أنا بنكرياس عبد الله

عزيزي عبد الله.. لعلك بعد أن تتعرف عليّ اليوم ستكون قد تعرفت على كافة الأعضاء في البطن والقفص الصدري. إن حجمي لا يعد كبيراً ولا ملفتاً للنظر كباقي الأعضاء، كما أني أكاد لا أُرى عند الكبد والقلب والرئتين. ولكن إياك أن تغتر بكلامي المتواضع هذا وتستصغرني بأسلوبي الهادئ الصامت! فلا تظنن أن القلب الذي يصدر أصواتا مخيفة كالمضخة أو الرئة التي تخرج هديراً كالقاطرات، أعلى مني قدراً وأعظم مني شأناً! فنحن الأعضاء جميعنا كالعضو الواحد يكمل بعضنا البعض، وكل واحد فينا يؤدي مهامه المكلَّف بها من قبل خالقه سبحانه ويشكره ليل نهار.

لا أحد منا يعمل دون العضو الآخر. ولعلي أبدو كقطعة نسيج دهني صغير جداً باللون الزهري بين المعدة والأمعاء، ولكني مكلَّف بمهمة حياتية كبيرة رغم صغر حجمي الذي يبلغ حوالي الست بوصات. كما أتصل بالأمعاء الدقيقة وأقع قريبا من المعدة وبالعمق في الجزء العلوي الخلفي للبطن مقابل العمود الفقري. إني ضروري جداً لعملية الهضم، إذ أطرح المواد التي أفرزها وفق برنامج إلى جوف الأمعاء قبل امتصاصها من قبَلها.

ولدي هويتان مختلفتان إحداهما تكوينية، والأخرى تنفيذية. ولا يوجد عضو آخر في الجسم يعمل مثلي، حيث أجمع في صفتي بين مميزات الغدد ذات الإفراز الداخلي (القنوية) والغدد ذات الإفراز الخارجي (اللاقنوية). ولإنْ أقوم بأداء دوري على أكمل وجه خلقتُ بشكل دقيق جداً، إذ كوَّنني ربي من طبيعة حساسة ومنحني خصائص كيميائية دقيقة تساعدني على القيام بهمتي هذه. إني أستغرب كثيراً من المتمسكين بنظرية التطور -بشكل مفرط- والقائلين بأن كل ما في الطبيعة خلق صدفة أو أن الطبيعة هي التي خلقتها وأوجدتها! فلو أن أولئك نظروا إلى الخصائص التشريحية والنسيجية الدقيقة لجسمي الصغير، ولو تمعّنوا في عظمة خلقتي المذهلة، لوقعوا لله ساجدين وصدقوه قولا وعملاً، ولكنهم لا يبصرون! فمنذ عشرات السنين يقوم العلماء في شتى بقاع الأرض بالبحث والفحوصات المختبرية والدراسات العلمية باستخدام المواد الكيميائية الحيوية وباستعمال المجاهر الضوئية والمجاهر الألكترونية من أجل الحصول على معلومات أكثر عني، ورغم ذلك ما زال هناك البعض من هؤلاء ينكرون وجود خالقي وقدرته سبحانه.

إن إحدى وظائفي تتعلق بفيزيولوجيا الجهاز الهضمي، حيث أُعَدّ ضروريا جدا لعملية الهضم، وذلك لإفراز الغدد النسخية الموجودة في الاثني عشري، وقد تحتوي هذه العصارة على الأنزيمات التي تساعد على هضم البروتينات والدهون والكربوهيدرات قبل أن يتسنى امتصاصها من خلال الأمعاء، كما أحتوي أنا البنكرياس على غدد صماء تعرف بـ”جزر لانغرهانس”، وأحتوي على خلايا فئة “بيتا” التي تفرز هرمون الأنسولين الذي ينظم تركّز السكر في الدم، كما أحتوي أيضاً على خلايا فئة “ألفا” التي تفرز هرمون معروف باسم “غليكاغون” وله مفعول معاكس لمفعول الأنسولين. ولكني لا أشعرك بشيء أبداً.

