوق لرؤية العالم من حوله، والاطلاع على عادات الناس وتقاليدههم عن كثب. فبات وهو يفكر في تحقيق ما كان يصبوا إليه من القيام برحلة حول العالم، حيث شرع في رحلته من إسطنبول، ثم انتقل منها إلى مدن الأناضول القريبة، وانطلق منها إلى العالم الفسيح؛ فتجول في ثلاث قارات هي آسيا وأوربا وإفريقيا، وأشار إلى كل بلدة يتجول فيها، وسجل معلومات موجزة عنها من خلال بعض كتب التاريخ المعروفة.

ولقد انتقل أوليا جلبي بعد الانتهاء من الحج إلى مصر، وتوجه منها إلى الحبشة وإلى السودان، فتمكن من الاطلاع على أوضاعها عن كثب، ودوّن خلالها مشاهداته التي أخذت حيزًا كبيرًا من المجلد الأخير من الرحلة.

توفي أوليا جلبي عام 1682م، وقيل يحتمل أنه توفي عام 1684م، وقيل إن تاريخ وفاته ومكانه غير معروفين. وترك لنا رحلته (سياحت نامه) التي دونها في عشرة مجلدات، فيها الغث والثمين من الأخبار عن البلاد التي زارها كافة. وتضمنت رحلة أوليا جلبي هذه الموضوعات الآتية:

الجزء الأول خصصه عن مدينة إسطنبول، والجزء الثاني ابتدأ فيه بالحديث عن رحلته إلى بورصا عام 1640م، والجزء الثالث خصصه لرحلته من الشام إلى صيدا عام 1649م، والجزء الرابع فصّل فيه رحلته من إسطنبول إلى مدينة “وان” ثم إلى إيران برفقة بعض رجالات الدولة العثمانية، وفي الجزء الخامس تناول فيه تكملة الرحلة التي قام بها إلى مدينة “وان” ثم بدليس وبعض البلاد الشرقية الأخرى التي تم تفصيلها في الفقرة السابقة، والجزء السادس خصصه لرحلته إلى المجر وألمانيا وهولندا والسويد والبلاد التي زارها في أوربا عام 1661م، الجزء السابع فيه تكملة لرحلة المؤلف إلى أوربا، والجزء الثامن تحدث فيه عن رحلته مع خان القريم إلى بخجه سراء، ونبذة عن خانات القريم، ثم العودة إلى “أدرنه” ومراحل الطريق بينها وبين بعض المدن اليونانية، أما الجزء التاسع والعاشر خصصهما لبيان وتفاصيل رحلته إلى الحجاز ثم مصر فالسودان.

مشاهداته في الحجاز

لقد تناول الرحالة أوليا جلبي تفاصيل رحلته من الشام إلى الحجاز في الجزء التاسع من الكتاب المعنون بـ”سياحت نامه”، ويقع ما يخص تلك الرحلة في سبع وتسعين صفحة، وذلك منذ خروجه من الشام في عام 1671م، حتى وصوله إلى مكة المكرمة، ثم القيام بأداء فريضة الحج والانتهاء من المناسك، ثم خروجه من مكة المكرمة متوجهًا إلى مصر. كما ذكر في هذا الجزء من الكتاب، منازل الطريق من الشام إلى مكة المكرمة؛ كمنزل قصر أحمد باشا الصغير، ومنزل قرية الكسوة، ومنزل فندق طرخنة، ومنزل قلقة الصنمين، ومنزل قرية بُصرى الصغرى، ومنزل الكتيبة، ومنزل قلعة مزيريب، ومنزل نهر حوريان (لعله حوران)، ومنزل قرية النوى، ومنزل قرية طورنة، ومنزل قلعة مزرق… وغيرها من المنازل إلى أن ينتهي بمنزل وادي فاه. كما ذكر أوضاع بعض القبائل الواقعة على طريق الحج، التي تكفلت بنقل الحجاج من صحراء مزيريب إلى الحجاز، وأشار إلى أن تلك القبائل كانت تنتظر بخمسين ألف ناقة قدوم القافلة من الشام. ومن القبائل التي ذكرها الرحالة؛ آل عمر، آل رشيد، آل رياح، آل معان، آل خرنوش، آل ترابي، بني سالم، بني إبراهيم، بني سعيد، آل خرفج، بني زيد، بني صفر، بني عطية وعطا، بني زهد، بني واحدات.

