أدبيات الحوار والتواصل من منظور قرآني

أصبح الحوار والتواصل في الآونة الأخيرة ضرورة إنسانية ملحة، تقتضيها الظروف الراهنة التي تعيشها المجتمعات الإنسانية في عصر الإعلام الجديد، الذي تطورت وسائله بشكل مبهر وملفت للانتباه، والذي جعل العالم قرية واحدة وربما بيتًا واحدًا يقتضي التعايش فيه باختلاف توجهاته ومشاربه. وقد تطورت البحوث المعرفية في هذا المجال بطريقة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، حتى أصبحت أزمة الإنسانية اليوم هي أزمة حوار وتواصل بين الشعوب والأمم.

فالحاجة إلى الحوار والتواصل حاجة مستمرة، وضرورة حضارية لكل المجتمعات. ولو تأملنا مضامين الفكر الإسلامي لوجدنا في المرجعية الإسلامية ما ينبه ويؤكد على هذا النهج؛ فالقرآن الكريم يتحدث عن الحوار كضرورة دينية وفكرية قبل أن تكون ضرورة اجتماعية. فأول حوار كان قبل أن يخلق الإنسان، هو الحوار الذي جرى بين الخالق عزوجل والملائكة حول خلق الإنسان في قوله تعالى:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(البقرة:30-32).

فهذا الحوار بين الخالق عزوجل وبين الملائكة، يدل على مشروعيته وأهميته في تصحيح المفاهيم المغلوطة، حيث أراد الله تعالى أن يعلم الملائكة الحكمة من خلق الإنسان، باعتباره خليفة في الأرض بما امتاز به من العقل والإرادة وحرية الحركة، وإمكانات الإبداع في عمارة الأرض والإنتاج فيها.. ويكون الإنسان في الأرض مثل الملائكة في السماء مسؤول عن أعماله، والملائكة مجبولون على الطاعة، فهذه الحكمة هيأت الملائكة للسجود له سجود احترام وتكريم، وليس سجود عبادة.

فالقرآن الكريم يدعونا إلى الحوار من أجل تصحيح المفاهيم، ويبين لنا الآليات والمقاصد التي يحققها الحوار، لأن الحوار عندما ينحرف عن المقاصد والأهداف المسطرة له، يصبح جدالاً عقيمًا وهو ما نشهده في واقعنا اليوم في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة أو عبر وسائل الإعلام الجديدة، حيث أسهمت في تغييب الحوار عن ثقافة المجتمع.

وعليه، فنحن اليوم بحاجة ماسة لتفعيل التربية الحوارية، ابتداء بمؤسسة التربية الأولى (الأسرة)، وانتهاء بمؤسسات الدولة، إذ لن تسود فينا ثقافة الحوار، إلا بتربية مستمرة وشاملة على الحوار يتلقاها جميع أفراد المجتمع.

مفهوم الحوار والتواصل

الحوار هو الحديث بين شخصين أو أكثر عن طريق السؤال والجواب، من أجل تصحيح مفهوم وإظهار الحق. وقد ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)(الكهف:37). وتوجد نماذج كثيرة من الحوار في القرآن الكريم، ولا تخلو قصة من قصص القرآن الكريم من الحوار الذي يجري بين الأنبياء وأقوامهم، وكذلك في السنة النبوية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الحاجة إلى الحوار والتواصل حاجة مستمرة، وضرورة حضارية لكل المجتمعات. ولو تأملنا مضامين الفكر الإسلامي لوجدنا في المرجعية الإسلامية ما ينبه ويؤكد على هذا النهج.

والتواصل هو تبادل المنافع والرسائل بين طرفين أو أكثر قصد التعارف. وتلك هي الحكمة من خلق البشر لقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ(الحجرات:13).

