أثر الوقف في التكافل الاجتماعي

للأوقاف أثر كبير في شتى مجالات الحياة، وأثر كبير -كذلك- في تنمية المشاعر والأحاسيس الإنسانية. ومن آثار الأوقاف، ذلك الأثر الجليل الذي شمل طبقات المجتمع المسلم كلها، ألا وهو الأثر الاجتماعي الذي ظهرت صوره الكثيرة في تنوع الأشياء الموقوفة وتنوع أغراض واقفيها. وفيما يأتي، ما وقفت عليه من تلك الصور التي تدل على مجتمع متماسك يحب أفرادُه الخير لغيرهم، ويحتسبون ما يقفونه عند الله سبحانه، وتدل في الوقت نفسه على إحساس رهيف وتقدير للمسؤولية الملقاة على عاتقهم تجاه غير المستطيع من المجتمع المسلم.

الوقف على رعاية الأيتام واللقطاء وكفالتهم

رتب “الظاهر بيبرس” (ت 676هـ) لأيتام الأجناد ما يقوم بهم رغم كثرتهم. وأنشأ “مظفر الدين كوكبوري” (ت 630هـ) ملجأ للأطفال الأيتام -بنين وبنات- الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم، ومَن لا عائل لهم، فحفظهم بذلك من خطر التشرد ومفاسده، وزود الملجأ بكل ما يحتاجون إليه من مقومات الحياة، كما عين فيه المشرفات على تربيتهم، وكان يزورهم بين الحين والحين، ويزوجهم حين يبلغون سن الزواج. وبنى للقطاء ملجأ زوده بالمرضعات، فكان كل لقيط يعثر عليه يُحمل إلى هذا الملجأ، فيسلَّم إلى إحدى المرضعات لتقوم على إرضاعه وتربيته… وبهذا العمل الإنساني الجليل حفظ “مظفر الدين” أرواحًا كان مصيرها الهلاك والموت.

الوقف على أهل الحرمين الشريفين

وتمدنا المصادر التاريخية بنماذج كثيرة من مثل هذا الوقف النبيل؛ فقد وقف “نور الدين محمود” (ت 569هـ) وقوفًا كثيرة على سكان الحرمين الشريفين، بل إنه كان يقطع أمراء العرب الإقطاعات حتى يكفوا عن التعرض للحجيج، ووقف وقفًا على المجاورين بالحرمين.

وكان “مظفر الدين كوكبوري” يقيم في كل سنة سبيلاً للحاج، ويسير معه جميع ما تدعو حاجة المسافر إليه في الطريق، ويسير صحبته أمينًا معه خمسة أو ستة آلاف دينار ينفقها بالحرمين على المحاويج وأرباب الرواتب، وله بـ”مكة” -حرسها الله تعالى- آثار جميلة بعضها باقٍ إلى الآن. وهو أول من أجرى الماء إلى “جبل عرفات” ليلة الوقوف، وغرم عليه جملة كثيرة، وعمر بالجبل مصانع للماء، حيث كان الحجاج يتضررون من عدم الماء.

وقف الدور والخانات على أبناء السبيل والفقراء

وذلك تخفيفًا عليهم من مشقة الطريق ووعثاء السفر، يقيمون فيها ما شاؤوا أن يقيموا، مع إسباغ النفقات وإجراء الأرزاق عليهم من غذاء وكساء وصلات ما داموا مقيمين بها.

وقد انتشرت دور الضيافات والخانات في أرجاء الدولة الإسلامية، ومن هذه الخانات ذلك الخان الذي عمره “الظاهر بيبرس” بـ”القدس”، ووقف عليه أوقافًا للنازلين به من إصلاح نِعالهم وأكلهم وغير ذلك، وبنى به طاحونًا وفرنًا.

