خُلقت القَدَم لوظيفتين أساسيتين؛ العمل كرافعة تدفع الجسم إلى الأمام أثناء المشي والجري، وحمل وزن الجسم كاملاً. ويتناسب التركيب التشريحي للقدم البشرية بشكلٍ مُتقن بديع مع المهمة الوظيفية لها، وذلك من خلال التقسيم البسيط والتصميم المعقد لأجزائها.

القَدَم كرافعة

إن وظيفة القدم الأساسية العمل كرافعة، تدفع الجسم إلى الأمام أثناء المشي والجري، ولو أن الله تعالى خلق القدم مكوَّنة من عظمة واحدة قوية بدلاً من سلسلة من العظام الصغيرة، لكان بمقدورها أيضًا أن تحمل وزن الجسم، وأن تعمل كرافعة جيدة للدفع الأمامي. فلماذا كانت القدم بمثل هذه البنية من العظام الصغيرة المُجزَّأة المتراصة وليست عظمة كبيرة واحدة؟ السبب أن القدم لو كانت مكونة من عظمة واحدة، لما استطاعت أن تكيف نفسها مع السطوح غير المتساوية والمتعرِّجة، كما أن الدفع نحو الأمام في هذه الحالة، سيتوقف كليًّا وبشكل رئيسي على عمل عضلة الساق (Gastrocnemius) والعضلة النعلية (Soleus).

تعطينا أقواس القدم مثالاً بيولوجيًّا على التأثير الطبيعي للقوس في تحمل الأوزان وتوفير الثبات للبنية الجسدية، تمامًا كما تعطي الجسور والقناطر مثالاً تاريخيًّا في تحمل الأوزان وتوفير الثبات للمنشأة الهندسية.

ولكن بما أن القدم مجزَّأة بمفاصل عديدة، فيمكنها أن تكيف نفسها مع السطوح غير المنتظمة والبروزات غير المتساوية. كما يسمح هذا التركيب المتمفصل للعضلة المثنيّة الطويلة (Long exor muscles) والعضلات الصغيرة للقدم، أن تمارس عملها على عظامِ مقدِّمةِ القدم وعلى أصابع القدم؛ لتأمين نقطة ارتكاز من أجل رفع القدم، حيث يمثلان معًا نقطة إقلاع القدم (The take off point) التي تساعد بشكل كبير في عملية الاندفاع نحو الأمام، العملية التي تقوم بها عضلة الساق والعضلة النعلية، وهكذا أصبحت حركة القدم -حتى فوق الأسطح غير المنتظمة- ثابتة ومرنة وانسيابية.

القدم كحاملة لوزن الجسم

بالعودة إلى التركيب التشريحي للقدم البشرية، فإننا نجد أن أقواس القدم تأخذ شكل الجسر المقوَّس بطريقة مذهلة؛ فالعظام المتمفصلة في القدم البشرية تتراص على شكل ثلاثة أقواس، يمتد اثنان منها بطول باطن القدم على الجانبين (الأقواس الطولانية الأنسية والوحشية)، ويمتد الثالث بعرض باطن القدم (القوس المستعرضة). ويُظهر فحص صورة شعاعية جانبية للقدم، شكل وترتيب العظام التي تشكل هذه الأقواس بوضوح.

عبقرية القوس وقدرة الخالق

خلق الله القدم البشرية بتصميم هندسي يجعل عظامها تتراص على هيئة أقواس طولية وعرضية، بحيث لا تلامس بطن القدم سطح الأرض عندما يقع وزن الجسم على القدم أثناء الوقوف، وعند فحص أثر انطباع قدم رطبة على الأرض لشخص في وضعية الوقوف، يمكن رؤية أن العقب والحافة الوحشية للقدم، والوسادات تحت رؤوس الأمشاط، ووسادات السُّلاميات القاصية، تكون كلها على تماس مع الأرض.