منهج القرآن في الدعوة إلى الحوار والتواصل

اعتبر القرآن الكريم الحوار والتواصل مع الآخر من أهم الوسائل إلى الدعوة إلى الله تعالى، من أجل تعريف الآخر بدين الإسلام الذي اختاره الله  لعباده بقوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ)(آل عمران:19). وقد دعا القرآن أصحاب الديانات الأخرى إلى الحوار، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا)(آل عمران:64)، فقد بين القرآن الكريم المنهج الصحيح في دعوته إلى الحوار والتواصل مع الآخر، بحيث تكون له أسس وثوابت نذكر منها:

1- الإيمان بالله والتعامل في ظل هذا الإيمان بالمثل كما ذكرت الآية السابقة.

2- التحلي بالأخلاق الحميدة التي جاء بها الإسلام ونبذ العصبية وأسباب التعصب للرأي مع التمسك باللين والحكمة في الخطاب: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(فصلت:34).

3- جعل الحق والإنصاف والعدل هو أساس وهدف كل خطاب بين المسلم والمسلم، وبين المسلم وغير المسلم.

4- إبقاء الصراع إلى المرحلة الأخيرة من الحوار وعدم اللجوء إليه إلا عند الضرورة.

5- مراعاة شخصية الطرف الآخر في الحوار في محاولة إلى تجنب التعصب والانفعال، سواء كانت فكرة الطرف الآخر وموقفه مؤيدة أو معارضة.

6- الإحاطة بموضوع الحوار والإلمام بالموضوع واستيعاب الفكرة التي يدور حولها الحوار.

7- اختيار لغة وأسلوب الحوار، لقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(فصلت:33-35).

وبمعرفة هذا المنهج الذي سطره القرآن، ندرك الهدف من الحوار الذي يتمركز حول توحيد الله عزوجل، وتعميم مبادئ العدل والإنصاف والاحترام المتبادل، وتجنب أسباب التعصب والخلاف، والغرض من هذا المنهج القرآني هو الوصول إلى الحق، وليس مجرد الجدل لذاته كما تضمنته النظرية الأفلاطونية في الجدل، التي تقوم على اعتبار الجدل هدفًا في ذاته. فالقرآن الكريم يذم الجدل العقيم وينهى عنه، ويدعو إلى الحوار الذي هو سلوك عام ومنهج جماعي، وطريقة حضارية في التعامل مع المواقف والأحداث.

دور الأسرة والمدرسة في التربية الحوارية

وتعد الأسرة هي المؤسسة الأولى للتربية الحوارية، والتي تحتاج بداية إلى إعادة النظر في بعض مفاهيمها، ومراجعة بعض أساليبها التربوية القامعة للحوار، وتعزيز الحوار داخل مختلف الأطر الأسرية، سواء بين الزوج والزوجة، أو بين الأب والأبناء، أو بين الإخوة والأخوات، إذ الغالب هو غياب الحوار داخل الأسرة، وحرمان الأفراد منه. ويزداد الأمر استبدادًا وتغيبًا للحوار، إذا اتصل الأمر بالأنثى؛ فكثيرًا ما تُحرم الأنثى من إبداء رأيها إلا في حالات نادرة جدًّا، وقد تتعرض للصد والإنكار والاعتراض إذا ما أبدت رأيها أو أظهرت موقفها. فالتربية الحوارية تبدأ من داخل البيت، وهنا لا بد من التفريق بين الطاعة وحُسن الأدب والامتثال، وحق الحوار وإبداء الرأي، والتعبير عن القناعة والموقف بحرية تامة.

