أثر الخمول والاندفان على تألق اللؤلؤ والمرجان

يُعد اللؤلؤ والمرجان من أنفس الحُلي والمجوهرات التي عظمها الإنسان. بل وذكرها الله تعالى في كتابه العزيز، واصفًا بها محاسن الجنان. فهذه النفائس التي نالت قيمتها العالية من ندرتها وجمال منظرها تُستخرج من أعماق البحر، حيث تتكون في ظروف جِدُّ دقيقة وتحت شروط بالغة التعقيد. فهي تنتج عن تكثفات معدنية من أصول حيوانية، تتصلب فيها المكونات الكيميائية بفعل تماسك جزيئات معدنية، ناتجة عن تفاعل كلي لا يتم إلا إذا توفرت شروط فيزيائية وكيميائية وحيوانية ترتبط أساسًا بالاستقرار الطبيعي للوسط البحري الذي تتكون فيه.

فاللؤلؤ لكي ينشأ في الصدف البحري، يجب أن يتبلور انطلاقًا من أكسيد كربون الكالسيوم الذي يفرزه المحار حول حبة دخيلة عليه يعزلها في زاوية بين صدفتيه. ونحن نعرف أن هذا الصدف، لا يمكن له أن يستقر في قاع البحر إلا إذا وجد مستندًا ثابتًا يرتكز عليه كسطح صلب أو دعامة راسية يتعلق بها، ولا يمكنه أن يثبت على الأتربة المتحركة كالطين أو الرمل. وهكذا فاللؤلؤة هي حبة تتبلور دفينة في الصدفة الثابتة، حيث تتحول بفعل التأثيرات الكيميائية والحيوانية القارة، لتصير جوهرة نفيسة متلألئة.

أما المرجان فهو هيكل حيواني، لا ينمو دفينًا في جسم آخر، ولكن على سطح حجري تماسك بفعل تكثفات عضوية لحيوانات عاشت دفينة فيه ثم ماتت وأقبرت فيه. فهو أيضًا إفراز معدني من أصل حيواني، يحصل في قاع البحر تحت ظروف قارة، ينتج عنها تكوّن المرجان في شكل شعب رصيفية تزدهر في البحار الدافئة والهادئة، مشكّلة بذلك حواجز ساحلية في المياه الضحلة، أو جزرًا مرتفعة في البحار العميقة. وتتم العملية وفق تسلسل مرحلي يضمن تهيؤ الأرضية الصالحة لنموِّ واستقرارِ الكائنات، حتى يتسنى إقامة النصب المرجاني. وهذه المراحل تبدأ بعملية تثبيت القاع عن طريق تماسك حباته بواسطة إفرازات كائنات مختلفة تعيش دفينة بين هذه الحبات فتساهم خلال حياتها -وكذلك بعد موتها- في مسك المكونات الرسوبية لقاع البحر. وبالتحام هذه التوضعات، تتصلب الأرضية وتصير صالحة لتثبيت جذور الباقات المرجانية التي ستنمو عليها. ثم تأتي مرحلة التألق التي تنتهي في أزهى حللها بنصب مرجاني على سطح متراص هيأه تواجد الكائنات الدفينة فيه، التي لمّت شتات رواسبه وأدمجتها لإقامة البناء.

وهكذا، فهذان العنصران -اللؤلؤ والمرجان- لا يمكن لهما أن ينموا في الأوساط البحرية المضطربة بفعل التأثيرات الخارجية التي تؤجج التيارات وتحدث التغيرات، لأنهما يتطلبان درجة عالية من الاستقرار في مكونات الوسط البحري حتى يتواجدا فيه. أما تلك الأوساط البحرية غير المستقرة التي تشهد كثرة التغيرات في عواملها الفيزيائية والكيميائية، كالمناطق الساحلية التي تلتقي فيها البحار مع الأنهار أو مع المؤثرات القارية الأخرى، فلا تجد فيها سوى الكائنات الدفينة التي تعيش داخل مسالك، تحفرها في عمق الرواسب حتى تحتمي من الاضطرابات التي تفد على وسطها من هنا وهناك.

وهذا ما عاينتُه عن قرب في إحدى بيئات المروج التي تلتقي فيها مياه البحر المالحة مع مياه البر العذبة، حيث لاحظتُ أن عيش الاندفان (Endobenthique) يكاد يكون هناك هو السائد(1). فلجوء الكائن إلى دفن ذاته، يصير إلزاميًّا في مثل هذه الأوساط، حتى يمكن له أن يضمن استقراره. ولعل هذا النمط من العيش، هو ما يمكّن الكائنات من التأقلم أكثر مع التغيرات التي تطبع هذه الأماكن المضطربة من جراء خضوعها لتأثيرات البحر والبر. فهناك تتداخل التأثيرات البحرية مع البرية، فتعطي تقلبات ينجم عنها اضطرابات في مكونات ذلك الوسط. الشيء الذي ينعكس سلبًا على استقرار كائناته الحية التي باندفانها في عمق الرواسب، تحمي نفسها من التيارات المائية التي يمكن أن تقتلعها، كما أنها تحتفظ بدرجة ملوحة قارة وكذلك بحرارة متوسطة. وهذا هو السر في لجوء الكائنات -في مثل هذه البيئات الصعبة- إلى دفن ذاتها. والسر كذلك في انعدام أي شكل من أشكال التألق للكائنات التي من شأنها أن تنتصب فوق سطح الثرى.

