المطالع للمشهد العربي العام لابد وأن يدرك استقراءًا أن جهود الإصلاح في العالم العربي باتت في أزمة، تعاني انسدادًا في الأفق، وإحباطًا متكررًا في الجهود، مما جعل الحالة العامة لبلدان العالم العربي، تراوح مكانها إن لم تكن تتراجع إلى الخلف. ونحن نعني هنا، جهود الإصلاح المنطلقة من رؤى إسلامية ووطنية صرفة، والتي تقوم بها في الأغلب حركات أو مؤسسات أو أفراد متفرقين. فما هي أسباب تلك الحالة؟ وما هي سبل الخروج منها؟

أسباب أزمة الإصلاح

ما أطرحه من أسباب يمكن أن تعد في حد ذاتها، مظاهر وتجليات يمكن أن نجد أسبابًا لها بدورها، وتلكم طبيعة الظاهرة الاجتماعية التي يصعب تبسيطها وتسطيحها. وأسباب الأزمة من وجهة نظري تتمثل فيما يلي:
أ- وقوع حركات وجهود الإصلاح أسيرة لرد الفعل: فحركات الإصلاح في العالم العربي، هي أشبه بمُلاكم أوقعه خصمه في زاوية من الحلبة وأفاض له في اللكمات، فما كان من ذلك المُلاكم المحصور إلا أن رد بلكمة هنا ولكمة هناك، لكنه لم يستطع أبدًا أن يُخرج نفسه من وضعية المحصور في الركن، المحكوم عليه بالرد دائمًا لا المبادرة بالفعل. والمبادرة والمبادأة تأتي من قدرتها على فرض استراتيجيتها على الخصم وليس العكس.
بـ- وقوع تلك الحركات والجهود أسيرة للتفكير المثالي، سواء في ذلك استراتيجيات الإصلاح التي تتبناها، أو فقه الواقع الذي تبني عليه تلك الاستراتيجيات، والذي لا يقدّر بشكل صحيح مقدار القوة الذاتية إزاء القوى الداخلية والخارجية المناوئة لذلك المشروع الإصلاحي، ولا يتخذ التدابير اللازمة التي يقتضيها ذلك الفقه الواقعي، مما ينتج عنه الاندفاع في مشروعاتهم الإصلاحية مصطدمين بالواقع المناوئ، معتبرين أن المعوّقات التي يتعرض لها المشروع هي أمر طبيعي، وأن المعاناة التي يعيشها أفرادها هي “ضريبة الإصلاح”، وكأن وضع الاستراتيجيات الملائمة لنجاح عمليات الإصلاح، وصولا إلى الرسالة الأساسية للإصلاح، واتخاذ التدابير لتجنب الدخول في معارك جانبية تستنـزف القوى قبل الأوان، أمرًا غير مرغوب فيه، أي كأن هناك عشقًا “للمازوخية”، أي تعذيب الذات، لا بل وعشقًا “للسادية” وهي عشق تعذيب الشعوب، والتي تذبح القوى المفسدة والمستبدة آمالَها وأحلامها في النهضة والاستقلال الحقيقي، بدعوى تعرض مراكزها للخطر الدائم والداهم من حركات الإصلاح تلك.

جـ- وقوع تلك الحركات والجهود أسيرة لتقديس الوسائل التي تتبناها، وإن كانت تلك الحركات، لا تقول بالقدسية صراحة، بل إن أدبياتها ربما تنفي تلك القداسة، إلا أن الممارسة العملية، ورد الفعل العنيف على أي انتقاد يطال هذه الوسائل -ولو بدافع النصح- يقول عكس ذلك، مع أن الأصل أن الغايات هي الثوابت، وأن الوسائل يمكن أن تكون من المتغيرات بتغير المكان والزمان والأحوال، ما لم تعارض نصًا ولا مصلحة عامة، وأن مَن ابتدعوا تلك الوسائل حين ابتدعوها، كانوا مجتهدين وفق رؤيتهم لمتطلبات الواقع وإصلاحه. فلابد إذن حينما تتغير الأحوال وتتبدل، أن ننظر في وسائلنا نظر المجتهد.
د- تبعثر جهود الإصلاح خارج الكتل الأساسية: فالمنطقة تشهد حالة من الحراك والمبادرات -الشبابية بالأساس- في جميع مجالات الحياة، خاصة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهي مبادرات وحالة حراك، تأتي في الأغلب من خارج الكتل الإصلاحية أو من الراشحين أو المتساقطين منها. وهي المبادرات والحالة الحراكية التي ينبغي إذا كان لنا فقه لما نعيشه، أن نعظم منها حتى تصير أنهارًا تحمل مياهها سفن الإصلاح إلى المصب، فهذه هي الاستراتيجية، وهذا هو الأمل. لكن المرء يتساءل؛ أنى لنقاط الماء المبعثرة والتائهة -أحيانًا- تلك، أن تصب -في نهاية الأمر- في النهر العام للإصلاح والتنمية والنهضة، كي يروي ظمأ حياتنا العطشى التي جفت فيها الحلوق من لظى الإفساد والاستبداد الذي نعيشه.

