أرجوكم أوقفوا هذا الانتحار

وأنا جالسة في مكتب الفحص أعاين مرضاي، وأغلبهم من كبار السن أبدأ في طرح الأسئلة الرتيبة كالعادة ومن بينها كم عمرك؟  وإذا أحببت أن ألاطفه، فأخبره أنه ما يزال شابًا يافعًا، لكن ردة فعل مرضاي كانت متشابهة إلى حد بعيد، ما إن تتجاوز المرأة الخمسين أو الستين والرجل الستين أو السبعين، حتى يبتسم ابتسامة يائسة فيقول: لقد هرمنا يا ابنتي، كبُر الأطفال، تزوجوا وأنجبوا الأحفاد يكفي ما وصلنا إليه في إشارة إلى أن مهمته انتهت وهو يعيش وهدفه في الحياة انتظار الموت، كانت تلك الكلمات التي تقطع الحبل الذي يربطهم بالأمل خناجر يغرزها دون قصد مرضاي في قلبي، كنت أبتسم وأجيب: لا تتكلم عن الهرم يا عم ما لم تبلغ المائة عام.

الشباب ليس فترة من العمر، الشباب طبع نتطبع به، الشباب قلب لا يتوقف نبضه ما دامت تسقيه دماء الهمة العالية.

لماذا نحصر أنفسنا في غرفة ضيقة، لماذا نختار من الأحلام أدناها، لماذا نضع سقفًا يحول بيننا وبين النجوم؟

تطور الطب نعم، معدل الأعمار ارتفع بكل تأكيد!، لكن هل ارتفع معهما شيء آخر، سنوات تضاف إلى الأعمار، لكنها سنوات بدون طَعم، سنوات تجر الخيبة والاحساس بلاجدوى، وغياب هدف يدفعنا لنواصل المسير.

هكذا الحال عندما تكون نظرتنا للحياة ضيقة، عندما تنحصر الأهداف في الذات لا تتجاوزها إلى الآخر، عندما يكون همنا أن نتزوج وننجب ونؤمن مستقبل الأولاد، وعندما يكبرون تنتهي المهمة ليتغمدنا إحساس يائس بأن تاريخ الصلاحية قد نفذ ولم تعد منفعة تستجدى من وجودنا على ظهر هذا الكوكب.

ابن تاشفين يقود معركة الزلاقة، وعمره ثمانون عاما، ليضع فصلاً لا يمحى في تاريخ الأندلس، أبو أيوب الأنصاري يغزو مع المسلمين القسطنطينية وقد بلغ الثمانين، ليحفر اسمه في صخور تاريخ القسطنطينية، وفي التاريخ من القصص ما يروي كل الظمآن ويهدي الحيران، ولا تقولوا هذه أساطير الأولين.لا أريد لأحد أن ينتهي به الحال هكذا، حاكمًا على نفسه بالفناء وهو لا يزال على قيد الحياة، اصنعوا لأنفسكم أحلاما عظيمة لا تكفيها الستون سنة ولا السبعون ولا حتى المائة، الأحلام الصغيرة لم تخلق لكم، يا أصحاب العقول، خلقتم خلفاء لله على أرضه، لا تنتهي مهمتكم حتى تُوَارَوْا التراب، من أخبركم أن عليكم عندما تضعف أبصاركم، ويتأذى سمعكم، ويرتفع الضغط، ويقل النبض، أن تلزموا المنازل لا تغادرونها إلا للصلاة!؟ لم يأت هذا في سير الأولين، لم أقرأ قط عن صالح لزم البيت ويئس من الحياة! فمن أين لكم هذه البدعة؟

مادام القلب ينبض فلا مناص من مواصلة الحياة، لا مناص من العمل لا مناص من خدمة الآخرين.

من أخبرك أن الشيخوخة لا دواء لها؟ تريد وصفة لمقاومتها، إنها الأحلام العظيمة يا عزيزي، الشباب كما يقولون شباب الروح لا الجسد، الشباب ليس فترة من العمر، الشباب طبع نتطبع به، الشباب قلب لا يتوقف نبضه ما دامت تسقيه دماء الهمة العالية، اهمسوا في آذان الأجداد والجدات، الآباء والأمهات لم يحن الوقت بعد، لازال مقامكم في هذه الحياة راسخًا، أنتم الخبرة، أنتم التجربة، أنتم الحكمة فلماذا البخل؟

مادام القلب ينبض فلا مناص من مواصلة الحياة، لا مناص من العمل لا مناص من خدمة الآخرين، أخبروا من تنفسوا هواء ستين ربيعًا أن لايزال الخريف بعيدًا جدًا، لازال أمامكم العمر المديد، ارسموا أحلامًا أجمل، ارسموا طريقًا جديدًا تسيرون فيه، الجسر الذي بينكم وبين الآخرة لا زال قائمًا، الرحلة لم تنتهي بعد…

الأعمار علم غيبي محض، أوقفوا سير الأموات على الأرض يبحثون عن قبورهم؟ أخبروهم أنهم لايزالون أحياء؟ أخبروهم أن الشيخوخة كذبة فلا تصدقوها؟ مادامت قلوبكم تنبض فلا تحكموا على أنفسكم بالفناء! أرجوكم أتوسل إليكم أوقفوا هذا الانتحار.