الأوضاع الاجتماعية في الحرمين الشريفين

1– المدينة المنورة: ذكر أوليا جلبي أن معظم أهالي المدينة المنورة يشتغلون بالتجارة، وأن المدينة تُنار بالقناديل في شهور رجب وشعبان ورمضان، وأن أسواقها لا تغلق أبوابها. إلا أن يوم قدوم الحجاج يصبح عيدًا للأهالي؛ إذ يخرجون من البلدة الطيبة لاستقبال الحجاج بالقصائد والأناشيد. وبما أن الصُرّة الهمايونية (السلطانية) والهدايا تصل إلى المدينة المنورة مع قافلة الحج، فإن الأهالي ينتظرون قدومها بفارغ الصبر. وما أن يدخل الحجاج إلى البلدة حتى يصطف الناس على جانبي الطريق للسلام عليهم. وقد أشار الرحالة إلى فرحهم بقدوم الحجاج، أنهم يلبسون أجمل ملابسهم ويدعون الحجاج إلى منازلهم لزيادة الإكرام.

وقد تحدث أوليا جلبي عن فقراء المدينة المنورة أيضًا، وذكر أن الصدقات تدفع لهم خفية؛ لأنهم إذا وجدوا الرجل يدفع الصدقة أحاطوا به من كل الجوانب طالبين نصيبًا منها.

2– مكة المكرمة: لقد تحدث أوليا جلبي عن بعض العادات الاجتماعية للأهالي في مكة المكرمة، وذكر معلومات عن معيشة الأهالي فيها، وأنها تعتمد في الغالب على الصرة التي يبعث بها السلطان العثماني، وعلى القمح والرُّز القادمين من مصر ثم اليمن والزيلع وغيرهما. وذكر أنواع ما يطبخ في مكة، وأنها نظيفة وشهية، وأن أشهرها الهريسة. كما أشار إلى أن الفواكه الموجودة فيها هي الحبحب والبطيخ والعنب والخوخ التي تجلب من مدينة العباس، وأن البلد الأمين لا يخلو من الفواكه صيفًا وشتاء. وذكر أن مكة المكرمة تحيط بها خمس عشرة مزرعة، هي الأماكن التي يتسامر فيها الأشراف، وفيها تثمر أشجار النخيل والرمان والخوخ والليمون والترنج والعنب والنبك. كما ذكر أنواعًا من العطورات ولا سيما الورد والريحان والبخور.

ثم تحدث الرحالة عن العادات المتبعة لدى الأهالي في مكة المكرمة في تجهيز الجنائز والصلاة عليها ودفنها في مقبرة المعلاة، وأنهم يحترمون الميت كثيرًا، مشيرًا إلى أنهم يزورون المقبرة يومي الإثنين والجمعة، وأنهم يكثرون من قراءة القرآن الكريم.

أماكن الزيارة والأماكن الأثرية

أ- المدينة المنورة: لقد تحدث أوليا جلبي عن أوصاف الحرم النبوي والروضة المطهرة من حيث البناء والعمران، وأورد الكتابات المنقوشة على جدرانه، كما تحدث عن آداب السلام على النبي ، وصاحبيه الكريمين، وآل بيته الطاهرين. ثم ذكر طرفًا من الأوقاف الموجودة داخل قلعة المدينة المنورة، إذ أشار إلى مدرسة سيف الدين سلطان وقد كتب على بابه: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)(الإسراء:19)، وتحته مباشرة عبارة “أمر بعمارة هذه المدرسة المباركة الأمير الكبير المحتاج إلى عفو الرحمن سيف الدين خوبان والخاتونة المعظمة سنة أربع وعشرين وسبعمئة”. وبجانبها مدرسة السلطان قايطباي، ثم مدرسة سُقولّو محمد باشا بجانب باب جبريل، ثم أوقاف محمد الثالث بجانب باب السلام.