عندما ينتقل الطعام من معدتك إلى الاثني عشري، فإن معدلَ تدفّق الأنزيمات لديّ يزداد أيضاً، أي إن الأنزيمات تفرز وفقاً لكمية الطعام الذي تتناوله أنت. بينما تتطلب هذه العملية دقة بالغة، وإلا تضيع الأنزيمات وينشأ تآكل في الجدار الهضمي داخل الأمعاء. ليس لدي المقدرة على التحكم التام في إفراز الأنزيمات وفقاً لكمية الأطعمة الواردة، بل يتم التحكم من قبل هورمون السكْرتين والبنكريوزيمين الذي يقوم بتحفيزي أنا البنكرياس على إفراز إنزيماتي الخاصة، وذلك عن طريق العصب المبهم الناشئ في الدماغ. وعندما تنتقل الأطعمة من المعدة إلى الاثني عشري، يبدأ هرمون السكرتين والبنكريوزيمين يختلط بالدم، وعندما يصل هذا الهرمون إليَّ من خلال الدورة الدموية، يحفزني لأفرز البيكاربونات والإنزيمات الهاضمة في الأمعاء، كما يحفز الكبد في إفراز العصارة الصفراوية والمعدة على إنتاج الببسين.

يتم صناعة عصاراتي الهضمية في خلايا آسينوس التي تشبه عنقود العنب، إذ تسمي أنتَ الغدد التي أفرزها بواسطة هذه الخلايا بـ”الغدد القنوية” أو “الغدد الصماء” وغيرها من الأسماء كما تم ذكرها سابقاً.

بعد أن تتناول طعامك يتفكك الكربوهيدرات المهضوم إلى جزيئات الغلوكوز وينفذ إلى دمك، وبالتالي ترتفع نسبة السكر فيه. ولكي يعمل بدنك بشكل صحي ينبغي أن يكون مستوى الغلوكوز في دمك حوالي 100 ملغ/مم (ويمكن أن يتراوح ما بين 80 – 120). وعندما يرتفع مستوى السكر في دمك أكثر من ذلك، فإنني أفرز الأنسولين. في حين أمدّك بالطاقة بنقل السكر إلى الخلايا وحرقه فيها، كما أني أوقف ارتفاع السكر في دمك، وأوقف إفراز الأنسلين عند انخفاض السكر في الدم أيضاً. ومنه فإن الأنسولين يسهل عملية تخزين السكر في الأنسجة الدهنية وتحويله إلى الأحماض الدهنية، ويبطئ تدهور الأحماض الدهنية. وبالتالي فإن الأنسلين يساعد في تنشيط الأحماض الأمينية المحتفظ بها ضمن الأنسجة العضلية في عملية إنتاج البروتين، وتخزين الغلوكوز في الكبد وتحويله إلى الغليكوجين.

وإن أي خلل في خلايا البيتا لدي، يسبب داء السكري أضراراً لا رجوع عنها، حيث تصاب يا عبد الله بداء السكري أو مرض السكر عند عجزي عن إفراز هرمون الأنسولين أو إفرازي بكميات غير كافية أو غير فعالة، وهذا يؤدي إلى ارتفاع نسبة السكر في الدم بحيث يتعدى المستوى الطبيعي. وقد وصِف هذا المرض بين العامة بأنه يذيب لحم الإنسان ويعرض أطرافه للهزال، أو بأنه “مرض الأغنياء”، ولكنه في الحقيقة مرض خطير شائع. إذ أحرمك من الأطعمة الكثيرة من متع الدينا وأجعلك تدقق أكثر في مأكلك ومشربك، وإن لم تعتن بالحمية فإنك ستضطر حتماً إلى حقن الأنسولين كل يوم. ولعل هذه الجوانب ستؤدي إلى تلف النسج والأعصاب وعروق دمك ومن ثم إلى مضاعفات عديدة.. لا أريد في هذا الصدد أن أخوض في أنواع هذا المرض، ولكني أريد أن تعي يا عبد الله عجزك أمام مجموعة من الخلايا الصغيرة جداً، حيث تفقدك توازن جسمك بالكامل وتحرمك من متع الدنيا وملذاتها، فليس أمامك سوى الشكر والمنة على الصحة والعافية التي أنت عليها.

أما هرمون الغليكاغون التي تفرزها خلايا الألفا فإنها تعمل عملاً معاكساً تماماً من الأنسولين، حيث تحرر السكر المخزن في الخلايا. فعندما تنخفض نسبة السكر في دمك (بسبب الجوع أو العمل المرهق… إلخ) فإنني أعمل على تفكيك الغليكوجين الموجود في الكبد إلى الغليكوز ورفع نسبة السكر في الدم. وقد يعمل الغليكاغون ضمن منظومة متكاملة مع الأدرينالين الذي هو هرمون تفرزه غدة الكظر وهي تقع فوق الكلية، حيث ينتج في الخلايا أليفة الكروم في لب الكظر، وهو يعمل على تحضير الجسم للمجهود أو التوتر في حالة الخوف مثلا أو الإثارة. كما أن الغليكاغون يبطئ تركيب الغليكوجين، ويسرع من تفكيك البروتينات حرق دهون الأيض.