الوقف على تزويج الأيتام والفقراء والجواري

وهذه الأوقاف (أوقاف التزويج) كانت -كغيرها- منتشرة في أرجاء الدولة الإسلامية. وقد ذكرها “ابن بطوطة” (ت 779هـ) في رحلته حين نزل “دمشق” فقال: “والأوقاف بـ”دمشق” لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها، فمنها أوقاف للعاجزين عن الحج يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن”.

وكان الخليفة العباسي “المستنصر بالله” (ت 640هـ) يتقصد الجواري اللاتي قد بلغن الأربعين، فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن.

وقد يتقدم الفتى أو الفتاة إلى قيم الوقف، يطلبان المعونة لزواجهن فيعطيهما ما هما بحاجة إليه.

الوقف على إصلاح ذات البين

وهذا الوقف من فرائد الأوقاف النادرة. فقد ذكر أنه كانت بمدينة “مراكش” دار تسمى “دار الدقة”، وهي ملجأ تذهب إليه النساء اللائي يقع نفور بينهن وبين أزواجهن، فلهن أن يقمن به آكلات شاربات إلى أن يزول ما بينهن وبين أزواجهن من نفور.

وظاهر أن هذه الدار موقوفة على النساء الغريبات أو اللائي لا أهالي لهن، وذلك خشية أن يستغل زوج المرأة منهن هذه الناحية في زوجته فيظلمها، أو يسيء معاملتها وهو يعلم أن لا ملجأ لها ولا أهل يأخذون بناصرها.

وقَف الواقفُ المحسنُ هذه الدار لأولئك النسوة، ووظف لها نساء يقمن فيها على رعاية النسوة الغاضبات، إلى أن تنصلح الحال وتعود ربة البيت إلى بيتها وزوجها. فما الذي يدل عليه هذا الوقف اللطيف غير “التفنن” في رعاية المحرومين والتماس شوارد السعادة لكل الناس، فحتى الزوجة الغاضبة من زوجها وجدت لها في أوقاف المسلمين ناصرًا.

فأين المرأة الغربية اليوم؟! أهي أسعد حالاً وأوفر حرية من المرأة المسلمة في جو الإسلام القديم والحديث؟ ألا تدل “دار الدقة المراكشية” هذه على نصرة المجتمع المسلم للمرأة حتى آخر المدى.

الوقف على الأرامل الفقيرات وإقامة دور لهن

وكان للولاة اليدُ العليا في هذا الوقف، حيث كان “بدر بن حسنويه” (ت 405هـ) يصرف كل أسبوع عشرين ألف درهم على الفقراء والأرامل.

وبنى “مظفر الدين كوكبوري” دارًا للأرامل الفقيرات، اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن، وليس لهن من يعولهن من أقارب، حيث أعد الدار بكل ما يحتجن إليه من مأكل ومشرب وملبس. وكان يتعهدهن بنفسه، فيزورهن ويسألهن عما يحتجن إليه، فكان يأمر بتلبية ما ينقصهن واستكماله.

الوقف على تكفين الموتى

كان “بدر بن حسنويه” ينفق كل شهر عشرين ألف درهم في تكفين الموتى. وكفن الملك العادل “أبو بكر بن أيوب” (ت 615هـ) مائة ألف إنسان من الغرباء والفقراء، وذلك في السنة التالية لسنة الغلاء بـ”مصر”. ووقف الملك “الظاهر بيبرس” وقفًا على تكفين أموات الغرباء بـ”القاهرة” و”مصر”. ولما كان الطاعون بـ”بلاد الشام” سنة (749هـ)، كثرت الموتى، وزاد ضمان الموتى جدًّا، فتضرر الناس ولا سيما الصعاليك، فإنه يؤخذ على الميت شيء كثير جدًّا، فرسم نائب السلطنة بإبطال ضمان النعوش والمغسلين والحمالين، ووقف نعوشًا كثيرة في أرجاء البلد.

