أعشق المطر ونسمات التراب المبلل بقطرات المطر، وهمسات البشر عند نزول المطر.. “الحمد لله” ويشدوني الحنين إلى اعتناق الدرر، والأكف ترفع في الهواء لتلامس حبات المطر.. كأني ألامس الملائكة وهي تنزل بقطرات المطر لتثبتها في الأرض.. أتفكر وأتدبر في روعة الموقف وعظمته، وأنساب وأتغلغل في ملكوت المولى وحكمته.. فتنزل الدمعات وتختلط مع قطرات المطر، وتثبت مع عشيقتها التي عشقتها، لتقول له إني أحبك يا ربي.. أحبك.. هل يا ترى تحبني؟ أعلم يا ربي أني أخطأت، غررت وسقطت، لكني يا ربي عدت واستشعرت الموقت وعجزت، عجزت عن كل شيء؛ عن طلب أشياء أتمناها، عن أشياء أهواها، عن أشياء بودي إياها.. شيء واحد استطعت قوله فقط، سامحني ربي سامحني.. سامحني.

نعم، أعشق الليل وأهواه، أعشق صمته، هدوءه، وفاءه، صدقه، وحدته المؤنسة بقرب ربي.. نعم، أهواه، لا أستشعر البرد ولا شكواه، ولا عتابه ولا سهامه، بل جماله وروعته الهادئة، وعبيره الرباني في ثلث الليل، نزل كسكينة كطمأنينة تغشاه، يقول: “هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له”.. تذوب روحي، ينفطر قلبي، يسيل دمعي، ويرتاح قلبي، وتهمس الشفاه، حقًا إني أهواه، حقًّا إني أهواه. آه منك يا أيامي ويا لياليّ، خاب رجائي في كل شيء، غير ربي ما خذلني أبدًا ما خذلني.. وحاشا أن أفكر بذلك حاشا، أو أن يقلّ رجائي، فأنت المولى فيك كل شيء لا يوصف ولا يعبر ولا يعد ولا يخطر حتى على البال.. وتهتف الروح من جذور أشجانها: “ربي أنا ذاهب ولو لم تشأ ما ذهبت، ربي أنا فاعل ولو لم تشأ ما فعلت، ربي أنا غالب ولو لم تشأ ما غلبت، ربي أنا مغلوب ولو لم تشأ ما غلبت.. ربي أنا حزين فالحمد لك حتى تفرج عني وبعد أن تفرج عني، حمدًا وشكرًا يليق بمقامك.. وتسقط الأمطار غزيرة، غزيرة غزيرة.. ربي كن إلى جنبي، إني فقدت الثقة في كل شيء حتى في نفسي، فكن حدي فإني أثق بك وبدون زيادة، ربي تعجبني كم حاجة وحاجة، تعجبني كم وردة ووردة، وتلدغني كم شوكة وشوكة، وينفطر قلبي كم مرة ومرة.

ربي أنت تعلم أني بفضلك لم أسقط ولم أتجاوز، فكن حدي واحفظني بما تحفظ به عبادك المصلحين، وتذوب الروح في الجسد، وتهتف بترانيم روح وأشجان قلب: “ربي أنت تعلم أني قد أحسن الاختيار تارة، وقد أسيء الاختيار تارة، فإني وكلتك كل أموري، وعليك توكلت، فاختر لي وإن أسأت التقدير الآن، ستجدني راضيًا شاكرًا حامدًا بعدها.

آه كم أعشق ذلك السلم المعراجي، وكم أطمح صعوده وتسلقه.. آه كم أعشق الوحدة بين ضفاف رحمتك ربي والمطر يبلل خدي.. آه كم أعشق.. يبدأ المطر يخفت شيئًا فشيئًا، وأبدأ التساؤل: يا ترى ماذا جرى؟ هل ملائكة الرحمان سترحل؟ أم أن الأرض قد امتلأت عن آخرها ولم تعد تستطع هشاشة قلبها أن تتحمل.. بلى، بلى، خذي قلبي إذن، وضعيه إلى جانب قلبك، فلم يعد يهمني، ودعيني فقط لبعض ساعات أو دقائق إذا أردتِ أن أتحسس حنان وعطف الملائكة في قطرات المطر. دعيني أشرب من نهر عشقهم الرباني، أستقبل وأتحسس رقتهم بين أناملي. أحب فعلاً أني أحب، لكن لا أحب إلا ذاك الحب الذي زرعه ربي في قلبي، فهو في دمي يسري، وإني لا أسرّ سري وأكتفي.. إني أعشق وحدة الليل مبللة بأمطار تهب بها رياح الشوق معبأة بنسائم التربة الفردوسية التي نزلت مع ملائكة الرحمة.

(*) كاتب وأديب مغربي