وكما هو شأن كل الأعضاء فإنني أصاب بأمراض مختلفة وكثيرة، ومن أكثر الأمراض شيوعاً؛ الالتهابات الحادة والمزمنة، والأورام والخراجات. وقد أُصاب بالالتهاب كثيراً خاصة عند من يتناولون الكحول، حيث لا أعود أقدر على إفراز العصارات بشكل جيد وبالتالي فإن الأغذية لا تهضم جيداً مما يؤدي إلى خروج البراز مدهنا، مع وجود الألياف البروتينة فيه. ولعل الأمعاء ستعاني من اضطرابات نتيجة القصور في الجهاز الهضمي بعد تناول الطعام. وفي حال إصابتي بالعطب تماماً وضرورة استئصالي بسبب الالتهابات الحادة والمزمنة أو الأورام، فينبغي عليك حينئذ أن تتناول يومياً السوائل الخالصة الناتجة من البنكرياس والأنسولين من الخارج حتى تبقى على قيد الحياة.

وعليه فإن سرطاني يتميز بسرعة الانتشار، فبعد أن تتم عملية انتقال الخلايا السرطانية من عضو إلى آخر فإن النهاية تكون معلومة لأن الطب يعجز أمام هذا الانتشار. والأسوأ من ذلك فإني لا أظهر إصابتي بالسرطان حتى تبدأ عملية الانتقال هذا، وإنما أحاول أن أنجز عملي دون أي نقصان، وهذا طبعاً لا يكون لصالحك. إذ إنك لا تشعر بمرضي إلا بعد أن أقصر في واجباتي، ولا أستطيع القيام بمهامي. ولكن -بشكل عام- يكون الوقت قد فات لأن انتشار الخلايا السرطانية يكون قد تم. ورغم أنه لم يثبت بشكل جازم أن التدخين يسبب سرطان البنكرياس، فإنني أعلم أن كثيراً من المدمنين يصابون بهذا المرض والله أعلم. ولكنني شخصياً أكره التدخين ولدي شبهات حولها. ولعلك تقول بأن التدخين يؤثر على الرئتين مباشرة فما علاقتك أنت به؟ ولكني لا أفكر مثلك! لأن أصدقائي أيضاً يشكون مثلي من التدخين. أوليس الأحسن لك أن تعدل عن التدخين وتعيش حياة بعيدة عن هذه الشكوك والأوهام؟

أما فيما يتعلق بمرض السكر، فإن التطورات التي حدثت في الآونة الأخيرة تعطي أملاً في القضاء على هذا المرض، إلا أنه لم تزل الدراسات مستمرة حول بعض جوانبه لإيجاد العلاج التام. وقد أجريت عمليات ناجحة -إلى حد ما- في نقل خلايا البيتا المأخوذة من بنكرياس إنسان ميت حديثاً والشبيهة -قدر الإمكان- بأنسجة المصاب بمرض السكر، ولكن العملية المتمثلة برفض الأنسجة أو الأعضاء لا زالت مستمرة إلى حد كبير. إذا انتهى في يوم من الأيام “مشروع الجينات الإنسانية” وأمكن وضع الشيفرة الوراثية للجسم بشكل كامل، ووضع كل ما يتعلق بالشيفرة الوراثية لمراحل أنشطة خلايا البيتا وتراكيب الأنسولين… إلخ، فإنه يمكن حينئذ معالجة مرض السكر بواسطة الهندسة الوراثية، ولكنه في الوقت الحالي ما هو إلا في طور التفكير والمخططات. في حين -وبإذن الله- إذا عمل العلماء والباحثون بعزم وحزم وبجد وإخلاص، عندها يستطيعون حل ألغاز هذا المرض وإيجاد العلاج له. وهذا هو المطلوب من الإنسان؛ أن يفكّ أسرار هذا الكون ويدرك قدرة الخالق اللامتناهية الذي استخلفه في أرضه.

يزعم بعض الغافلين أن ما يفعلونه من تدخلات بسيطة في الجينات، خلق جديد هُمْ صنعوه! يا لهم من غافلين عن الحقائق العلمية الكونية والقدرة الإلهية اللانهائية. فلو أنهم سعوا بعلمهم الذي منحهم الله إياه ولو استخدموا العلم لأجل إسعاد الإنسانية، لسرعان ما كشفوا حقائق تراكمت عليها الرمال، ولرأوا في الكون الشاسع ضوء الجمال الإلهي والقدرة الربانية وناجوا ربهم ساجدين “هل من مزيد”…

ــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الترجمة عن التركية: محمد ماهر قفص.