1- القوس الطولانية الأنسية: تتألف القوس الطولانية الأنسية (Medial Longitudinal Arch) من عظم العقب، والعقب والزورقي، والعظام الإسفينية الثلاث، والعظام المشطية الثلاث الأولى، ويمتد على الجانب الأنسي بطول القدم ويلامس هذا القوس الأرض عند العقب وتكوير القدم فقط، وهو المسؤول عن تكوير شكل القدم في الجانب الأنسي؛ حيث تتقوس الحافة الأنسية للقدم (الحافة حيث تلتقي القدمين) من العقب وحتى رأس المشط الأول فوق الأرض بفضل القوس الطولانية الأنسية.

2- القوس الطولانية الوحشية: تتألف القوس الطولانية الوحشية (Lateral Longitudinal Arch) من عظمي العقب، والنردي، والعظمين المشطيين الرابع والخامس.

يكون أكبر انطباق القدم على الأرض من الحافة الوحشية عند العقب وعند رأس المشط الخامس، فيما يقع أقل انطباق للقدم بين هاتين المنطقتين، وذلك بفضل الوضع المنخفض للقوس الطولانية الوحشية الذي يمتد على الجانب الوحشي بطول القدم.

3- القوس المستعرضة: تتكون القوس المستعرضة (Transverse Arch)، من قواعد العظام المشطية الخمسة، والعظم النردي، والعظام الإسفينية. وهذه القوس هي في الحقيقة نصف قوس فقط، قاعدتها عند الحافة الوحشية للقدم، وقمتها عند الحافة الأنسية، لهذا فإن القدم الواحدة تمثل نصف قبة، بينما تتشكل قبة كاملة عندما توضع الحافتان الأنسيتان للقدمين بجانب بعضهما.

ومن هذا الوصف لأقواس القدم الثلاثة، يمكن أن نفهم أن وزن الجسم يتوزع أثناء الوقوف على كامل القدم، عبر العقب (الكعب) في الخلف، وست نقاط تماس مع الأرض في الأمام، هي العظمتان السمسمانيتان (Sesamoid Bones) تحت رأس المشط الأول، ورؤوس العظام المشطية الأربعة الباقية.

لماذا أقدامنا مقوَّسة؟

تعطي هذه الأقواس الثلاثة مجتمعة خاصية المرونة للقدم أثناء السير على الأسطح غير المنتظمة أو القفز، حيث تتميز بالقوة والمتانة الإنشائية التي تتحمل حركة ووزن الإنسان مدى الحياة، تمامًا كما الجسور المقوَّسة (القناطر) التي بناها الرومان القدامى وما زالت صامدة حتى يومنا هذا.

وهكذا تعطينا أقواس القدم مثالاً بيولوجيًّا على التأثير الطبيعي للقوس في تحمل الأوزان وتوفير الثبات للبنية الجسدية، تمامًا كما تعطي الجسور والقناطر مثالاً تاريخيًّا في تحمل الأوزان وتوفير الثبات للمنشأة الهندسية. والأقواس في المثالين -التاريخي والبيولوجي- تقاوم جميع قوى الضغط والأوزان في الحركة والسكون، وهذا ما يُفسر استمرارية استخدام هذا النوع من الجسور المقوَّسة أو القناطر حتى الآن، بل وتقام فوقها الطرق المعبَّدة المزدحمة، ولم تزل الشاحنات الثقيلة تمر عليها بعد مرور أكثر من ٢٠٠٠ عام من الإنشاء المعماري.