وقد أشار الرحالة إلى أن عدد المدارس الشرعية الموجودة داخل القلعة بالمدينة المنورة، مئة وثماني عشرة مدرسة، بالإضافة إلى وجود عشرين مدرسة للصبيان، وسبعة دور للقراء، وسبعة دور للحديث، وسبعين سبيلاً. وذكر أن أوقافًا بعضها كبيرة يتم فيها توزيع عصير العسل والسكر على الحجاج. وأورد بعض الكتابات الموجودة على جدران تلك السبل، منها: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)، و(عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً).

ثم تحدث أوليا جلبي عن الأحياء الواقعة خارج قلعة المدينة المنورة، فأشار إلى وجود سبعة أحياء خارجها، وفيها ألفا منزل يتكون كل وحد منها من طابقين. وذكر أن الأخشاب التي يتم بها بناء المنازل تستورد من مصر عن طريق السويس إلى ميناء ينبع ومنها إلى البلدة الطاهرة. مشيرًا إلى وجود أربعة أوقاف كبيرة؛ أحدها للسلطان سليمان القانوني، والآخر لحسكي سلطان، بالقرب من حمام السلطان مراد الثالث، حيث يتم فيه توزيع الأكل على الجميع ليل نهار ودون التفرقة بين الفقير والغني. وذكر الرحالة أن بعضًا من ست وأربعين مدرسة قد تحولت إلى منازل للسكن، وأشار إلى وجود ستة دور للقراء، وإحدى عشرة دار للحديث، وعشرين مدرسة للصبيان في الأحياء الواقعة خارج القلعة.

وقد ذكر أيضًا من أماكن الزيارة الواقعة خارج المدينة المنورة، كالبقيع، ومسجد قباء، وسيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وشهداء أحد.

بـ- مكة المكرمة: لقد تحدث أولياء جلبي عن أوصاف بيت الله الحرام من حيث البناء والعمران والتخطيط والساحات، ومقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، وباب الصفا، وكسوة الكعبة المشرفة وكيفية إعدادها، وذكر آداب الدخول إلى الحرم، وأورد بعض الأدعية المأثورة في ذلك. ثم تحدث عن المشاعر المقدسة، وذكر أوصاف منى وعرفات والمزدلفة، والجبال الموجودة في تلك المشاعر مثل جبل عرفات وجبل مهيب، وما سماه بجبل صفاء الواقع تحت جبل أبي قبيس، فأشار إلى أن منازل الأشراف توجد على تلالها أدوارًا أدوارًا.

وتحدث عن مسجد إبراهيم عليه السلام في عرفات وهو أكبر مساجدها، وذكر أوصافه، وأشار إلى أن الحجاج يدخلونه أفواجًا أفواجًا ويجمعون فيه الصلاة يوم الوقوف قصرًا. كما تحدث عن المزدلفة ثم منى، وما ينبغي على الحجاج القيام بها من واجبات وسنن. وذكر أوصاف بعض الجبال الأخرى في المشاعر، منها جبل “سبر”، وجبل “المرسلات” الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم سورة المرسلات، ثم جبل “العقبة” الذي في أدناه مسجد البيعة، ثم “جبل النور”.

وتحدث الرحالة بَعْدُ عن حدود مكة المكرمة، فذكر أنها تحد من الشمال بجبل ناقية الواقع في ستة عشر منزلاً، ومن الغرب بالموليح الواقعة بعد ثمانية عشر منزلاً، ومن الجنوب مدينة جدة الواقعة بمسافة إثنتي عشرة ساعة، ومن الشرق نهر القاع الواقع بعد عشرة منازل.