وعلى هذا الأساس، فالأوساط التي تطبع خصائصَها التقلبات، لا يمكن لها أن تحتضن اللؤلؤ والمرجان، بل ونجد المرجان -حتى في الظروف الملائمة- يتخذ تأقلمات تضمن له حماية أكثر ضد أي طارئ محتمل. وهذا ما أدركتُه في مجال دراسة ميدانية قمت بها لمرجان رصيفي متحجر في إطار إعادة تقويم الحالة التي كانت عليها بيئة سفوح الريف الجنوبية بالمغرب، خلال العصر الجوراسي الأوسط (أي قبل حوالي 125 مليون سنة)(2). ففي هذه المعاينة، وجدتُ أن الرصيف المرجاني تكوّن من شعبة مرجانية مركزية، مؤلفة من باقات كثيفة وباسقة كانت محاطة بأنواع مرجانية مصفحة (Lamellaires Polypiers) في شكل حزام واقٍ يلتف حول الشعبة المركزية.

وهذا دَلّني لمّا تعرفتُ على خصائص كل جزء من هذا الرصيف، على أن البناء المرجاني ابتدأ بإقامة نصب مركزي نمت فيه الأغصان في تشعبات باسقة. إلا أن تكاثر هذه الأغصان حتّم على الحيز المرجاني تكوين سياج وقائي لحجب الكتلة المركزية عن التيارات المائية الجانبية، وعن التدفقات الرسوبية التي من شأنها أن تكسر الأغصان وتطمر الأجسام المرجانية. وهكذا، باصطدامها مع هذه الأنواع المصفحة من المرجان، التي تتكاثر على الجوانب، تتكسر التدفقات الإعصارية وتفقد قوتها فلا تؤذي الباقات المركزية.

بالإضافة إلى هذه الأصناف من المجوهرات، نجد أن الماس الذي هو أنفَسها، هو أيضًا تركيبة معدنية من ذرات الكربون، لا يتكون إلا إذا تمت عملية اندماج ذراته تحت ضغط عالٍ يصل إلى 50 كيلوبار، أي ما يعادل خمسين ألف مرة الضغط الموجود على سطح الأرض. وهذا الضغط الشديد، لا يتوفر إلا في أعماق الأرض تحت 120 إلى 150 كلم من السطح، مما يعني أن الماس بدوره لكي يتكون في المناجم، يجب أن تتبلور ذراته دفينة تحت كل هذا السمك الهائل من الصخور، وهو ما يفسر كون الماس غالبًا ما يستخرج من أنقاض القارات المتقادمة (Cratons) التي تكونت في هذه الأعماق من الأرض، ثم برزت مع الزمان على ظهرها بفعل عمليات التعرية.

وهكذا، فما استقيتُه من دلالات هذه الأنماط المعيشية للكائنات الطبيعية، إنما ينبع من محاولتي تقريبَ القارئ من حقيقة النموذج المثالي الذي أقره الله تعالى على هذه البسيطة، حتى يضمن استقرار كائناتها وحسن نتاجها. فلئن كان اللؤلؤ ينمو مختبئًا داخل صدف المحار في معزل عن متغيرات المكان، والمرجان يتكاثر وينبسط باسقًا على سطح متراص هيأت أرضيتَه الكائنات الدفينة التي شدّت بنيانه حتى ينتصب عليه المرجان، ثم يُلف في وسط سياجه الواقي من كل مؤثرات المكان، وكان الماس لا ينضج إلا دفينًا في أعماق الأرض، فلأن مرحلة التألق والازدهار لا بد أن تسبقها مرحلة التأسيس والاستقرار.

وهذا هو شأن كل كائن حي موجود على ظهر هذه البسيطة، من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، لا بد لكي تتألق معالمه، من أن يمر بمرحلة الاندفان، التي فيها تتم عملية التأسيس لبناء الذات. وذلك مفهوم البنيان الحضاري، فهو متماسك بعمل أفراده كما تماسك الثرى بفعل إفرازات ساكنته الدفينة فيه، التي -كما رأينا- هيأته لصالح الإنبات. فإذا توقفت حياة الإنسان، بقيت أعماله الصالحة حية يُنتفع بها، تمامًا كما كان يُرجى نفعها لغيره في حياته. فهي بمثابة ذلك البناء الذي شيّدته تلك الكائنات التي دفنت نفسها في أرض الخمول، ليقوم على أنقاضها صرح التألق والقبول. وكما أن صاحب تلك الأعمال يبقى مُثابًا عليها ما دام نفعها ساريًا على غرار الصرح المشيد الذي يبقى قائم البنيان، فكذلك غيره ممن سيأتي بعده، يظل منتفعًا بها معترفًا بفضل من سَنَّها، فيستقي منها ويدعو لصاحبها.