آليات دعم الجسور المقوَّسة

ترتكز آلية بناء أقواس القدم على ذات القواعد الهندسية لبناء القنطرة في تناسق مدهش، حيث يقوم المهندسون بتصميم الجسر الحجري المقوَّس، مستخدمين ذات القواعد الهندسية التي تضمن متانة القدم وتثبتها. إن العوامل الهندسية التي تجعل الجسر يقاوم جميع القوى والأوزان والعوامل الطبيعية، هي ذات العوامل التي تجعل القدم البشرية تتحمل وزن الجسم وتمنحها المرونة أثناء السير على الأسطح غير المنتظمة أو القفز، والثبات أثناء الوقوف، وهنا تتجلى صورة مؤثرة لتماهي صنعة المخلوق مع صنعة الخالق. ولشرح القواعد التي يقوم عليها بناء الجسور المقوَّسة أو أقواس القدم دعونا نتصور أننا مهندسون نعمل في مشروع تصميم الجسم البشري.

والآن لنحمِّل هذا القوس البسيط في أقدامنا مهمة كبيرة جدًّا هي توزيع وزن الجسم كاملاً، فكيف يمكننا المحافظة على شكل كل قوس من أقواس القدم تحت تأثير وزن الجسم بأكمله؟

أ- شكل الحجارة/شكل العظام: تكمن أكثر الطرق فعالية في دعم القوس، جعل الحجارة في شكل أسافين (أوتاد)، ثم ترتيبها إلى جوار بعضها بحيث تتجه الحافة الدقيقة للإسفين نحو الأسفل، ينطبق هذا بشكل خاص على الحجر الأساسي الذي يشغل مركز القوس والذي يسمى حجر العَقْد أو المُرتكز (Keystone)، وعلى هذا النحو بُنيت الجسور الرومانية القديمة، من خلال رصّ الحجارة المتقوسة (لبنة العقد) المتماثلة في الحجم والشكل إلى جوار بعضها البعض. وقد ارتبطت القنطرة تاريخيًّا بمادة الحجر، حتى أنها سُمِّيت أحيانًا بـ”الحجرية” بدل “القنطرة”.

خلق الله القدم البشرية بتصميم هندسي يجعل عظامها تتراص على هيئة أقواس طولية وعرضية، بحيث لا تلامس بطن القدم سطح الأرض عندما يقع وزن الجسم على القدم أثناء الوقوف، وعند فحص أثر انطباع قدم رطبة على الأرض لشخص في وضعية الوقوف، يمكن رؤية أن العقب والحافة الوحشية للقدم

وبالرجوع إلى التركيب التشريحي لأقواس القدم، نجد أن أوسط القدم (Mid foot) يتكون من خمسة عظيمات غير منتظمة الشكل، وهي النردي (Cuboid bone)، والزورقي (Navicular bone)، وثلاث عظام إسفينية (Bones cuneiform).

تشكل هذه العظيمات الخمس، أقواس القدم التي تعمل على امتصاص الصدمات. فقد قامت اليد الإلهية بنحت هذه العظيمات كما ينحت المعماري الأحجار، ويجعلها متداخلة فيما بينها، يكمِّل بعضها البعض من خلال ترتيبها وصفِّها على نحو يشبه إطارات الضبط، بحيث تكون مثبتة الواحدة تلو الأخرى على حامل القوس الذي يتوسطه حجر العَقْد أو المُرتكز أو حجر الأساس الذي يمثل مركز القوس، يحدث كل ذلك وفقًا لقواعد الهندسة المعمارية لبناء الجسور، تصطف تلك العظيمات الإسفينية الشكل الواحدة تلوى الأخرى، كما لو أن يدًا قامت برصها وترتيبها على حامل القوس المصمم على شكل نصف دائرة، يد مهندس الخلق العظيم التي قامت بإدخال كل واحدة منها بفائق الدقة والمهارة داخل المساحة العظمية لكل قوس.