الوقف على عتق الرقاب

وهذا الوقف من الأهداف الاجتماعية الجليلة للأوقاف؛ إذ لا يخفى أثره على المجتمع كله. ولقد أعتق كثيرون رقيقهم في ظل الإسلام، وقد وقفت أموال كثيرة لأجل ذلك. ومن عجائب هذا الأمر أن “روح بن زنباع” (ت 84هـ) كان كلما خرج من الحمام يعتق نسمة. والرسول صلى الله عليه وسلم كانت آخر وصاته الوصاة بالإماء والعبيد.

روى ابن ماجة بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: “الصلاة وما ملكت أيمانكم”. فما أوفى العبيد والإماء حظًّا حين تكون الوصاة بهم آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

وقف الأسبلة

من المنشآت الاجتماعية التي ازدهرت بازدهار الأوقاف إلى حد كبير الأسبلة، وكان الغرض من السبيل تيسير الحصول على ماء الشرب. وقد عني السلاطين بإنشاء أسبلة للناس والحيوانات في مختلف المواضع. “وجرت العادة بأن يلحق السبيل بالمسجد، وأن يكون فوقه في الغالب مكتب لتعليم الأيتام. وفي العصور الماضية كان الحصول على المياه العذبة من المهام الشاقة، لذلك أصبح تسبيل الماء العذب وتسهيل الحصول عليه من وجوه البر التي يعني بها الواقفون، ويقفون على استمرار أداء خدماتها العقارات المختلفة. ومن أجل ذلك أيضًا أنشأ الواقفون الصهاريج لملئها بالماء المنقول. فتنص وثيقة وقف “الأمير صرغتمش” على أن يصرف الناظر من ريع الوقف المذكور فيه في كلفة نقل ماء عذب من النيل المبارك في كل يوم إلى المزملة المذكورة، برسم شرب المقيمين بالمدرسة المذكورة والواردين إليها، من ثمن جِمال ينقلون عليها الماء وأجرة عمالين عليها.

وقد قام بتسبيل الماء في السبيل المزملاتي الذي يؤدي عمله في الأوقات المحددة في الأيام العادية وفي شهر رمضان، وكانت بعض الأسبلة لا تفتح إلا بين صلاة الظهر والعصر في وقت الحر الشديد. وتمتعت هذه الأسبلة بأوقاف للإنفاق عليها منها، وكثيرًا ما اشترط الواقفون في المزملاتي شروطًا جسمية وخلقية خاصة، كأن يكون سالمًا من العاهات والأمراض وبخاصة الجذام، كما اشترطوا أن يسهل على الناس ويعاملهم بالحسنى والرفق، ليكون أبلغ في إدخال الراحة على الواردين صدقة دائمة وحسنة مستمرة.

الوقف على إخراج من حبسه القاضي من المقلين

من وجوه البر والقربات التي تنافس فيها الواقفون، تخليص السجناء الفقراء من الحبس. فقد نصت وثيقة “وقف السلطان حسن” (ت 762هـ) على هذا الهدف النبيل، حتى يرجع المسجونون إلى أهلهم ويتفرغوا لإعالتهم، وقد سمت الوثيقة هذا الوقف بـ”خلاص المسجونين”.

الوقف على إفطار الصائمين الفقراء وسحورهم

كان الملك “الظاهر بيبرس” يرتب في أول رمضان بـ”مصر” و”القاهرة” مطابخ لأنواع الأطعمة، تفرق على الفقراء والمساكين. ولما ملك “الأشرف” (ت 635هـ) “دمشق”، كانت القلعة لا تغلق في ليالي شهر رمضان كلها، وصحون الحلاوات خارجة منها إلى الجامع والخوانق والربط والصالحية، وإلى الصالحين والفقراء والرؤساء وغيرهم.

الوقف على الحج عن الغير

من أمثلة هذا الوقف أن “بدر بن حسنويه” كان يصرف في كل سنة ألف دينار لعشرين نفس، يحجون عن والدته وعن عضد الدولة، لأنه كان السبب في تمليكه.