أما ما يخص أوصاف بيت الله الحرام، فقد ذكر الرحالة أن السلطان سليمان القانوني قد أمر المعماري سنان بوضع عتبات لأبواب البيت المعظم التسعة والثلاثين، للحفاظ على البيت وصحنه من مياه الأمطار والسيول. كما ذكر أن باب السلام قد تم ترميمه من لدن السلطان سليمان القانوني. ثم ذكر من أبواب البيت المشرف؛ باب السلام، وباب بني شيبة، وباب النبي صلى الله عليه وسلم، وباب الجنائز، وباب عباس، وباب علي، وباب بني هاشم، وهي كلها تقع في شرقي البيت. وذكر عدد أبوابه في الجنوب بأنها سبعة، وهي باب الأسواق، وباب الصفاة، وباب مخزوم، وباب أجياد، وباب مجاهدية، وباب فندق الأمة، ولم يذكر اسم الباب السابع. أما في الغرب فقد ذكر اسم بابي إبراهيم وباب العمرة من أبوابها الثلاثة. وقد ذكر الرحالة من أبواب البيت الحرام في الشمال، باب زياد، ثم باب دار الندوة، ثم باب الباسطية.

وتحدث أوليا جلبي أيضًا عن مآذن الحرم السبع، مشيرًا إلى أن أقدمها هي مئذنة باب العمرة وقد أقامها منصور الدوانقي العباسي. وذكر مواقع المآذن الأخرى بأن الثانية مئذنة باب السلام وقد جددها السلطان سليمان القانوني، والثالثة مئذنة باب علي وهي من عمارة العباسيين، وقد جددها أيضًا السلطان سليمان القانوني، والرابعة باب الحضر (هكذا) وهي أيضًا من عمارة العباسيين، والخامسة مئذنة باب زياد وقد أقامها سلطان مصر الملك الأشرف بايبرس، ولم يذكر الرحالة المئذنة السادسة، أما السابعة فقد أشار إلى أنها أعلى المآذن السبع. كما ذكر أن سبعة مؤذنين يعلنون عن دخول الوقت على المآذن السبع لمدة ساعة كاملة. ثم تحدث الرحالة عن بناء البيت العتيق عبر التاريخ الإنساني الطويل من خلال المراجع التي اطلع عليها.

وقد أورد أوليا جلبي معلومات عن الحجر الأسود، وعن ماء زمزم ونبعه، وعن باب السلام القديم قبل التوسعة التي شهدها الحرم، وعن مقام إبراهيم عليه السلام، ثم ذكر أسماء بعض مساجد مكة المكرمة في عهده، منها مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد عمر رضي الله عنه، ومسجد أبي بكر رضي الله عنه، ومسجد الحق، ومسجد الركوب، ومسجد المدعى. وأشار إلى وجود 740 محرابًا في مكة المكرمة. وتحدث كذلك عن الأوقاف الموجودة داخل مكة المكرمة وسبلها.

هذا وقد تبين من خلال قراءة الكتاب “سياحت نامه” أن المؤلف كان ملمًّا بأحداث التاريخ الإسلامي والثقافة الإسلامية إلمامًا جيدًا، ساعده على توضيح كثير من اللمحات التاريخية التي أوردها في صلب الرحلة. وكانت ذاكرته قوية في استرجاع ما يتعلق بمعالم الأماكن التي زارها أو مر بها، من خلال اطلاعه الواسع على المراجع الإسلامية والتاريخية المتوفرة في عهده، لا باللغة العثمانية فحسب، بل حتى باللغة العربية.

(*) أستاذ التاريخ العثماني في كلية الآداب، جامعة الملك سعود بالرياض / المملكة العربية السعودية.