بـ- ربط الحواف السفلية للحجارة مع بعضها: لا تتميز العظام التي شاركت في بناء أقواس القدم بفرادتها من حيث الشكل والترتيب فحسب، بل بهندستها أيضًا. فما يجلب الانتباه والإعجاب أكثر، الأسلوب البديع المتبع للربط بين هذه العظام الصغيرة المتنوعة في الشكل والترتيب (أربطة عديدة عبارة عن حزمة من النسيج الليفي تقوم بربط العظام ببعضها البعض). وهنا نعثر على وجه آخر من أوجه التشابه المعماري بين التركيب التشريحي لأقواس القدم وهندسة الجسور المقوسة، حيث يتم تصميم هذه الجسور بإجراء تداخل بين الحجارة، ثم ربط حوافها السفلية مع بعضها باستخدام رَزَّات أو مشابك معدنية (Metal staples) تعمل على توصيل هذه الحجارة جنبًا إلى جنب. وهذه الطريقة تقوي الجسر وتمنع ميل الحواف السفلية للحجارة من الانفصال، وتكبح انهيارها عندما يكون الجسر محملاً بالأثقال.

يقابل هذه الرَزَّات أو المشابك المعدنية في أقواس القدم، تلك اللفافات السميكة من الأربطة المرنة التي تكسو أطراف العظام المكوِّنة لهذه الأقواس. فالأربطة هنا، تقوم بوظيفة المشبك المعدني الذي يجعل القوس قادرًا على امتصاص الصدمات، وهكذا تعمل الأقواس كممتص للصدمات، وتشكل حماية للساق والعمود الفقري، خاصة أثناء السير فوق الأسطح غير المنتظمة وأثناء القفز.

جـ- استخدام عارضات الربط: إذا كان امتداد الجسر كبيرًا والدعامات على إحدى نهايتيه غير مستقرة، فإن وضع عارضة ربط (Tie beam) تصل بين نهايتيه، سيمنع بشكل فعال تباعد هاتين الدعامتين، وبالتالي يمنع انخفاض أو هبوط القوس. يُعرف هذا النوع من الجسور بـ”الجسور العارضية” (Beam bridge)، ويتألف من عارضة أفقية مدعومة بركائز شاقولية (مائلة) في نهايتيها.

وقد راعت الهندسة الإلهية حاجة القدم البشرية إلى تحمل الأحمال والأوزان والضغوط المتنوعة، فأضافت إلى التصميم الهندسي للقدم، عارضة ربط ممثلة في وتر العضلة المثنية الطويلة للإبهام الذي يقوم بعمل عارضة أفقية مدعومة بركائز شاقولية في نهايتيها.

د- استخدام نموذج الجسور المعلَّقة: كما يبدو من الاسم، هي جسور تعلق الطريق بكوابل أو سلاسل طويلة متصلة بأبراج كبيرة. مهمة تلك الأبراج هي تحمل الوزن بشكل كبير في صورة حمل شد يتركز على قضبان الجسر، ومن ثم تقوم تلك السلاسل بنقل حمل الشد عليها، إلى الأبراج التي تقوم بنقلها إلى سطح الأرض.

عندما يزداد الضغط على القدم بصورة كبيرة قد ينهار القوس بعد أن يتجاوز حد الاستطالة المسموح به، وأفضل طريقة للتعامل مع قوى الضغط هذه، هو نقلها أو توزيعها على القوس بأكمله، بحيث يتولد حمل موزع على كامل امتداد القوس وليس مركزه فقط، ولهذا تم تعليق أقواس القدم من الأعلى، وتقوم بهذه المهمة العضلتان الشظويتان الطويلة والقصيرة (Peroneous longus and brevis). وهكذا مع قليل من التأمل، يمكننا استنتاج مدى التطابق الهندسي المدهش بين الجسور المعمارية التي أقامتها أيدي المهندسيين المهرة، وأقواس القدم التي أقامتها يد الخالق العظيم لدعم وظائف القدم والحفاظ عليها.. يمكننا مشاهدة الهندسة المعمارية (فنون العمارة) وهي تتناغم مع هندسة الخلق الربانية، والاستماع إلى سيمفونية المعمار البشري وهي تتماهى مع سيمفونية الخليقة.. ببساطة، يمكننا تذوق الروعة والفخامة في صنع الله الذي أتقن كل شيء.