وذلك مدلول صيرورة الأعمال في البناء الحضاري. فهي كالبذرة الطيبة التي دُفنت في التربة الطيبة، عطاؤها لا يبلى ونتاجها لا يفنى، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها الذي بارك في غرسها بأن جعله ثابتًا في الأرض، وفي ينعها بأن جعله باسقًا في السماء.

هذه الاستنتاجات التي استخلصتُها من المعاينات الطبيعية، وجدتُها تلاقت من زوايا كثيرة مع العرض القيم للأستاذ نوزاد صواش عن سر تجربة الأستاذ فتح الله كولن، الذي قدمه تحت عنوان “المعرفة وسر الأمواج الصاعدة من القاع في التغيير الحضاري”؛ حيث بيّن بنعومة أسلوبه، كيف ركزت تجربة الخدمة على محور العمل التربوي في صناعة إنسان القيم، والانفتاح والتسامح الذي هو أساس البناء الحضاري.. وكيف أن التغيير لا يأتي إلا من العمق الداخلي لهذا الإنسان، كشأن البحر لا يتغير إلا بالتيارات الصاعدة من عمقه، أما التيارات والأمواج السطحية الآتية من هنا وهناك فلا تُغيِّر، لأنها من صناعة الرياح التي تهب من كل مكان. فكان ذلك التلاقي مكمّلاً للمشهد الذي أردنا تجسيده بخصوص ما يجب أن يكون عليه الإنسان المؤسس للبناء الحضاري.

وهذه نظرة عميقة لسر التغيير، أراها تتلاقى مع ما سبق أن قدمناه بخصوص مضمون حكمة ابن عطاء الله، حيث: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11). فإذا لم ينطلق التغيير من الكيان الداخلي للإنسان الذي هو قلبه، واعتمد فقط على ما يأتي من الخارج، فسيجد الإنسان نفسه في مهب الرياح التي ستجعله يدور في فلك غيره، فيهيم بذلك في متاهاتٍ تُبعِّده عن النظام العام الذي أقره الله تعالى لهذا الكون، والذي يقول في حقه سبحانه: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(يس:40). فلا الشمس ينبغي لها أن تسبح في فلك الأرض، ولا الأرض في فلك القمر، بل لكلٍّ فلكٌ يجب أن لا يحيد عنه. فإذا سبح الإنسان في فلك غيره، فإنه لن يدور أبدًا في فلكه، وبالتالي كل ما سيظهر عليه إنما هو من تجليات غيره وليس من عمق كيانه، لأنه كما أجمل ذلك العارف بالله أحمد بن عجيبة رحمه الله: لكلٍّ قيض الله كنزًا “لكن ما دُمتَ مُتّكلاً على الحفر في كنز غيرك، فلن تحفر أبدًا على كنزك”(3). ومن ثم لا يمكن لأمة أن تبني حضارتها على نماذج مستوردة لا يعبر فيها الإنسان عن عمق ذاته تمامًا، كما لا يمكن للبحر أن يُعطي الحياة من الأمواج السطحية، لأنها لا تحمل إلا الزبد الغثاء الذي تحركه الرياح الآتية من كل جهة كما قال ربنا سبحانه وتعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً)(الرعد:17). أما التغير الصحيح النافع الذي هو أساس البناء الحضاري، فلا تأتي به إلا أمواج القاع التي تُصعِّد معادن الحياة الراكدة في عمق البحر، كما نجد الإشارة إلى ذلك واردة في قوله تعالى في نفس الآية: (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)(الرعد:17)؛ تلك الأرض التي إن خَمُلت فلأجل أن يمكُث فيها هذا الذي ينفع الناس، حتى إذا نبتت من معدنها تلك النبتة الصالحة، تبلورت ونمت فكان عطاؤها طيبًا. فإذا تحققَت هذه الرؤية وتمّت على أرض الواقع، فلا بد للبناء أن يقوم من تلقاء نفسه فتحًا من الله ونصرًا من عنده. وصدق الله العظيم حيث قال: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(الصف:13).

 

(*) كلية العلوم، جامعة ابن طفيل / المغرب.

الهوامش

(1) مرج المياه بين الكشف العلمي والوصف القرآني، د. عبد الإله بن مصباح (2006)، مجلة الفرقان، الأردن، العدد:55، ص:12-15.

(2) Benmesbah A., Barattolo F., Mancinelli A., Romano R., Vecchio E., & Mehdi M. (2003) – A Propos des Formations Subrécifales Jurassiques des Rides Sud-Rifaines (Maroc). Workshop on the Late Triasic-Early Jurassic Events in the Framework of the Pangea Preak-Up. Capri 30 Septembre -1 Octobre 2003, p: 17.

(3) إبعاد الغمم عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم، لأحمد بن عجيبة الحسني (ت 1266هـ)، بيروت، دار الكتب العلمية 2009، ص:77.