وكذلك المؤسسات التعليمية بحاجة لتفعيل التربية الحوارية، ذلك أنها تعاني من خلل تربوي وفكري كبير، إذ يغيب الحوار عنها كثيرًا، وتغلب عليها الأساليب الإجبارية القهرية للطالب، وإلزامه بما يحتوي عليه المنهج وما يقرره المدرس، ولا يسمح له بالنقاش والحوار إلا في حدود ضيقة ونادرة، والمطلوب اليوم في سبيل تنمية ثقافة الحوار، أن يصبح الحوار منهجًا وأسلوبًا رئيسًا وثابتًا في التربية والتعليم، لا سيما في المجالات الإنسانية، من حيث إتاحة الفرص الكافية للطالب أن يحاور ويناقش ويبدي وجهة نظره، ويسهم في صياغة المعلومة وتشكيل الفكرة، خصوصًا في التعليم الجامعي والدراسات العليا والبحث العلمي. والأمر كذلك مطلوب في الجماعات والجمعيات الدعوية، والأحزاب والتنظيمات السياسية، أن تجعل من الحوار منهجًا تربويًّا لها، وأسلوبًا عمليًّا، وخلقًا أساسيًّا من أخلاقها، وأن لا تضيق أبدًا بصاحب الرأي وتعمل على رفضه قبل الحوار معه، بل عليها أن تعتمد التربية الحوارية، وتوسع دائرة الحوار وترسي دعائمه في التعامل مع مختلف الأطر. والسبب فيما تعاني الأمة اليوم، هو غياب الحوار البنّاء الذي يجمع الصفوف ويضم الآراء لبعضها البعض فتشكل لنا رؤية موحدة.

آليات الحوار وأدبياته

يبدأ الحوار من الذات إذا كان الإنسان مستعدًّا للنقد الذاتي، لأن الله تعالى يقول:(إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11)، فيجب علينا مراجعة أنفسنا لتعويد النفس على قبول الرأي الآخر بحجته، لأن الهروب من التفاعل الإيجابي النقدي للذات، يؤدي إلى انسداد الحوار وعدم التفاعل معه بإيجابية، بمعنى يجب أن نتقبل نقد التراث بصورة موضوعية وعقلانية بعيدًا عن المساس بالثوابت. فالحوار في الأصل هو من أجل فهم الذات أولاً، ثم فهم الآخر والتفاعل معه وليس من أجل الصراع، إنه حوار يستند إلى آليات وأدبيات نذكر منها:

تعد الأسرة هي المؤسسة الأولى للتربية الحوارية، والتي تحتاج بداية إلى إعادة النظر في بعض مفاهيمها، ومراجعة بعض أساليبها التربوية القامعة للحوار، وتعزيز الحوار داخل مختلف الأطر الأسرية، سواء بين الزوج والزوجة، أو بين الأب والأبناء، أو بين الإخوة والأخوات

1- الإنصاف والموضوعية: يجب أن يعوِّد الإنسان نفسه على الإنصاف، يعطي للآخر حقه إذا كانت حجته هي الغالبة، وأن يعترف بخطئه ويكون موضوعيًّا في نقل الأفكار والأخبار، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)(النساء:135).

2- البعد عن التناقض وسلامة الكلام: ينبغي على المحاور أن يستقيم في آرائه وأفكاره وكلامه، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) (النحل:91).

3- تحديد المنطلقات والأهداف: وذلك قبل الشروع في الحوار، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا)(آل عمران:64).

4- البعد عن التعصب: مهما كان نوعه، سواء التعصب للقبيلة أو للمنهج أو غيره: قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)(الأنعام:152).

5- الرضا والقبول بالنتائج وعدم القطع بها: قال الشافعي: “ما ناظرت أحدًا فقَبِل مني الحجة إلا عظم في عيني، ولا ردها إلا سقط من عيني”. وفي الوقت نفسه لا نقطع بالنتائج باعتبارها نسبية، قال تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)(سبأ:24).

6- الالتزام بآداب الحوار: كالقول الحسن والالتزام بالوقت المحدد، وحسن الاستماع والاحترام والإخلاص.

وآليات الحوار والتواصل في عصرنا قد تعددت وتنوعت، فمنها التواصل بالكلمات المنطوقة المباشرة كالحوار الذي يجري بين اثنين أو أكثر، أو الحوار عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر والبريد الإلكتروني وغيرها من الوسائل المستحدثة.

وهكذا عبر هذه الوسائل يمكن أن نرسخ ثقافة الحوار والتواصل مع الآخر، من أجل نشر ونقل القيم الإسلامية والتعريف بالدين الإسلامي وتبادل الأفكار، ومن هنا يتحتم علينا تفعيل الحوار وتشجيعه ليصبح سمة عامة في المجتمع.

(*) باحث في الدراسات الإسلامية والإعجاز / الجزائر.