الوقف على حراسة الأماكن المخوفة

وهذا من فرائد الأوقاف. فقد رتب “نور الدين محمود” الخفراء في الأماكن المخوفة حرصًا وخوفًا على رعيته، وتأمينًا لهم على أنفسهم ومتاعهم، بل وزيادة في حرصه على رعيته وسلامتها، جعل في تلك الأماكن المخوفة الحمام الهوادي التي تطلعه على الأخبار في أسرع مدة حتى يكون في موقع الأحداث -إذا حدث شيء- بعد وقوعها مباشرة، بل إنه ربما أتى -أو أتى بعض رجالاته- في أثنائها.

وهكذا سمَتْ مشاعر القوم وأحاسيسهم ومسؤولياتهم، فما أحلى أن نربي مشاعرنا وأحاسيسنا ومسؤولياتنا، ونسمو بها حتى نسمو نحن الآخرين فتسمو الدنيا كلها بنا.

وقف الأواني

وهذا الوقف أيضًا من نوادر الأوقاف وفرائدها. يقول “ابن بطوطة” في رحلته: “مررت يومًا ببعض أزقة “دمشق”، فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني -وهم يسمونها الصحن- فتكسرت واجتمع عليه الناس. فقال له بعضهم: اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني. فجمعها وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياها فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن. وهذا من أحسن الأعمال؛ فإن سيد الغلام لابد أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره، وهو أيضًا يكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب. جزى الله خيرًا من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا”.

الوقف على من يقرأ القرآن عن الميت عند قبره

فقد وقف أحد الملوك -رغبة في الثواب الدائم- أوقافًا عظيمة على من يقرؤون سبع القرآن كل يوم عند قبره. ووقف أحد ذوي اليسار وقفًا على من لا يحفظ ويقرأ من سورة الكوثر إلى الخاتمة عند قبره.

الوقف على إعارة الحلي

انتشر هذا الوقف في معظم البلاد الإسلامية، وأم المؤمنين حفصة (ت 45هـ) رضي الله عنها، هي أول من وقف مثل هذا الوقف. فقد ابتاعت حليًّا بعشرين ألفًا ووقفته على نساء آل الخطاب. وبهذا الوقف يظهر الفقراء في أعراسهم في صورة الأغنياء الذين لا ينقصهم شيء مما يحتاجه العرس.

وقف الضيفان

يقول “محمد كرد علي” (ت 1372هـ): إن أول من اتخذ دارًا للضيافة “الوليد بن عبد الملك”، ثم انتشرت بعد ذلك دور الضيافة في أرجاء الدولة الإسلامية، حتى كانت بعض المدن ملأى بدور الضيافة. فقد ذكر “ابن كثير” أن الخليفة العباسي “المستنصر بالله” أنشأ بكل محلة من محال “بغداد” دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان.

وبنى “مظفر الدين كوكبوري” دارًا للضيافة في “إربل”، وفتح أبوابها لكل وافد إلى “إربل” ولكل عابر سبيل يقيم فيها ما شاء له أن يقيم، يتناول فيها طعامه وشرابه بلا مقابل، حتى كان عصره أبهى عصور مدينة “إربل” وأزهاها. وألحق “مظفر الدين” بالدار المطابخ لإعداد الأطعمة والأشربة للضيوف، وخصص للدار مائة ألف دينار سنويًّا تنفق لهذا الغرض. فكان كل وافد يقيم في الدار ما شاء له أن يقيم، فكان يجد الأمن والطمأنينة على نفسه وماله. ولم يكتف “مظفر الدين” بهذا، وإنما كان يدفع لكل ضيف فقير يعزم على مغادرة “إربل” نفقة لسفره، كل حسب احتياجاته، وكان -رحمه الله- ينفق كل عام عشرة آلاف دينار على السبيل.