خارطة طريق للخروج

وحتى لا يظل حديثنا لعنا للظلام، نقدًا أو جلدًا للذات الإصلاحية، دون أن نوقد شمعة في الطريق، نقول بأنه يجب على الساعين للإصلاح أن:
أ- يدرسوا الواقع بتحدياته دراسة القوي الأمين، دراسة لا تبالغ في قوة الذات حتى تصاب بالزهو، ولا تتغافل عن تحديات الواقع وقواه المناوئة للإصلاح داخليًا وخارجيًا، حتى لا تصاب الذات بالاستهتار بالعدو الجاثم أو المتربص؛ ودراسة لا تبالغ في تقدير تلك القوى المناوئة بما يصيب الناس باليأس والإحباط.
بـ- يدرسوا تجارب الإصلاح الجزئي منها والكلي، والعالم مليء بها.. وتجارب ذلك الإصلاح (الإسلامي) ماثلة حولنا بأشكالها الثورية (الإيرانية) والانقلابية (السودانية) والديمقراطية (التركية)، والمقاومة (اللبنانية والفلسطينية)، بما يسمح باستخلاص الدروس المستفادة من حسن قراءة الواقع. هذا على المستوى السياسي، أما على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتنموية، فإن بطون المجتمعات في بلادنا وفي العالم شرقه وغربه وشماله وجنوبه، ملآنة بالدرر من الحكمة التي يمكن لمن أراد أن يتلمسها.
جـ- يضعوا استراتيجيات جديدة للعمل، يراعى فيها فقه الواقع بتحدياته وعطاءاته، استراتيجيات لا تجعل منا ذبائح كلما قامت على قوائمها “عرقبها” الجزارون بسكين باردة؛ استراتيجيات تهدف إلى تعظيم النهر واتساعه وعمقه خارج سفن الإصلاح.
د- ينشروا الوعي ويلملموا المبعثر من حبات الماء المتناثرة من الفعاليات والمبادرات الإصلاحية المبعثرة، حتى تصنع نهيرات صغيرة لا يُحدث صوتها جلبة ولا ضجيجًا، حتى تجد طريقها إلى نهر التنمية والنهضة والاستقلال الحقيقي لأمتنا.
هـ- يدركوا أن لحياتنا آلاف الجنبات، التي تحتاج لأن تتوزع الجهود عليها بقدر، فلا تترك جنبًا ولا تزر ثغرة تهدم ما يحاولون بناءه على مدار السنين والعقود القادمة، ولكن لتلك الجنبات سلمًا للأولويات وأحجامًا متفاوتة يجب أن تراعى.
و- يتعلموا فقه الأولويات والموازنات، والمصالح والمفاسد والمقاصد وتنزيل ذلك الفقه مزجًا مع فقه الواقع، ليصنعا معًا تدبيرًا وتدبرًا قبل وضع الأقدام في مواضع تعيد المسيرة إلى أولها، ولا تصل بنا إلى غايات الأمة مطلقًا وإن طالت السنين فالمتربصون كثر وحيلهم لا تنفد.
ز- يتلمسوا طريق العمل تدرجًا وصبرًا، فلم تُخلق الدنيا في ساعة، ولن تتغير في ساعة، فالزمن جزء من العلاج كما يقولون.